مكانة المرأة بين النص والتأويل

Cover Image for مكانة المرأة بين النص والتأويل
نشر بتاريخ

بقلم: صليحة نسيب

إن التمييز بين نصوص الوحي المتعلقة بالمرأة وتأويلات المفكرين لهذه النصوص، ودور الأعراف في تشكيل فهمهم وتأويلاتهم لها، لمما يبرز البون الشاسع بين مقصد الوحي من هذه النصوص والتفسير الخاطئ لها.

“ما أكثر ما يستشهد الناس -الفقهاء منهم والعوام- بحديث نبوي ليُنَقصوا من قدر المرأة، يُزيغون الحديث عن سياقه ويعطونه دلالته اللفظية المطلقة. يقرأون بعضه ويسكتون عن بعض كما يقرأ بعضهم وَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَسورة الماعون، الآية 7. ويقطع القراءة.

لا عجب يغلب سوء الظن بالمرأة، ويغلب الموروث من احتقارها حتى يكتب المفسر الجليل شهادة أعرابي جافٍ جافٍّ مباشرة بعد شهادة رب العالمين التي توبخ وتشنع على الذين يظَل وجه أحدهم مُسْوَدّاً وهو كظيم إذا بُشّرَ أحدهم بالأنثى، لاَ مِثالَ لاسوداد وجهه ولا شاهد عليه أفصح مما يرويه الفقيه المفسر عن الأعرابي.” 1

وهذا نموذج حي من السنة النبوية، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمرَّ على النساء فقال: “يا معشر النساء ‏تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم يا رسول الله؟‏ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل ‏الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة ‏مثل نصف شهادة الرجل؟‏ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها.‏ أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟‏ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها.” 2.

لقد بسط الأستاذ عبد السلام ياسين السياق الواقعي لهذا الحديث في قوله: “ما كان يشتكي منه المهاجرون من تعلم نسائهم آدابا أخرى غير ما تعود عليه المهاجرون في مكة. عبّر عن ذلك عمر بن الخطاب بقوله: “وكنا معشر قريش نغلِبُ النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار”. الحديث رواه البخاري.” 3

وأضاف مبرزا روح الحديث، مما يتناسب مع الأخلاق العالية والتربية الرفيعة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه: “ما في الحديث حُكْم قاطع. بل فيه تعجب، وفيه انبساط. وهل تظن مؤمنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا القلب الرحيم والعقل الراجح والخلق العظيم والعصمة الإلهية يكون من قلة الذوق وسوء الظن ببنات آدَم اللواتي كرّمهن الله على يديه حتى يختار مناسبة الفرح ليُتْرِحَهُنّ، مناسبة السرور ليدخل عليهن الحزن، مناسبة خروج المسلمين والمسلمات إلى صعيد واحد ليتلقوا جميعا جوائز الله يوم العيد فينغص عليهن بجرح شعورهن وإهانة كرامتهن!

تعجُّبٌ من قدرة الله الذي غلَّبَ الضعيفات، بلباقتهن وحب أزواجهن لهن يذهبن بلب الرجل الحازم فيطيعُهن ويخضع لرغباتهن.” 4

كما حاول عبد الحليم أبو شقة أن يبسط معنى الحديث من خلال ثلاث زوايا:

الزاوية الأولى تطرق فيها لدلالة الحديث العامة، من ناحية المناسبة التي قيل فيها أو من ناحية من وجه إليهن الخطاب أو من حيث الصياغة التي صيغ بها الخطاب.

