جوامع الكلم
تعددت دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها أنه أوتِـيَ جوامعَ الْكَلِمِ، حيث يعبر بألفاظ قليلة علـى معان غزيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة” و“الدين المعاملة” و“إنما الأعمال بالنيات”؛ أحاديثُ علـى إيجازها صُنفت فـي بيان معانيها وسبْـر دلالاتها كتبٌ ومصنفاتٌ. وفـي صحيح البخاري عن أبـي هريرة رضـي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِـرْتُ بالرُّعْبِ، وبيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنـِي أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ فَوُضِعَتْ فـي يَدِي” (الشيخان)؛ خاصية بلاغية وتبليغية كان لها كبير الأثر والتأثير فـي تواصله صلى الله عليه وسلم مع قومه وهم أهل شعر وفصاحة، فالشعْـرُ صنعتُهم أقاموا اهتبالا به المحافل والمواسم.
وصايـا مُعاذيّةٌ
عن أبـي ذَرٍّ جُنْدُب بْنِ جُنَادةَ وأبـي عبْدِ الرَّحْمنِ مُعاذِ بْنِ جَبلٍ رضـيَ اللَّه عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالِقِ الناس بخُلُقٍ حسنٍ” (الترمذي)، وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، حيث اشتملت هذه الوصية الجامعة علـى كل مقتضيات الإيمان: تقوى وتوبة وحسن خلق؛ مقتضيات يروم هذا المقال ملامسة معانيها وقيمتها فـي سلوك العبد إلـى مولاه متشوفا لأعلـى المقامات يوم العرض عليه.
وقبل ذلك وجب التنبيه فـي عجالة إلـى خاصية تركيبية فـي الحديث، حيث جاءت الوصايا فـي صيغة أمْرية من خلال أفعال “الأمر” التـي تفيد الطلب والإلزام أو الوجوب – كما يرى الأصوليون – ما لم تأت قرينة تخصصُه؛ صيغة أمْريّة ترفع منسوب إجرائيته وتحض علـى المسارعة لتنزيله. فهيّا نتفيأ ظلال الشطر الأول من الوصية النبوية لسيدنا معاذ، ولنا من خلاله رضـي الله عنه: “اِتّـقِ الله حيثما كنت”.
يُعتبر لفظ “التقوى” بجميع صيغه الفعلية والاسمية والمصدرية من أغزر الألفاظ ورودا فـي القرآن الكريم، وهذا مؤشـر علـى مركزية هذا المفهوم كما هو معتبر فـي المنهج الإحصائـي فـي تحليل النصوص والخطاب.
تعددت تعريفات “التقوى”، ومن أبلغها قول سيدنا علـي بن أبـي طالب كرّم الله وجهه: “التقوى هـي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل”؛ تعريفٌ عدّد مقتضيات “التقوى” والتـي يشكل مجموعها طوق نجاة العبد، ليُكتب ممّن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
“التقوى” مأمورٌ بها لتصْحَب المؤمن والمؤمنة فـي جميع أحواله الحياتية، بل لتصبح صفة ملازمة، كما تدل علـى ذلك عبارة “حيثما كنت”، ولأن حيث اسم يفيد المكان، فالمعنـى إذن: اِتّق الله واستشعر معيته ومراقبته فـي أي مكان أو وضعية أو موقف، فاحرص أن تكون فـي الحالة التـي ترضيه سبحانه.
“التقوى” أن تكون حيث يريدك المولـى الكريم أن تكون، مقامُك حيث أقامك. فإياك أن تُفْتقَد حيث يجب أن تكون. وفـي الحديث القدسـي عـن أبـي هريرة رضـي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رواية عن رب العزة: “إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنـِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ، وكيفَ أُطْعِمُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي، يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنـِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أسْقِيكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أمَا إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي” (مسلم)؛ عيادةُ المريض وإطعام الجائع وسقاية الظمآن أبوابُ خير وفضائلُ أعمال قد يُحرم المؤمن والمؤمنة ثوابها تسويفا أو كسلا وترددا، فكيف من افتقدته الرقابة الإلهية فـي ثغر الصلاة لم يُلبِّ نداء “حـيَّ علـى الصلاة” و”الصلاة خيـرٌ من النوم”، فيتجافـى منه الجَنْبُ، ويسارع للوقوف بين يدي الله قبيل السحَر، وقد بَـــرَى سهام دعائه وشحذها متفاعلا مع العرض الإلهـي: “هل من سائلٍ فأُعطيَه؟ هل من داعٍ فأستجيبَ له؟ هل من تائبٍ فأتوبَ عليه؟ هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له؟” (الشيخان عن أبـي هريرة). وإنما أفردنا الصلاة بالإشارة اعتبارا لمكانتها ومركزيتها، فهـي أول ما يُسأل عنه يوم القيامة، ولأن صحتها وقَبُولها يكون عنوانا للفلاح وصحة غيرها من الأعمال التعبدية، وإلا لا تفاضل بين الأعمال الصالحات، وإنما تعظم الأجور بحسب الحاجة والاضطرار وما يترتب عنها من نفع عام للعباد.
“التقوى” أن تكون كيف يريدك الحق سبحانه أن تكون، هينا لينا مع عباده والمستضعفين تحديدا، قويا عزيزا مقتحما فـي مواطن الذود عن الحمـى وحرمات الله، وأفضل الجهاد “كلمة حق عند سلطان جائر” (أحمد والنسائي والبيهقـي).
“التقوى” أن تكون مع من يريدك جل جلاه أن تكون اكتسابا لمعانـي الرجولة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين (التوبة: 120)، أو تعرضا لنفحات رحمته مع المنكسرة قلوبهم قهرا وذلا من فاقة أو تفقير ينتظرون يدا رحيمة تنتشلهم من بؤس ومتربة، أو المنكسرة قلوبهم تذللا بين يدي الله وتبؤسا يرجون وجه الله تعالـى وعفوه.
“التقوى” إذن تجلٍّ لمقامات العبودية الشاملة لله تعالـى، فلا تبخيس لعمل مهما بدا بسيطا بشرط صلاح النية وسلامة الاتباع، فـ”التقوى” تصحب المؤمن والمؤمنة فـي مجالاته الحياتية اليومية، لحظة بلحظة، استشعارا لمعية الله ورقابته، مع ما يقتضيه الأمر مع هذا الاستشعار من أدب جم مع الخلق ومع النفس. يُـروى أن أحد الصالحين كان فـي مجلس ذِكْـر، فشعر بالعياء وبعض الألم فـي ركبتيه ومَدّهُما ليستريح، فسمع هاتفا يقول له: يا فلان (سماه باسمه)، إن جِلْستَكَ هاته (يقصد مدّه رجليه) لا تناسب مقامك عند الله.
اللهم أكرمنا بصحبة المتقين، وهب لنا العزم لطلب منازل المتقين. والحمد لله رب العالمين.