نظمت الهيئة العامة للعمل النسائي لجماعة العدل والإحسان أمس الأحد 21 شتنبر 2025، حفلا لتوقيع كتاب “سؤال العدالة الاجتماعية في الفكر الإسلامي المعاصر.. قضية الفقر نموذجا” لكاتبته الأستاذة حبيبة حمداوي رحمها الله تعالى في الذكرى الأولى لالتحاقها بالرفيق الأعلى، حضرته عائلة الفقيدة ومحبيها وعدد من قيادات الجماعة ومثقفين ومفكرين.
ويمثل الكتاب، الذي عملت الهيئة بالتعاون مع الأسرة الكريمة على إخراجه للوجود، ثمرة بحث الأستاذة حبيبة حمداوي الذي نالت به دبلوم “الماستر” في آخر حياتها.

واعتبرت الأستاذة نادية بلغازي، خليفة الفقيدة في أمانة الهيئة، الحفل، الذي أدارته الدكتورة كريمة البعوني، مناسبة “تجتمع فيها الأجساد وتتشابك الأرواح وتختلط فيها المشاعر بين لوعة الفقد وبهجة الوفاء” لتكريم “فقيدتنا الغالية الأستاذة الكبيرة لالة حبيبة حمداوي رحمها الله تعالى”، “ولنحتفي بتوقيع كتابها الذي تركته لنا أثرا باقيا وعلما نافعا”.
بلغازي، التي ألقت كلمة افتتاحية نيابة عن الهيئة، أكدت أن الكتاب لم يكن “مجرد صفحات تكتب وتطوى، بل كان امتداداً لرحلة عطائها رحمها الله تعالى الطويل في الدعوة إلى الله، وفي تعليم المرأة وتوجيهها، وفي رعاية الأسرة وخدمة المجتمع. إنه شهادة حياة ناطقة، ورسالة حب وعلم ومعرفة، تسعى لتأسيس وعي جديد يُعيد للإنسان كرامته التي أكرمه الله بها، ويدا ممدودة لخدمة الإنسان واحتوائه والإسهام في معالجة أدوائه”.
الدكتورة أنيسة كركاري، أثنت، أثناء تقديمها للكتاب، على مؤلفته الأستاذة حبيبة حمداوي، التي كانت “مثالا للمؤمنة التقية النقية. هي الأليفةُ المألوفة والمحبة العطوفة، اتصفت بالحكمة والتواضع والحِلم والأناة، كما عرفت بالصلابة في الحق، مع لباقة الحديث ولين العريكة، ترشد بمحبة كما تبين بحجة”. وساقت عبارة من الكتاب توضح الحافز لاختيار الموضوع: “ليست العدالةُ الاجتماعية ترفًا فكريًّا، بل هي ضرورةٌ إيمانيةٌ واجتماعيةٌ، وسؤالٌ ملحّ يَطرُق ضمير الأمة ويستفز ضمير الإنسان”، وتجلي “الرؤية العميقة” للباحثة التي “دفعتها لتحفر في أعماق واحدةٍ من أشد قضايا الإنسان المعاصر إيلامًا: قضيةُ الفقر”.

وأوضحت كركاري، الحاصلة على دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن، أن الكتاب الذي صدرت منه الطبعة الأولى، عن إفريقيا الشرق للنشر والتوزيع، سنة 1446 الموافق لـ2025م، ويقع في 180صفحة من الحجم المتوسط، هو “دراسة بينية ينتمي إلى حقل الفكر الإسلامي المعاصر، ويستند إلى الأدوات التحليلية للعلوم الشرعية (الاقتصاد الإسلامي والسياسة الشرعية) لمعالجة قضية اجتماعية-اقتصادية معاصرة (العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر)، وبحضور حوارٍ نقدي مع الفلسفات والنُظُم الغربية”. أما لغةُ الكتاب “فجاءت واضحةً ومباشرةً تخلو من التكلف والتقعر والتعقيد غيِر الضروري، جمعت بين الرصانة الأكاديميَّة وحُسنِ السبك، مع نبرة نقدية تجاه الواقع المعاصر، لغةٌ غنية بالمصطلحات والمفاهيم التي تخدم أطروحة الكتاب”. وفيما يخص المحتوى فقد “جاء الكتاب شارحا ومبينا، ومتمما لدراسات سابقة، مقترحا لنموذج تنمويٍ يعتمد على رؤية إسلامية متكاملة، مُنطلقها الكرامة الإنسانية والعدالة الشاملة”.
