ملاحظات على هامش كلمة السيد الأمين العام الأستاذ محمد عبادي

Cover Image for ملاحظات على هامش كلمة السيد الأمين العام الأستاذ محمد عبادي
نشر بتاريخ

1-  قراءة في العتبة: قوة الخطاب وضرورة التجديد

يقتضي تأمّل عتبة الخطاب الإشارة سريعا، إلى أن كلمة السيد أمين عام جماعة العدل والإحسان، الأستاذ محمد عبادي، هي الثالثة من نوعها، التي يتم التوجه بها إلى النطاق الأوسع مدى، إلى جانب الدروس والكلمات التربوية والدعوية العامة، وهي كلمة تحمل طابعا رسميا، وتخرج بهذه الصفة، مسجلة صوتا وصورة، ومن ثمة يُراد لها أن تُقرأ بنفس القوة والسقف العالي ربّما، بما أنها كلمة أعلى منصب قيادي في الجماعة من جهة، إضافة إلى أن هذا النوع من الخطابات قليل جدا إلى حد الساعة، وكأنه مخصص للمنعطفات الحاسمة، إذ هي الثالثة بعد كلمة الذكرى الأربعين لتأسيس الجماعة، وخطاب طوفان الأقصى، الذي كان تجاوبا سريعا مع حجم الحدث وأهميته، وهو تجاوب لم أقف على سبق له في نفس المكانة والأهمية والقوة لدى الحركات الإسلامية في العالم العربي.

أما من ناحية ثانية، فقد ركز مدخل كلمة السيد أمين عام جماعة العدل والإحسان، الأستاذ محمد عبادي، على انتقاد طبيعة خطاب الحركة الإسلامية القائم إزاء الوضع الخطير الذي تعيشه القضية الفسطينية، والتنبيه إلى أن المرحلة مصيرية وخطيرة، تقتضي تجاوز الخطاب القديم، بما فيه خطاب العدل والإحسان نفسها، إذ لم يعد كافيا، وظهر أنها لا يواكب بشكل يكافئ التحدّي، ولا يجدي أو يؤثّر أو يستجيب لطبيعة المعركة وحجمها وخطورتها، وهي دعوة ضمنية لتجديد الخطاب وتأهيله ليناسب حساسية المرحلة ويلائم ما انفتح معها من أبعاد استراتيجية كبرى، وهو ما يقتضي بطبيعة الحال مراجعة العديد من المفاهيم والرؤى، والخروج بخطاب الحركة الإسلامية من المنطقة السكونية المهادنة الخاضعة للعديد من الإكراهات والتوازنات الضيقة أحيانا، إلى فضاء أقوى وأوضح سعيا لمحجة لاحبة في الخطاب الإسلامي الأصيل.

2-  أهل غزة وفلسطين: مواساة وإسناد

لقد توجه خطاب الأستاذ محمد عبادي إلى ثلاث فئات أساسية، كان على رأسها أهل غزة وفلسطين: “كلمتي هذه أوجهها لسادتي في غزة، ولمكونات أمتنا، ولأبناء شعبنا المغربي”.

جاءت الكلمة إلى أهل غزة إيمانية وجدانية حارة، منصبغة بمعاني المواساة القلبية والروحية: “لكم الله يا أهل غزة.. إن أكبادنا لتذوب خجلا من تفريطنا في حقكم.. وتكاد تنفطر غضبا.. فصبرا صبرا. فإن موعد شهدائكم الجنة”، وهي مواساة طبيعية من قلوب مؤمنين محسنين تنفطر لما يقع لإخوانهم، وتذوب كمدا لمآسيهم، وتتداعى الأجسام تبعا لذلك بالسهر والحمى.

إن خطاب المواساة بدا ضروريا وتفرضه طبيعة المعركة، وحجم الاغتراب الذي يمكن أن يحصل للمقاومة وهي تتعرض للخذلان والنكران والطَّعَنات أحيانا. وهو خطاب إسلامي أصيل لتثبيت ركائز تموقع القضية في العقل والضمير والوجدان الإسلامي الجمعي، بوصفها قضية عَقَدِية، تمس جوهر الأخوة الإسلامية وأساس الولاية بين المؤمنين، بما يعنيه ذلك من واجب الإعانة والإسناد والنصرة.

