من تبوك إلـى غزة، وسؤال التمحيص

Cover Image for من تبوك إلـى غزة، وسؤال التمحيص
نشر بتاريخ

فـي شهـر رجب من السنة التاسعة للهجرة (630م)، وفـي ظروف اقتصادية حرجة، وفـي ذروة موسم حر شديد، خرج المسلمون لخوض غزوة تبوك فـي نزال حربـي غير مسبوق لملاقاة جيش الروم باعتبارهم القوة العظمـى، ردا علـى التحركات العسكرية الرومانية استعدادا لهجوم كاسح علـى المسلمين الذين اكتسبوا بعد فتح مكة (8هـ) هيبة ونفوذا مهددا لمصالح الامبراطورية الرومانية.

ويوم السابع من أكتوبر 2023، وفـي ظل حصار ثلاثـي الأبعاد منذ 2007م، وفـي ذروة تسارع وتيرة توقيع اتفاقيات تطبيع الأنظمة العربية مع الكيان الإسرائيلـي، وخلال مرحلة وضع اللمسات الأخيرة لتنزيل مخطط تصفية القضية الفلسطينية، فاجأت المقاومة الفلسطينية الكيان الغاصب بعملية طوفان الأقصـى فعطّلت حركة مؤسساته العسكرية والاستخباراتية ساعات قبل أن يستوعب ضربة المقاومة التـي أصابته فـي مقتل.

تُصنَّفُ تبوك معركة معقدة لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، فالذاتية يلخصها عاملان: تنامـي نشاط الطابور الخامس بلغة العصـر، مجسدا فـي بناء مسجد الضـرار للتشويش علـى المسجد النبوي وظيفة ومكانة، وضعف الإمكانيات الاقتصادية ضاعف القيظ وشدة الحر تداعياتها، فسميت غزوة العسـرة كما وثقها الوحي الإلهـي في سورة التوبة: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِـيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فـِي سَاعَةِ العُسْرَةِ. وأما الأسباب الموضوعية فتتلخص فـي طبيعة العدو باعتباره أقوى جيش نظامـي لأقوى كيان وقتها؛ جيش صُنف بالذي لا يقهر.

نستدعـي غزوة تبوك آخر غزوات رسول الله صلـى الله عليه وسلم ليس بمخرجاتها وما فتحته من آفاق العالمية للإسلام، بل بما اكتنف الإعداد لها من مواقف غربلت أصحابَها علـى أساس الولاء للمشروع التحرري للإسلام، من جهة، ودرجة التضحية ومستوى الانخراط ذودا عن هذا المشروع، من جهة ثانية. نستدعـي غزوة تبوك باعتبارها فاضحة للنوايا والمواقف المُتستّـر عنها، عساها تُسعف لفهم ما يُجريه الحق سبحانه وتعالـى من أحداث بين يدي طوفان الأقصـى، حيث اختلفت القراءات، وتباينت المواقف.

وسعيا لتنشيط الذاكرة وجب التنبيه إلـى دفوعات الطابور الخامس وسعـيه لإرجاء خوض غزوة تبوك بداعـي حسن الإعداد لنزال حربـي مع قوة عظمـى هو أشبه بالانتحار والمغامرة بمشروع إسلامـي فـي طور التبلور، ثم إذا تم التسليم بقرار المواجهة، فالتوقيت لا يناسب، حيث الحر وشدة القيظ وشح الموارد. يقول عز سلطانه: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَـرّاًۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81]. وعليه، فليس من الحكمة وسداد الرأي – فـي تقدير المشككين – خوض معركة غير متكافـئ طرفاها عددا وعدة وقدرات اقتصادية.

هو ذات المنطق والدفوعات التـي واكبت طوفان الأقصـى؛ شككت فـي النوايا، واتهمت أصحاب القرار بالتهور والمقامرة بأرواح الأبرياء من الشعب والزج بهم فـي أتون حرب غير متكافئة، وتمكين الكيان الغاصب من ذريعة شن عدوان وحشـي لا يُبقـي ولا يذر؛ دفوعاتٌ جهِل أو تجاهل أصحابها سجل مجازر الكيان عبر تاريخه، فمن جُبِل علـى العدوان وسفك الدماء وإشعال الحروب لا ينتظر فرصة، ولا يستجدي ذريعة لاقتراف مجزرة أو إبادة.

ومثلما كان قرار خوض غزوة تبوك استباقيا لإجهاض العدوان الرومانـي علـى المسلمين، جاء قرار طوفان الأقصـى استباقيا لعدوان كاسح يحرق الأخضـر قبل اليابس لطـي صفحة القضية الفلسطينية بصفة نهائية، قصد التفرغ لتنزيل المخطط التوسعـي للكيان فـي المنطقة من بوابة التطبيع سياسيا والتعاون اقتصاديا.