وبسطت كركاري خلال تقديمها، تعريفا عاما للكتاب ومحتوياته، جاء كالتالي:
– مقدمة “مرتبة ومتقنة أودعت فيها المؤلفةُ غاياتهٍا من الكتاب”.
– الفصل الأول: إشكالية تنامي ظاهرة الفقر في العالم، “تعرضت فيه لمفهوم الفقر وآثارِه، ثم أسبابِه، وساقت المغربَ نموذجا للدراسة”.
– الفصلُ الثاني: المشاريع التنموية بين المقاربة الوضعية والمقاربة الإسلامية، “تناولت فيه المقاربةَ الوضعية للتنمية، ثم أسسَ ومبادئ المقاربة الإسلامية للتنمية، يليها مقترحاتٍ حول المشاريع المعتمدة في التشريع الإسلامي لتحقيق التنمية ومكافحة الفقر في دعوة ملحة إلى إحياء النموذج الإسلامي للعدالة الاجتماعية”.
كما تطرقت لجوانب أخرى من مثل: طموح الكتاب، وأطروحته، وجديده، وتوصياته، ننشرها -فيما بعد- كاملة في مادة مستقلة للقارئ المهتم.

بعدها قدمت كلمة عن بعد للدكتور عبد الصمد الرضى، أستاذ التعليم العالي، نوه فيها بشخص الفقيدة الكريمة حبيبة حمداوي رحمها الله تعالى، وبالحفل الذي وسمه بـ”المجلس المبارك، مجلس الذكرى والتذكر، مجلس الوفاء بمن كان معنا في هذه الدار وانتقل إلى تلك الدار.. مجلس وفاء يذكر قلوبنا وعقولنا وهممنا وإراداتنا، ويصوب أعمالنا، ويوقظ فينا معاني التوبة العظمى بالرجوع إلى الله عز وجل”.
واستحضر الدكتور الرضى نساء غزة الجليلات وهن يقدمن الشهداء تلو الشهداء من أبنائهن وأزواجهن وعوائلهن فيستقبلن ذلك بالرضا والاحتساب، ليقول إن “هذه الروح العزيزة في المرأة المجاهدة هي التي نستشفها من انتقال أختنا حبيبة الحمداوي إلى الدار الآخرة”.
الدكتور الرضى، الذي كان بدوره أحد أعضاء لجنة مناقشة البحث؛ أصْل الكتاب، أسرّ للحضور أنه استشف من المرحومة مجموعة من المعاني بعد تعامله معها عن قرب؛ منها أنها كانت رحمها الله تعالى “نموذجا في الجد والحزم والعزم والإنجاز”؛ دعويا واجتماعيا ووظيفيا وتواصليا.. ابتلاها الله بالمرض، فكانت المحفزة لمن معها من المرضى؛ ذات صدر واسع يمتص حزنهم، وذات إشعاع يبعث إرادة الحياة فيهم.
هذه المعاني، يقول الرضى: “تجلت في مكتوبها الذي يعتبر صدقة جارية إلى يوم الدين، هو ثمرة عمل جاد من بين الألم والمرض، ومن بين المسؤوليات، ليخرج في كتاب ينفع الله الناس به”.
