هل انتصرت غزة حقا!؟

Cover Image for هل انتصرت غزة حقا!؟
نشر بتاريخ

الناس يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم. ولكن صور النصر شتى. وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة. سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟

أصحاب الأخدود لما غُلبوا على أمرهم واعتقلوا وسيقوا إلى الأخدود المؤجج بالنار، وقُذفوا فيه واحترقوا جميعا حتى الطفل الرضيع الذي أنطقه الله فقال لأمه: اصبري يا أماه فإنك على حق، ثم بيّن الله تعالى مكافأة المؤمنين الصامدين على إيمانهم الصابرين على هذا التعذيب والقتل إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير وبيّن عاقبة أعدائهم فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق أكان هذا موقف نصر أم موقف هزيمة؟

والحسين رضوان الله عليه وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟

في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه. يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين. من المسلمين. وكثير من غير المسلمين!

ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور. ومن القيم. قبل أن نسأل: هل انتصرت غزة أم لم تنتصر!

بدأت الحرب على غزة فعلياً يوم 8 يوليوز 2014 وأطلق عليها الصهاينة عملية الجرف الصامد، وحددوا لها ثلاثة أهداف معلنة من قبل النتن ياهو حينما قال: سياستنا واضحة ومتسقة: نحن نرد بقوة لمنع إطلاق الصواريخ، بدأنا هذه الحملة العسكرية من أجل تعزيز أمن المواطنين عامة وأمنكم خاصة)، مضيفا لن ننهي عملية الجرف الصامد قبل تحقيق أهدافها: استعادة الهدوء والأمان للمواطنين الإسرائيليين لفترة مطولة مع إلحاق ضرر ملموس للبنية التحتية للإرهاب). وكان هناك هدف غير معلن ألا وهو إفشال المصالحة الفلسطينية وعدم الاعتراف بحكومة التوافق.

فقررت الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية بكل توجهاتها الإسلامية مثل كتائب عز الدين القسام و سرايا القدس، والفتحاوية مثل كتائب شهداء الأقصى، واليسارية مثل كتائب أبو علي، وغيرها كثير، التصدي، وانتهت الحرب بصمود في وجه عدوان همجي شكلا، صهيوني تنفيذا، إمبريالي تغطية، رجعي تمويلا، وبعد 51 يوما من صمود شعب أعزل وثبات مقاومة باسلة، وفريق مفاوض يمثل جميع الفصائل يستثمر إنجازات المقاومة، توقف القتال وإطلاق النار وانسحب الجيش الإسرائيلي وفق اتفاق للهدنة يقضي برفع الحصار وفتح المعابر وإعمار غزة، مع إرجاء الحسم في مسألة تحرير الأسرى وقضيتي الميناء والمطار لمدة شهر في إطار مفاوضات غير مباشرة وبضمانة مصرية.

فقامت الدنيا ولم تقعد لدى بعض الكتاب في الصحف العربية، والنشطاء في المواقع الالكترونية وانقسم الناس والكتاب فريقين لا ثالث لهم:

فريق ناصر ويناصر المقاومة لدواع إيمانية ووطنية وهم غالبية الشعوب العربية وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني عموما والغزي خصوصا، أو لدواع إنسانية وحقوقية مثل ذوو النخوة العربية والروح الإنسانية من أحرار العالم غير المسلم، ويتبنى هؤلاء تقييم المقاومة القاضي بأن النتيجة كانت هزيمة للصهاينة ونصراً لغزة بقيادة مقاومتها الباسلة بكل فصائلها، عبر عن ذلك في المؤتمرات الصحفية، ومهرجانات الفرح الشعبية، واستدلوا على ذلك بنجاحات مبهرة حققتها المقاومة نجملها في هذه الخماسية:

أولا: مكتسبات عامة تمثلت في الصمود الأسطوري الباسل لسكان قطاع غزة في وجه آلة التقتيل الصهيوني، والوحدة العسكرية الميدانية لفصائل المقاومة بعيدا عن الانتماءات السياسية الضيقة والاعتبارات الإيديولوجية المفرقة، واختراق الانحياز المفضوح للمنتظم الدولي للكيان الصهيوني بكسب مناصرة دول أمريكا اللاتينية وبعض الدول الأوروبية والأوساط الأمريكية،كما تجلى ذلك في كشف حقيقة بعض الأنظمة العربية التي انتقلت من التخاذل والصمت العاجز إلى التواطؤ مع الصهاينة الناجز بتوظيف ديدان القراء حينا والنخبة المتصهينة حينا آخر، والحريصين على العروش والكراسي المهترئة أحايين أخرى، مع استمرار التلاحم الشعبي العربي والإسلامي والإنساني مع معاناة الشعب الفلسطيني الجريح بقيادة قواه الحية الرافضة للظلم سواء كانت يسارية أو ليبرالية أو قومية أو إسلامية.