ومع توالـي حلقات مسلسل الإبادة الجماعية والتطهير العرقـي علـى المباشـر والبث الحـي الذي يُقترف فـي حق شعب أعزل بقطاع غزة منذ قرابة العشرين شهرا، ما زال من يملك رصيدا مخجلا من “الجرأة” فلا يتردد فـي لوك دفوعات من شككوا فـي قرار غزوة تبوك، بل زايدوا عليهم بدعوة المقاومة لتسليم سلاحها حقنا للمزيد من دماء الأبرياء، ومنعا لاستمرار تجريف أسباب الحياة ومقوماتها فـي القطاع. وهل أبقـى الكيان الغاصب للحياة أسبابا غير ما يُفضـي للموت بالتقسيط؟ وهل للحياة في ظل الحصار برا وبحرا وجوا بتواطؤ مع الجوار الفلسطينـي شرقا وغربا مقومات؟

لله در القائل علـى لسان المقاومة الفلسطينية: “لقد ألحقنا ضررا غير مسبوق بالكيان الغاصب يوم السابع من أكتوبر 2023، وهزمناه شر هزيمة، ومنذ ذلك التاريخ نواجه تحالفا عربيا وغربيا يحارب بالوكالة عن الكيان. دون هذا التحالف الذي يتكشف يوما بعد يوم لن تقوى الجبهة الداخلية الهشة للكيان علـى الصمود أمام مقاومتنا الشعبية”.

ومثلما كانت غزوة تبوك فاصلة علـى مستوى الصـراع والتدافع العسكري، كانت كاشفة فاضحة علـى المستوى التربوي الإيماني الأخلاقـي، جاء طوفان الأقصـى حاسما لإرباك المشاريع التوسعية وإجهاض مخطط تصفية القضية الفلسطينية، كما جاء كاشفا للمواقف فاضحا لنوايا من باعوا ضمائرهم، وتنازلوا عن إنسانيتهم، وآثروا حياة دعة زائفة. يقول عبد الرحمن بن خلدون: “الناس فـي السكينة سواء، فإن جاءت المحن تباينوا. وكم من شدة كشفت معادن أهلها، إن الشدائد للورى غربال”؛ مواقف تكشف طبيعة معادن الناس نستدعـي للدلالة علـى سقوطها السحيق فـي مهاوي النذالة موقف صحابـي تردد في الاستجابة لنداء النفير فـي غزوة تبوك، لكن سرعان ما قرّعه ضميره عن تخلفه عن المشاركة فـي الغزوة. روى البيهقـي فـي الدلائل، والطبراني وغيرهما: “… ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما إلى أهله في يوم حارّ، فوجد امرأتين له فـي عريشين لهما فـي حائطه (بستانه) قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي الضّحّ (الشمس) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء فـي ماله مقيم! ما هذا بالنَّصَف (العدل)، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتـى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيِّئا لي زاداً، ففعلتا، ثم قدِم ناضِحه (جمَله) فارتحله، ثم خرج فـي طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى أدركه حين نزل تبوك… فقال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال صلى الله عليه وسلم: “كُن أبا خيثمة”،  فقالوا: يا رسول الله، هو – والله – أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل فسلّم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أوْلـى لك يا أبا خيثمة”، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيراً، ودعا له بخير”.

وختاما، وجب التنبيه إلـى أمرين غاية فـي الأهمية، ولا يخلوان من دلالة:

– فـي غزوة تبوك سار جيش المسلمين 50 يوما، حتـى إذا اقتربت ساعة الصفر، انسحب الروم فتحقق النصر المبين للمسلمين دون قتال. يا حسـرة من تخلّف عن الغزوة خوفا من الروم!

– قرر هرقل قائد جيش الروم الذي لا يُقهرُ الانسحاب وتفادي مواجهة المسلمين اعتقادا منه أن المعارك ضد الأنبياء خاسـرة. أي فطنة هذه؟ وأي شجاعة مكّنت من حقن دماء جيشه؟

فلْيتأمل كل واحد مواقفه، ولْيختبر معدنه، ولْيتأكد من تحصين إنسانيته قبل إسلامه. فالإنسان بمواقفه. وفـي الجاهلية كانت العرب تعتَـبـر نصـرة المظلوم وإغاثة الملهوف مروءة وفضيلة، ففـي أي جاهلية منْ يرى أن الكيان الغاصب – وهو يُمعن فـي تقتيل شعب أعزل وتجويعه – يدافع عن نفسه، ثم لا يخجل من تصريحه بالانتماء إلـى الكيان ومساندته؟