المداخلة الثالثة كانت للدكتور مصطفى الريق، أستاذ التعليم العالي والمشرف على بحث المرحومة، الذي استهل كلامه بالتنويه بالمبادرة، سائلا الله تعالى أن تكون هذه اللحظات لحظات فرح للفقيدة حبيبة، كاشفا عن غبطته بالإشراف على البحث لمعرفته المسبقة بخصال الفقيدة وميزاتها على هذا المستوى؛ جديتها وانضباطها وحرصها وعزيمتها، وأيضا مع ما خصها الله به من قلب كبير وأسرة كريمة؛ حيث البيت المفتوح والقلب المفتوح على الدوام.

ونوه إلى اكتشافه أمورا جديدة، خصوصا أنه عاش لبنات المولود مذ كان فكرة، منها إرادة البحث ودواعيه؛ التي لم تكن لا طمعا في وظيفة أو ترقٍّ أو شفوف على الأقران أو تحسين وضع اجتماعي كما جرت العادة.. لأن كل هذا لم تكن تحتاجه الفقيدة، فكان الدافع الإيماني الإحساني هو منطلق هذا البحث، وهو ما كان المشرف يستشعره خلال مدة عمله معها. وأيضا اختيار الموضوع، الذي كان في البداية: “سؤال العدالة الاجتماعية بين الأنظمة الوضعية والتشريع الإسلامي.. قضية الفقر نموذجا”، وهي قضية عامة “العدالة الاجتماعية” ضمن مقارنة “بين الأنظمة الوضعية والتشريع الإسلامي” تؤخذ منها قضية خاصة هي “قضية الفقر”، فكان رأي المشرف أن الأمر مغامرة بالنسبة لبحث “ماستر” تؤطره مدة معينة، غير أن الفقيدة رحمها الله أصرت على موضوع بحثها فتمت ملاءمته.
ولئن كان الدكتور الريق قد أشرف على بحث الفقيدة حمداوي، إلا أنه اعتبر أنها أشرفت عليه في جانب لا يدرس في الكتب، إذ “لأول مرة في مساري؛ لا كطالب ولا كأستاذ ولا كباحث، أرى أن طالبا أو باحثا يحمل معه الكتب (مصادره ومراجعه) في سيارة الإسعاف” كما كانت تفعل الباحثة لتغتنم فرصة تواجدها في المصحة فلا تضيع شيئا من وقتها، يقول متأثرا، ويشير إلى أنها كانت تتواصل معه في لحظات متقطعة علم فيما بعد أنها كانت تفعل من داخل المصحة حيث كانت تتابع علاجها، في صورة نادرة جدا للاجتهاد والمثابرة اللذين كانت تتميز بهما الفقيدة رحمها الله تعالى.
الأستاذ محمد أوراغ، رفيق درب الفقيدة، بدأ كلمته بالنيابة عن الأسرة الصغيرة في تقديم الشكر الجزيل لأخوات الهيئة العامة للعمل النسائي على تنظيمهن هذا الحفل، وأثنى على اختيارهن اليوم الذي يوافق الذكرى الأولى لوفاة حبيبة حمداوي رحمها الله؛ “فاجتمع الأمران: الذكرى وتوقيع الكتاب”، فكان الاجتماع “لا لاستحضار ألم الفقد والفراق، مع أنه حاضر، ولكن للتأكيد على أن العطاء لا يموت، وأن ما غرسته حبيبة من علم وعمل وجهد وجهاد حي بيننا، وسيبقى إن شاء الله”.
وخص المتحدث بالشكر أيضا كل من ساهم في إخراج الكتاب، وأخبر بأن الفكرة كانت تراود العائلة مذ كانت الفقيدة على قيد الحياة، وتم فعلا الاستعداد للأمر، لولا أن جاء المرض ثم الرحيل فجأة، حتى عاود الدكتور عبد الصمد الرضى، وهو أحد أعضاء لجنة مناقشة البحث، طرح الفكرة، التي تم التداول فيها مع الهيئة في شخص أمينتها الجديدة الأستاذة نادية بلغازي، فلقيت ترحيبا خاصا، وتمت مراجعة البحث والتقديم له وطبعه بحمد الله.