ويبدو جليا أن الخطاب إلى أهل غزة وفلسطين لم يتوقف عند توظيف ضمير المخاطَبين المباشر، بل استمر ضمنيا، بالحديث إلى باقي الفئات الأخرى، فهو حديث إلى أهل غزة في كلّيته وشموله، بما هو إسهام في حمل القضية والمنافحة عنها، والدعوة إلى صيانتها وإعلاء شأنها، والانخراط في معركتها المصيرية.

3-  مكونات الأمة: الدعوة إلى التعاون وبناء الوحدة

لم يتم ذكر الأنظمة الحاكمة وتخصيصها إلى جانب الفئات المذكورة، لأن (ثبت هذا بالتجربة المُرّة والخيبة الكبرى) جُلَّها انكشف ارتهانُه للأخطبوط الصهيوني والإمبريالية العالمية، رغم تفاوت درجات الارتهان والارتباط ومستوياته ومظاهره، بدءًا بالصمت الشيطاني الأخرس والحياد القاتل، إلى الانخراط في الدعم السياسي والاقتصادي، وصولا -ربما- إلى حدود الدعم العسكري، خاصة في أبعاده الاستخباراتية واللوجستية الدنيئة.

لهذا بدت المراهنة واضحة على باقي مكوّنات الأمة، وفعالياتها، وكل قواها الحية، في محاولة للعمل من خارج صناديق توجُّهات الأنظمة وأجنداتها وارتباطاتها وسقوفها الواطئة إن لم تكن المشبوهة أو المتواطئة.

وإن الحِراكَ التضامنِيَّ الذي تعرفه الشعوب الغربية مع القضية، لَيُعَدُّ بحق نموذجا وحُجّة للاقتداء واستنهاض روح النصرة والتضامن كما دَعَتِ الكلمة إلى ذلك وألحّت.

كما كانت الفرصة سانحة لإظهار العذر أمام أهل غزة وفلسطين، باعتبار مكونات الأمة مكبّلة بِأَسْيِجَةِ دُوَيْلاتِ سايس بيكو وتوجهاتها التي ما فتئت تبتعد عن المحضن الواسع لهويتها، في اتجاه تخندق “وطني” ضيق، يمجِّد الهويات الوطنية الصغرى، ويضعِف الخطابات الهويَّاتية الكبرى، قومية كانت أو إسلامية، أو حتى أممية إيديولوجية، في محاولة لتحقيق المزيد من الضبط وعزل التأثيرات التي قد تهدد “استقرار” بعض الأنظمة وتوجهاتها التسلطية.

هكذا تغدو المعركة ابتلاء لهذه المكونات كذلك، وتحديا لها، بما أقامته من حجة سيصير من العار التاريخي الاكتفاء بالصمت أو الرضا بحالة العجز إزاءها، مهما كانت الظروف، ولهذا حذّرت كلمة السيد عبادي بشكل واضح ممن ينحو هذا المنحى: “فإن لم نبادر إلى نصرتكم فهو والله خزي وعار وحسرة دنيا وأخرى”.

وقد كان على رأس مكونات الأمة في بلدنا المغرب، أبناء العدل والإحسان، حيث نبّهت الكلمة إلى أهمية إعطاء القدوة من الذات، وذلك بعرض ما تقوم به الجماعة ومعها بعض مكونات الشعب المغربي من عمل احتجاجي ميداني موازاة مع العمل التربوي الضروري: “إن جماعة العدل والإحسان معكم قلبا وقالبا، فأنتم تسكنون قلوبنا، لا نمل من الدعاء معكم في خلواتنا وجلواتنا.. لا نمل من النزول إلى الشوارع والساحات لمساندتكم ودعمكم واستنكار مواقف الحكام المخزية من قضيتكم”.

ولم يفت الكلمة أن تدعو إلى التكتل والوحدة، منددة ضمنيا بالتوجهات الخاطئة للبعض في إثارة النعرات والصراعات بين الدول العربية والإسلامية، ودعت الكلمة إلى تجاوز تلك الصراعات البينية، وإعادة تقييم استراتيجيات التحالفات الإقليمية، عن طريق تحيين وضبط اتجاه البوصلة، بإدراك العدو الحقيقي، وإعادة تقييم علاقات الجوار للدفع بها في اتجاه التصالح والتكتل عوض الاستعداء، ولهذا خاطب الأستاذ عبادي الحكام مباشرة، قائلا: “لأي عدو تعدون آلاف الجنود وتقتنون أصنافا شتى من الأسلحة؟! هل هناك عدو يهدد وجودكم أخطر من العدو الصهيوني؟!”.

