تسلية لرسوله الكريم بعد سلسلة من الشدائد في سنة سُميت بعام الحزن، هيأت العناية الإلهية رحلة استثنائية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ومنه عُرج به إلى سدرة المنتهى ليحظى بتكريم رباني داوى جراح ما عاناه صلى الله عليه وسلم من محن ومشاق وتكذيب وهو يبلغ رسالة ربه.
وبقدر ما كانت رحلة الإسراء والمعراج مواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وفرت مادة حجاجية تشهد بصدق نبوته ورسالته لقوم هُم أدرى سكان شبه الجزيرة العربية بتفاصيل مسار الرحلة ومتطلباتها؛ دراية رفعت منسوب الجحود وشككت في إمكانية حدوثها، على الرغم مما أدلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرائنَ ميدانيةٍ دامغة عن قوافلِ قريشٍ التجارية ليلتها.
وبعيدا عن المواقف شبه المبدئية لزعماء قريش من الدعوة والرسالة المحمدية، فقد شكلت رحلتا الإسراء والمعراج اختبارا لصدق إيمان المسلمين يومها كان ضروريا لغربلة الصف وقياس القدرة على الانخراط فيما يستقبل من تحديات تتطلب إيمانا راسخا لا يتزحزح، ولا تُزعزعه الأحداث؛ كيف لا، والقرار بالهجرة على وشك التنزيل من مكة إلى المدينة، وما يعنيه من ترك المال والولد، بل وركوب رحلة محفوفة بالمخاطر والتهديد القرشي.
تمحيصٌ مرحلـيٌّ يجري تمريره بين يدي كل حدث مفصلـيّ يطلب صفا يكاد يكون على قلب رجل واحد رسوخَ إيمانٍ وثباتا على ميثاقِ: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله”. تمحيصٌ يُذكّر بحدث تحويل القِبلة في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة قبيل غزوة بدر، وما أدراك ما غزوة بدر! تمحيصٌ زعزع ضعاف الإيمان، وحسبنا دليلا ما ورد فـي سورة البقرة: وَمَا جَعَلنَا ٱلْقِبلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه وَإِن كَانَت لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكم إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ.
لقد تطلبت رحلتا الإسراء والمعراج تصديقا وتسليما قلبيا جسده سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبعد من عجائبية الإسراء والمعراج، وجاءت الرحلتان للتأشير على بزوغ عهد جديد للدعوة بتحديات تحتاج جيلا فريدا تربى في كنف الصحبة النبوية الحانية، فتحررت النفوس من داء القعود والتثاقل إلى الأرض ومتاع الدنيا الزائل، حتى أضحى وقت أكْل تُميراتٍ حياة طويلة تحُول دون الارتقاء إلى الجنة. حضَّ، وبالتعبير القرآني حرّض، رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على الجهاد يوم بدر كما ورد في صحيح الإمام مسلم فقال: “قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. قال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم. قال: بَخٍّ بَخٍّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بَخٍّ بَخٍّ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءه أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال الراوي: فرمـى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل”.
ومثلما يسر التدبير الإلهي مناسبات التمكين لدينه وعباده الصالحين في عهد النبوة، يسر الله تعالى في زمننا حدث طوفان الأقصى إحياء للأمة وتخليصا لها من الغثائية المقيتة، وإجهاضا لمخططات إقبار القضية الفلسطينية تحت مسميات التطبيع وصفقة القرن؛ طوفان شكل اختبارا عسيرا للمسلمين وثقتهم فـي وعد الله عبادَه بالنصر متى استوفوا شرطـيْ العبودية الحقة واستفراغ الوسع فـي الأخذ بالأسباب إعدادا وتخطيطا وتنفيذا؛ طوفان جعلنا نعيش مراحل من السيرة النبوية جسدها القرآن الكريم ببلاغه المبين، فمن قائل بتهور قرار مباغتة مواقع الكيان الغاصب صبيحة السابع من أكتوبر، مثلما قيل للمسلمين يوم بدر وهم على ما هم عليه من قلةٍ عددا وضعفٍ عُدةً مقارنة بجيش قريش، إذ يقول المنافقون والذين فـي قلوبهم مرض غرَّ هؤلاء دينهم، إلـى داعم للمسالمة وحياة الدعة متهكّمٍ بخيار المقاومة باعتبارها تهلكة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فـِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلك حَسْرَةً فـِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيـِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وبقدر ما كان طوفان الأقصى اختبارا وتمحيصا للصف الإسلامي كشفا للنوايا وفضحا للمواقف، فقد فتح الله به آفاقا رحبة لدينه فاعتنقت أفواج من شباب الغرب الإسلام، ومكّن الله للسردية الفلسطينية وحصدت في زمن قياسي شعبية وتعاطفا واسعا، واستعادت القضية الفلسطينية زخمها، وباءت مخططات إقبارها بالفشل، مثلما انفضحت شعارات حقوق الإنسان وزيف مؤسسات المنتظم الدولي ومعها انبطاح النظام العربي الرسمي الذي تحول من مساوم بالقضية الفلسطينية إلى مساهم في حربها وإبادتها.
طوفان أقصى بمخرجاته العظيمة وبنسمات ذكرى الإسراء والمعراج المباركة أحيت أمة بعد سبات، وبثت يقينا في نصر الله بعد يأس وإحباط، فحفزت على التحزب لله استعدادا لهجرة الاستكانة والدعة والوهن، واستشرافا لصبح العزة والتمكين التي جاء طوفان الأقصى ليؤذن في الناس بفجره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
والحمد لله رب العالمين.