ونبه أوراغ إلى كون الكتاب خرج من بين ألم ومعاناة ودم وفرث، فكان الجهد والسهر، خصوصا مع الإثقال بمجموعة من المسؤوليات التي كانت تحاول الفقيدة أن تتقنها؛ مسؤوليات العمل الدعوي، ومسؤوليات الأسرة، ومسؤوليات الوظيفة. شاهدا أن “الكتاب ليس مجرد صفحات من بحث أكاديمي، بل هو شهادة حياة ورسالة بليغة تقول إن طالب العلم لا يوقفه مرض ولا يعيقه سن ولا تثقله مسؤوليات. لقد علمتنا رحمها الله درسا بليغا خالدا في اقتحام العقبات، فالمرض لم يكن عزا عن الطموح بل جسرا إلى التحدي، والمسؤوليات التنظيمية والدعوية لم تكن حائلا بل دافعا للاستمرار والثبات، ولم تكن الوظيفة بدورها وأعبائها هي الأخرى عائقا أمام طموحها ولا مانعا لمواصلة دربها”.
أما فضيلة الأمين العام للجماعة الأستاذ محمد عبادي فقد استهلّ كلمته بحكمة من حكم ابن عطاء الله السكندري: “من أثنى عليك إنما أثنى على فضل الله عليك”، وأوضح أن “هناك من يصنع نفسه بنفسه، وهناك من يصنعه الله برعايته وتوفيقه، ومنهم الأخت الكريمة حبيبة حمداوي رحمها الله، دعوة وبذلا وجهادا وعلما، وقد ختم الله عليها بطلب العلم ونيل الشهادة، نسأل الله أن يكون موتها شهادة إن شاء الله عز وجل”.
وأضاف، في كلمته الختامية، أن الفقيدة انتقلت إلى جوار ربّها، ولكن بالجسد فقط، لكنّ الأعمال باقيةٌ آثارُها؛ فما زالت صلاتُها وصومُها وحضورُها في اللقاءات حيّةً عبر من تربّوا على يدها، يشهد بذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ ينتفعُ به، وولدٍ صالحٍ يدعو له”، “وكم لها من صدقاتٍ وتعليمٍ نافع؟ وهذا الكتاب الذي تركته من العلم النافع”.
واعتبر المتحدث أن من أعظم ما تعانيه البشرية اليوم آفةُ الفقر، وتساءل عن كيفية التصدي لهذه المعضلة، وكيفية تقسيم الأرزاق بالعدل والاستحقاق. مضيفا أنه لا يَحسُن في أمّة الإسلام أن يسعى المرءُ إلى الكماليات وهناك من يفتقر إلى الضروريات. وأكد أن قضية العدالة الاجتماعية في الإسلام قضيّةٌ مصيرية، ومع ذلك لم تأخذ –في كثير من الكتابات– حظّها الوافي. مؤكدا أن المطلوب هو أن ننتقل من حيّز التنظير إلى حيّز التنزيل، فقد «كاد الفقر أن يكون كفرًا»، ولذلك “لا بدّ من استمرار البحث النظري، لكن مع العمل؛ قبل التنظير وأثناءه وبعده، نعيش الفكرة ونُقيم المجتمع الذي نصبو إليه”.

يذكر أن فعاليات الحفل تخللتها قراءة سيميائية لغلاف الكتاب قدمتها الشابة مريم فضل الله، وقراءة شعرية للشاعر الدكتور الصادق الرمبوق قدمتها الشابة شيماء التجاري. واختتمت بفقرة توقيع الكتاب، حيث قام بتوقيع نسخ الحاضرين كل من زوج الفقيدة الأستاذ محمد أوراغ ورفيقة دربها الأستاذة نادية بلغازي.