ثانيا: مكاسب عسكرية ميدانية تمثلت في ضرب العمق الفلسطيني المحتل فالصواريخ وصل مداها لتل أبيب والقدس وحيفا ومطار بن غوريون ومحطة الديمونة… وتهجير آلاف المستوطنين من جنوب الكيان الغاصب الذين أرغموا على ترك المستوطنات خوفا على حياتهم، وإرغام الملايين على دخول الملاجئ، وقتل 70جندي حسب الإحصاءات الصهيونية، و162 حسب الإحصاءات الفلسطينية منهم 6 “مدنيين” وأسر جندي صهيوني، وجرح الآلاف منهم، مما يعني أن بنك معلومات المقاومة كان قاصدا، وإطلاق ما يناهز 4623 قذيفة صاروخية، وتعطيل منظومات العدو البحرية والجوية والبرية كل ذلك بقدرات وتسليح محلي.

ثالثا: مكاسب استراتيجية تمثلت في صناعة عسكرية رغم الحصار، إذ تمكنت المقاومة من تطوير عدة صواريخ يصل مدى بعضها إلى 160 كم،كما صنعت المقاومة طائرة استطلاع بدون طيار حملت اسم أبابيل وهي من ثلاثة نماذج استطلاعية/هجومية/انتحارية، كما صنع مهندسو المقاومة بندقية القنص غول وهي من عيار 14.5، وغيرها من الصناعات التي لم يكشف عنها، وبناء منظومة الأنفاق الهجومية والدفاعية مما جعل المقاومة تحقق نتائج مبهرة.

رابعا: مكاسب استخبارتية تمثلت في نجاح المقاومة في اختراق بث القناة الثانية للتلفزة الصهيونية، وهي من أهم القنوات الصهيونية واسعة الانتشار، وتمكنها من اختراق البريد الإلكتروني لنحو مليون شخص في الكيان الصهيوني، وإرسال رسالة نصية لكافة شركات الطيران العالمية التي تسير رحلاتها إلى الكيان الصهيوني، وتحديدا إلى مطار بن جوريون، حذرت فيها هذه الشركات من خطر الإقلاع والهبوط والسفر عبر هذا المطار لأنه بات من بنك أهداف القسام رداً على العدوان الإرهابي للمحتل الصهيوني، كما نجحت المقاومة في اختراق هواتف الجوال لعدد كبير من جنود العدو على حدود قطاع غزة، والجمهور الصهيوني عامة،و كشفت شبكة العملاء والمتعاونين مع الصهاينة.

خامسا: مكاسب سياسية تمثلت في تحقيق الهدف الذي رفعته المقاومة بعد أن أرغمت على الحرب وصمدت في وجه العدوان ألا وهو رفع الحصار على القطاع وفتح المعابر، وأنجحت المصالحة الداخلية وفرضت العزلة الدولية على الكيان الصهيوني وأعيد الأمل للفلسطينيين في تحرير الأقصى بكسر أسطورة الجيش الذي لا يقهر.

وفريق يغلب عليه استحضار الحسابات السياسية والاعتبارات الايدولوجية، والحقد الدفين على المقاتلين من أهل فلسطين، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، ويجمع بين أفراد هذا الفريق أنهم يتبنون الطرح الصهيوني أو يتقاطعون معه على الأقل حين يزعمون أن المقاومة لم تنتصر بل هزمت عسكريا بتدمير بنيتها التحتية، واستهداف قادتها، والإجهاز على منظومة الأنفاق، وتدمير قدراتها الصاروخية، وهزمت سياسيا بعدم الاستجابة لشروطها التي علقت من قبيل تحرير الأسرى، مدعيا أن المقاومة اتخذت الشعب الفلسطيني رهينة لتحقيق نصر موهوم على حساب ما يقرب من 3000 شهيد و10000 جريح 70% منهم أطفال ونساء وشيوخ، وتدمير بناهم التحتية من مدارس ومساجد وطرق… أو يزعمون أن لا غالب ولا مغلوب، وهذا الرأي تبنته السلطة الفلسطينية من خلال تصريحات محمود عباس الذي ركز على الهدنة وشكر الوسطاء وبلع لسانه عن الإشادة بالمقاومة، ودافع هؤلاء هو حسابات سياسية وانتخابية ضيقة.