4-  العلماء ونخبة المجتمع: الانتقال من البيان إلى الميدان

وهي دعوة ركزت على الخروج من حالة التنديد والكلام والبيان، إلى الحركة في الميدان، ودعوت إلى ترجمة البيانات والتنديدات إلى النزول إلى الميدان والساحات، توجيها للأمة وتوعية للناس، وإعطاءً للنموذج في الشجاعة واليقين في الله تعالى، بل الإسهام في قيادة المسيرات والاعتصامات، والضغط على أصحاب القرارات، لوقف التجويع ورفض التطبيع. وقد كان من اللافت في الكلمة تلك الإشارة إلى أهمية توظيف السلاح الاقتصادي في المعركة، بما يشكله من تهديد مؤثر على المصالح الاقتصادية للصهاينة وأعوانهم (وهنا طرح نموذج التوظيف الأمريكي للاقتصاد في ضرب ومحاصرة إيران).

ولهذا ركزت الكلمة على العلماء بوصفهم زبدة النخبة المؤثرة في عمق الشعوب، بما هم أئمة للدين، والأمة لا يحرّكها بحق إلا الإسلام وكلمته، لهذا كان التشنيع على كل ادّعاء في المجال بدون برهان صدق وعَطَاء: “بئس العلم الذي لا يورث خشية الله ولا يدفع صاحبه إلى مناصرة المظلومين”. ولأجل تلك المكانة الاعتبارية كان التحذير واضحا أيضا من خطورة المسؤولية أمام الله تعالى، بإيراد قصة العابد الذي لم يساهم في تغيير المنكر والوقوف مع المستضعفين المظلومين فكان عاقبته أن شمله العزيز المنتقم بعذابه.

5-  أبناء الشعب المغربي: التحذير من خطر التطبيع والفرقة

وقد ركزت الكلمة في هذا المحور على الدعوة إلى إدراك أخطار المد الصهيوني في مجتمعنا المغربي سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفنيا، والوعي بانعكاسات التطبيع الذي تحوّل إلى اختراق واستتباع سيؤدي في النهاية إلى هيمنة فعلية.

ولذلك فالوقوف مع غزة وفلسطين، هو وقوف ابتداءً مع الوطن، حفظا لوحدته، وتمتينا لصفه، ودفاعا عن تماسك نسيجه ولُحمته، ضد الاختراق والهيمنة والتوغّل المفضي إلى ضياع السيادة لا قدّر الله.

وقد ذهبت الكلمة مباشرة إلى ما يجب القيام به ضد هذه الأخطار، من ضرورة التوحُّد والاصطفاف بغية الوقوف سدا منيعا أمام التوغل المتزايد للنفود الصهيوني، وخطط المتصهينين من أبناء جلدتنا الذي تبنوا مخططات العدو وتماهوا مع سياساته وأهدافه الخطيرة، تحت شعارات براقة خادعة، وأخرى وقحة عارية سافلة: “عصم الله مغربنا وأمتنا والبشرية جمعاء من شر الصهاينة وأذنابهم”، يدعو صاحب الكلمة، بلغة شفيقة حريصة على أمن البلد وسيادته وصدق انتمائه لهويته ودينه ومصالحه الحقيقية.

ولذلك ذهبت الكلمة في خاتمتها إلى التأكيد على معركة الوعي، وإعطائها المكانة اللازمة التي تستحقها، فقد ختم الأستاذ محمد عبادي كلمته بالدعوة إلى بث اليقين في الله تعالى، والتبشير بأن مآل المعركة هو الهزيمة النكراء للأعداء والفتح والتمكين للمجاهدين في سبيل الله مهما طال أمد الحرب، فلن يذهب الجهد والجهاد سدى، لأن العاقبة للمتقين: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، صدق الله العظيم الذي وعد بنصر المظلوم ولو بعد حين، لا يخلف الله الميعاد. لذلك كانت الخاتمة أيضا بالتوجّه إلى الله تعالى بالدعاء لفك الحصار والتجويع عن إخواننا في غزة، واستمطار نصره سبحانه وفَرَجه.

عبد القادر الدحمني

سوق أربعاء الغرب

في: 04 غشت 2025.