في رحلتنا مع أعلام مراكش في علوم القرآن، نقف مع علامة فذ انتهت إليه صناعة التأليف في علماء المغرب، على صناعة أهل المشرق، شيخ شيوخ العلماء في وقته) 1 ، رجل من رجالات مراكش الحمراء، برز إلى جانب الدراسات القرآنية في كل من الرياضيات والفلك والطب والتنجيم وعلوم جمة أخرى، حتى سارت مؤلفاته ونظرياته متداولة في مختلف جامعات العالم بعد ترجمتها. واعترافا بما أسداه للبشرية من إسهامات علمية أطلق اسمه من قبل “الناسا” وكالة الفضاء الأمريكية مؤخرًا على فوهة بركانية على سطح القمر.
إنه العلامة أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي العددي، أبو العباس، ابن البناء) 2 ، نسبة إلى جده الذي كان يمتهن هذه الحرفة، وكم من علماء أجلة كانوا أبناء المحترفين وفقراء.
وُلِدَ ابن البناء عام (654هـ) بمراكش خلال فترة الدولة المرينية، وذلك بحي «ابن ناهض»، فأدخله والده الكُتَّاب فحفظ القرآن الكريم، ودرس أمهات المتون في النحو والصرف والبلاغة والأدب والفقه والأصول، ولم يترك بابا من أبواب العلم إلا وطرقه، شأنه في ذلك شأن علماء عصره قبل مرحلة التخصص والتجزيئية، ويدل على ذلك غزارة وتنوع مؤلفاته، رغم فقدِ معظمها، ومن تلك المؤلفات:
كتاب الأصول والمقدمات في الجبر والمقابلة، وكتاب الجبر والمقابلة، وكتاب اليسارة في تقويم الكواكب السيارة، وكتاب تحديد القبلة، وكتاب الإسطرلاب واستعماله، وكتاب أحكام النجم، ورسالة في التناسب، ورسالة في الجذور الصم جمعها وطرحها، وكتاب تنبيه الألباب، والتمهيد والتيسير في قواعد التكسير، والمقالات في الحساب، ومسائل في العدد التام والناقص، ورسالة في علم الحساب، ورسالة في علم المساحة، ومنهاج الطالب لتعديل الكواكب، وتلخيص أعمال الحساب، وكتاب رفع الحجاب عن علم الحساب، ورسالة في علم الجداول، ورسالة في كروية الأرض، ومقدمة في إقليدس، والمقالات الأربع، ورسائل خاصة بالتناسب ومسائل الإرث.
ومما اختُص فيه وبرز ابن البناء، علم رسم المصحف، وذلك في كتاب قيم سماه: عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل)، وهو عمل فريد بابه سلك فيه مؤلفه طريقة جديدة مخالفة لما اتبعه العلماء قبله في تعليل رسم المصحف، وساعده على ذلك ما كان يمتلكه من سعة العلم، وقوة الإدراك والذكاء المتقد، قدّم له بقوله وبعد فإنه لما كان خط المصحف الذي هو الإمام الذي يعتمده القارئ في الوقف والتمام ولا يعدو رسومه ولا يتجاوز مرسومه قد خالف خط الأنام في كثير من الحروف والأعلام. ولم يكن ذلك منهم كيف اتفق، بل على أمر عندهم قد تحقق، بحثت عن وجوه ذلك بمقتضى الميزان ووافي الرجحان ووقفت منه على عجائب ورأيت منه غرائب جمعت منها في هذا الجزء ما تيسر عبرة لمن يتذكر وسميته) عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل “هو لأولي الألباب مفتاح تدبر الكتاب بحول الله تعالى وقوته”) 3 .
وذكر فيه نماذج كثيرة في تعليل رسم المصحف ومن أمثلتها:
باب الواو: فصل في الواو الناقصة من الخط:
“وكذلك سقطت في أربعة أفعال دلالة على سرعة ووقوع الفعل ويسارته، وشدة قبول المنفصل للتأثر به الوجوه مثل: سندع الزبانية (العلق الآية 18) فيه سرعة الفعل وسرعة إجابة الزبانية وقوة البطش وهو وعيد عظيم ذكر مبدؤه وحذف آخره ويدل على هذا قوله تعالى: وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر (القمر الآية 50).
وكذلك ويمح الله الباطل (الشورى الآية 24) حذف الواو علامة على سرعة المحو وقبول الباطل له بسرعة يدل على هذا قوله تعالى: إن الباطل كان زهوقا (الإسراء الآية 81).
وليس (يمح) معطوفا على “يختم” (الشورى الآية 24 فإن يشاء الله يختم على قلبك) الذي قبله لأنه طهر مع يمح اسم الفاعل وعطف على الفعل ما بعده ويحق الحق (الشورى الآية 24).
وكذلك ويدع الإنسان بالشر دعاءه الخير (الإسراء الآية 11) حذف الواو يدل على أنه يسهله عليه ويسارع فيه كما يعمل في الخير وإتيان الشر إليه من الخير.
وكذلك اليوم يدع (القمر الآية 6) فتول عنهم يوم يدع ألداع إلى شيء نكر حذف الواو لسرعة الدعاء وسرعة الإجابة. 4
لقد كان ابن البناء مدرسة قرآنية علمية، عاشت للعلم وخدمته حتى أسلمت الروح لبارئها سنة 721 هـ، ودفن خارج باب أغمات عن يسار الخارج منه، وقيل بباب أيلان وقبره هناك معروف.