لقد وقف أنصار الفريق الثاني بعيدين عن مشاركة إخوانهم في الوطن واللغة والدين والمصيبة، يسفـّهون ما يقوله السابقون من نصر أحرزوه، بل حملوا إخوانهم دماء الشهداء والجرحى وأهات المنكوبين.

وللحسم في هذا الاختلاف وترجيح الرأي الصائب نعتمد القواعد العلمية لتدبير الاختلاف بدون تخوين ولا اتهام للنوايا ولا بحث عن الخبايا، ونذكـّر أن “إسرائيل” هي التي شنت هذه الحرب الهوجاء على قطاع غزة، بعد سنوات وأشهر من الاحتلال، والحصار المقنن الذي يشد فيه أزرها آخرون بحجج واهية، إذ تحت ذريعة الثأر للمستوطنين الثلاثة أطلق الصهاينة موجة عنف تفجرت مع خطف وتعذيب وحرق الطفل محمد أبو خضير على أيدي مجموعة مستوطنين في 2 يوليوز 2014، واعتقلوا العشرات من محرري صفقة شاليط، أعقب كل ذلك احتجاجات واسعة في القدس وداخل عرب 48 وكذلك مناطق الضفة الغربية، واشتدت وثيرتها بعد أن دهس إسرائيلي اثنين من العمال العرب قرب حيفا، بعد ذلك فقط ردت المقاومة الفلسطينية بإطلاق الصواريخ، فاستعمل الصهاينة ذلك ذريعة للعدوان موظفين قوة عسكرية ضخمة تتمثل بمئات الطائرات والدبابات والمدافع والصواريخ وآلاف الغارات الجوية وآلاف الأطنان من القذائف، وآلاف الجنود المحمولين في الناقلات والمدججين بأحدث الأسلحة وأفتكها في مواجهة شعب أعزل واستهدفوا المدنيين بخلاف المقاومة التي استهدفت العسكريين.

وقد حدد الصهاينة لحربهم هذه أهدافاً رئيسية أشرنا إليها سابقا، أما أهداف المقاومة فكانت الصمود في وجه العدوان ورفع الحصار.

وأخيراً، وبعد 51 يوما انتهت الحرب، ووقعت الهدنة مع الاستجابة لمطلب رفع الحصار بشكل عام والاختلاف في بعض التفاصيل!

أمَا وقد حدث ذلك فلا بد أن يكون أحد الطرفين المتقاتلين قد حقق أهدافه، فيحق له أن يدّعي أنه انتصر.

فهل حققت “إسرائيل” أهدافها التي أعلنتها والتي أضمرتها؟

هل قضت على حركة المقاومة الإسلامية حماس؟ أو غيرها من كتائب الفصائل؟

هل دمرت الصواريخ (العبثية) أو منعت إطلاقها؟

فإذا كانت الإجابات عن كل هذه الأسئلة بالنفي، فهل يسوغ لـ”إسرائيل” أن تدّعيَ أنها انتصرت لأن خسائرها البشرية قليلة!

وهل توقفت المقاومة عن إطلاق الصواريخ على العمق الصهيوني قبيل التهدئة؟ معدل إطلاق الصواريخ استمر بمعدل 100 صاروخ يوميا).

هل نسفت جميع أنفاق المقاومة كما زعمت القيادة الصهيونية؟ المقاومة بعد الهدنة فتحت لبعض الفضائيات تصوير الأنفاق التي زعم نسفها).

هل عاد المستوطنون لمنازلهم بعد الهدنة؟ هل استهدفت المقاومة مدنيين؟ هل بُرّئت ساحة الصهاينة دوليا؟ هل استسلم أغلبية العدو من الانفراط؟

فإذا كانت الإجابة عن هؤلاء بالنفي أيضاً أفلا يحق للمراقبين أن يقولوا: لقد انهزمت “إسرائيل” إذ لم تحقق أي هدف من أهدافها؟! إلا الجثث!؟

وإذا ساغ لها ذلك فهل يليق بالممسكين بالأقلام والقابضين على وسائل الإعلام أن يُضفوا على الجيش الإسرائيلي بعد عجزه صفةَ الانتصار؟

وإذا عرفنا إجابات هذه الأسئلة الصادقة التي يؤكدها الواقع أفلا يحق لنا نحن الداعمين والمتعاطفين والمتظاهرين في مدن العالم العربي والإسلامي وأحرار العالم الغربي… أفلا يحق لنا جميعاً أن نقول من أعماق قلوبنا وبملء أفواهنا: لقد انتصرت غزة، لقد انتصرت المقاومة!!