موازين القسط يوم القيامة

Cover Image for موازين القسط يوم القيامة
نشر بتاريخ

قال تعالى في محكم تنزيله: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خرذل أتينا بها وكفى بنا حاسبين الأنبياء 45 .
هذه آية من سورة الأنبياء أو سورة الذكر كما أطلق عليها العلماء لحضور كلمة الذكر في مواضع كثيرة منها، توحي بأنها جاءت لتذكير العباد بما يجلب لهم النفع في الدنيا والآخرة، ومن ذلك تذكيرهم بالموقف العظيم أمام ملك الملوك للمقاضاة، وللتأكيد على حقيقة عظمى مفادها أن العبث محال في حق الحكيم الذي أحسن كل شيء خلقه إذ أنه لم يخلق الإنسان سدى، فمن حكمته أن خلق الخلائق ليبلوهم أيهم أحسن عملا، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، كمال العدل الإلهي، فهو الحكم العدل المقسط الذي يقيم الموازين العادلة التي توزن بها أعمال العباد وأقوالهم وأشخاصهم يوم الدين والحساب، بعده الجزاء حيث يضع الله الموازين الحقيقية ذات الكفتين الحسيتين، المعلوم أمرها والمجهول كيفها، ولا يجحد بها إلا مكابر، فيزن السجلات بحيث لا ينقص من إحسان المحسن ولا يزاد في إساءة المسيء، إنما كل أمر بقدر، وإن كان العمل دقيقا وقليلا، وما ذلك إلا لأن محصيها من لا تأخذه سنة ولا نوم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وما تسقط من ورقة في ظلمات البر والبحر إلا ويعلمها.

يقول الشنقيطي في أضواء بيانه أن الله ( يضع الموازين القسط ليوم القيامة، فتوزن أعمالهم وزنا في غاية العدالة والإنصاف: فلا يظلم الله أحدا، وأن عمله من الخير والشر، وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبة من خردل فإن الله يأتي به، لأنه لا يخفى عليه شيء وكفى به جل وعلا حاسبا، لإحاطة علمه بكل شيء) الشنقيطي أضواء البيان المجلدالرابع ص 44 دار الكتب العلمية. 
ويشهد لهذا مجموعة من الآيات التي تدل بظاهرها أن الوزن منه ما يخف ومنه ما يثقل فمن خفت موازينه هلك، ومن ثقلت موازينه نجا كقوله تعالى: والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمونالأعراف 8-7 وقوله تعالى: فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاويةالقارعة6-7-8.
فمن صفة موازين يوم القيامة وميزته أنه في أعلى درجات الدقة والإتقان لا خلل فيه ولا خطأ، فلكل مكلف ميزان توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة بكل عدل وقسط كل امرء وما قدمت يداه، إنه الموقف الذي لا ينفع فيه لا مال ولا بنون، ينسى فيه المرء أهله وأحبابه وينشغل بنتيجته المحددة لسعادته أو شقاوته الأبديتين، فعن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت النار فبكت. فقال رسول الله صلى الله عليه سلم ما يبكيك؟ قلت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما في ثلاث مواطن فلا يذكر أحد أحدا، عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الكتاب حين يقال: هاؤم اقرؤوا كتابيه حتى يعلم أين كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم) رواه أبو داود.

(قال الخازن: والغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان من العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون على أشد الخوف منه) الصابوني صفوة التفاسير تفسير سورة الأنبياء المجلد الثاني دار القرآن الكريم بيروت الطبعة الثانية.
فمعرفة قسط الله تعالى تورث (خوف الظالم من عدله، ورجاء المظلوم لفضله، والتخلق به لمن ابتلي أن يعدل فيما حكم به مساويا بين الفقير الغني والضعيف القوي) العز بن عبد السلام التخلق بصفات الرحمان ص 36. فإذا علم العبد هذا وتيقن منه وعرف أنه لن يترك سدى وأن أعماله محصية في إمام مبين يعرض عليه. حرص كل الحرص على ما به يثقل ميزانه ويجلب سعادته، فيجمع بين الخوف والرجاء ويأخذ حذره ويحتاط ويستعد لئلا تستزله نزواته وشهواته فيغفل عن هذا اليوم الذي وقوعه يقين، وما فيه إلا الجزاء بالقسط والعدل.
ومن فضل الله على عباده ورحمته بهم أن فتح لعباده أبواب الخير الذي يستطيعون من خلالها ترجيح حسناتهم على سيئاتهم فجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وجعل الأجر ثابت بمجرد الهم بالحسنة، وأذن لمن يشاء بشفاعته.
وقد تظاهرت الدلائل على أحسن الحسنات فكان على رأسها كلمة التوحيد، لاإله إلا الله أعلى شعب الإيمان، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئا، أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال لا يارب، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يارب، فيقول بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة فيها، أشهد أن لاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فيقول: أحضرون، فيقول يارب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال:إنك لا تظلم، قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة قال : فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة ولا يثقل شيء بسم الله الرحمان الرحيم رواه الإمام أحمدوصححه الحاكم على شرط مسلم.
وكذا حمد الله والثناء عليه وتعظيمه مما يرجح كفة النجاح فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم متفق عليه.

كما قال عليه أزكى الصلاة والسلام الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان متفق عليه، ومن الأعمال التي تثقل الميزان وترفع يوم القيامة حسن الخلق والمعاشرة الحسنة، قال صلى الله عليه وسلم: ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من حسن الخلق أخرجه أبو داود والترمذي. 
وقال عليه الصلاة والسلام: إن أثقل شيء يوضع في ميزان العبد يوم القيامةخلق حسن وإن الله يبغض الفاحش البديء فاللبيب من يصرف عينه عن كل ما يغضب الله ويجلب سخطه لينال ما وعده الله إياه، فيحكم بالعدل ولو على نفسه والوالدين والأقربين.
هذه هي موازين القسط الإلهي وغيرها مما سمي بالموازين خفت بسخافة أغانيها ورقصاتها وإعلاناتها وتشجيعاتها وأثقلت كفة السيئات وأغرقت مغرب الثقافات في عالم الملوثات متنكرة للقواعد الثابتات (فلتنظر نفس ماقدمت لغد وليصغ قلب إلى النذير وليبادر الغافلون المعرضون المستهزؤون قبل أن يحق النذير في الدنيا أوالآخرة، فإنهم إن نجوا من عذاب الدنيا فهناك عذاب الآخرة التي تعد موازينه فلا تظلم نفس شيئا ولا يهمل مثقال حبة من خردل) سيد قطب تفسير في ظلال القرآن سورة الأنبياء ج4.
فاللهم إنا نعوذ بك أن نظلم أو نظلم ويسر حسابنا وثقل ميزاننا بالحسنات.