وقد جاء في المناسبة أن النص قيل خلال عظة النساء في يوم عيد، “فهل نتوقع من الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم أن يغض من شان النساء أو يحط من كرامتهن أو ينتقص من شخصيتهن في هذه المناسبة البهيجة.” 5

ومن ناحية من وجه إليهن الخطاب النبوي، فقد كن جماعة من نساء المدينة، وأغلبهن من الأنصار اللاتي قال فيهن مرة بن الخطاب: “فلما قدمنا على الأنصار، إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار.” 6

أما من حيث صياغة النص، فهي “ليست صيغة تقرير قاعدة عامة أو حكم عام، وإنما هي أقرب إلى التعبير عن تعجب الرسول صلى الله عليه وسلم من التناقض القائم في ظاهرة تغلب النساء -وفيهن ضعف- على الرجال ذوي الحزم، أي التعجب من حكمة الله.” 7

الزاوية الثانية هي الدلالة الخاصة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ناقصات عقل” حيث حصر لنا الكاتب احتمالات هذا النقص في النقص الفطري العام وهو متوسط الذكاء، والنقص الفطري النوعي وهو في بعض القدرات العقلية الخاصة، والنقص العرضي النوعي قصير الأجل، مثل دورة الحيض أو مدة النفاس أو بعض فترات الحمل، وهناك نقص عرضي نوعي طويل الأجل، وهذا يطرأ على الفطرة نتيجة الانشغال بالحمل أو الولادة… فالمثال الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء على نقص العقل “يساعد على ترجيح النقص النوعي سواء أكان فطريا أم عرضيا. وأيا كان مجال النقص فهو لا يخدش قواها العقلية وقدرتها على تحمل جميع مسؤولياتها الأساسية.” 8 كما أن “النقص النوعي في إحدى القدرات الخاصة قد يقابله زيادة في قدرة أو قدرات أخرى.” 9، ونبه أيضا إلى أن “النقص هنا يتعلق بالنساء على العموم، وهذا لا يمنع وجود نساء وهبهن الله قدرات عالية بل وخارقة أحيانا في نفس المجالات التي ينقص فيها مستوى عامة النساء، كما لا يمنع أن يكون أولئك النسوة أفضل من كثير من الرجال.” 10

أما الزاوية الثالثة وهي الدلالة الخاصة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ناقصات دين” حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نقص الدين  ذكر أمرا محددا، وهو نقص الصلاة والصيام في أيام الحيض والنفاس؛ “فهو من ناحية نقص جزئي، محصور في العبادة، بل في بعض الشعائر فحسب، حيث تقوم الحائض والنفساء بأداء مناسك الحج جميعا، عدا الطواف بالبيت، كما أنها لا تهجر ذكر الله” 11، وإذا نظرنا إلى هذا النقص فهو مؤقت، حيث أن الحيض والحمل ينعدمان في سن اليأس، وهذا النقص ليس من كسب المرأة واختيارها، وهي راضية بقضاء الله، ولها الأجر والثواب على ذلك، كما تقوم المرأة بالتعويض بعبادات أخرى مثل تلاوة القرآن والدعاء والذكر والإكثار من صلاة النوافل.

فنقص الدين يحتمل نقص تدين الإنسان ويحتمل نقص ما افترضه الله على الإنسان من فرائض، “وعلى ذلك نرى أنفسنا ملزمين بالوقوف عند حدود تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للنقص، لا نتعداه، أما إذا تجاوزنا هذه الحدود؛ فسنسقط في متاهة الاحتمالات، وربما خضنا في الأوهام، ونكون عندها قد وقعنا في المتشابه، والمتشابه كما يقع في القرآن يمكن أن يقع في السنة، وقد حذرنا الله تعالى فقال في محكم التنزيل: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ 1213.

وإذا كانت المرأة تحمل في شخصيتها بعض الضعف الناتج عن سيطرة الجانب العاطفي في المشاعر، فلا شيء يمنع من أن يتبلور هذا الضعف وينقلب إلى قوة، وبما أن الضعف في الإنسان طبيعة يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًاسورة النساء، الآية 28.، نجده في المرأة والرجل معا، ليبقى المجال مفتوحا لكل منهما ليطور ذاته وفكره.

إن المرأة عندما تتمرد على نوازع الضعف فيها وتتجاوزها، تحولها إلى قوة، والقرآن يزخر بمثل هذه النماذج الحية في القوة والصلابة، ويصور لنا أن فرعون بكل استكباره وجبروته وبطشه وسطوه، استطاعت المرأة الزوجة أن تقف في وجهه موقف الرافض والمتمرد على سلطانه وظلمه وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 14.

ويضرب الله مثلا آخر هو مريم بنت عمران كنموذج نسوي آخر في القوة الإيمانية والصلابة الأخلاقية والقنوت الخاشع وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ 15.

هكذا رفع الله المرأة درجات ودرجات، وكما يصطفي الله من الرجال يصطفي من النساء، وصدق رسولنا الكريم: “… لم يكتمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون” 16رواه البخاري ومسلم.

إن الاستشهاد بآيات وأحاديث مثل الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ 17 وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ 18 و”النساء ناقصات عقل ودين” دون معرفة معناها وسياقها الذي نزلت فيه، يجعل المرأة تظلم باسم الدين، خصوصا أن القرآن عالج قضايا المرأة بصيغة كلية وعامة، وترك التفاصيل للاجتهاد والتأويل، هذا الوضع الذي أثر -مع عوامل أخرى اجتماعية وسياسية- على الاجتهاد الفقهي فأدى إلى انحباسه وانحساره، فأنتج لنا فتاوى كلها ظلم للمرأة وتبخيس لحقها، مما جعل بعض المفكرين يميلون إلى نوع من الغلو في الموقف من آراء بعض الفقهاء في قضية المرأة، حيث يرى جمال البنا: “استبعاد آراء الفقهاء تماما، لأن هذه الآراء إما أنها بنيت على تفسيرات سقيمة خاطئة للقرآن الكريم، أو على أحاديث ركيكة أو موضوعة، وهذا يقتضي أولا العودة إلى القرآن رأسا دون تفسير المفسرين.19

على أن الموقف السليم هو الذي ينسجم مع المنهج القرآني الذي يوصينا بأن نستغفر لمن سبقونا بالإيمان، وأن نستعيذ من كل غل أو حقد تجاههم، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ 20، فقد اجتهدوا لزمانهم، مكابدين فتنه مغالبين عقباته السياسية، ويبقى المجال فسيحا لاجتهاداتنا التي تساهم في تحرير الأمة عامة وتحرير المرأة خاصة. “بحث المجتهد في الدليل الشرعي عمّا يسند همومه ويحقق أهدافه الإصلاحية. هو قدّر الهدف، واختار الوسيلة، وأفتى في نطاق ما أتيح له من حيٍّزٍ، وفي حدود مكانه وزمانه وأحواله. وشرع الله وسنة رسول الله خالدان.”ع 21


[1] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج2 ص 279.
[2] وقد ذكر هذا الحديث محمد سعيد زغلول في الموسوعة موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف، ج 11، ص 245، وعزاه إلى البخاري في الجزء 1 الصفحة 83، والجزء 2 الصفحة 149. وإلى صحيح مسلم في كتاب الإيمان الصفحة 132.
[3] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج2 ص 279.
[4] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج2 ص 280.
[5] تحرير المرأة في عصر الرسالة، ج1، ص 275.
[6] البخاري: كتاب النكاح، باب موعظة الرجل ابنته، ج11 ص 190.
[7] تحرير المرأة في عصر الرسالة، ج1، ص 275.
[8] نفس المصدر السابق. ص 284.
[9] نفس المصدر. ص 277ـ- 278.
[10] نفس المصدر السابق.
[11] نفس المصدر. ص 284.
[12] سورة آل عمران، الآية 7.
[13] تحرير المرأة في عصر الرسالة، ج1 ص 286.
[14] سورة التحريم، الآية 11.
[15] سورة التحريم، الآية 12.
[16] رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه ج7 ص283 – ورواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، ج7 ص 133.
[17] سورة النساء، الآية 34.
[18] سورة آل عمران، الآية 36.
[19] المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء، جمال البنا، ص 179.
[20] سورة الحشر، الآية 10.
[21] بد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج2 ص 117.