معالم المواجهة في الرسالة الخاتمة (1) | معالم المواجهة في مكة المكرمة

Cover Image for معالم المواجهة في الرسالة الخاتمة (1) | معالم المواجهة في مكة المكرمة
نشر بتاريخ

منذ تمرد إبليس اللعين على الله تعالى حين أبى السجود والطاعة لأمر الله عز وجل، وقال أنظرني إلى يوم يبعثون (ص79) فقال الله تعالى فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم الحجر (37)، ورحلة المواجهة بين التوحيد والشرك، وبين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين العدل والظلم قائمة لا تتوقف إلا بتوقف الحياة، قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا (الفرقان 31)، وقال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا (الأنعام 112). وكانت لها معالم وأساليب ووسائل وأشكال متنوعة وجولات ممتدة في تاريخ البشرية أفرادا وجماعات، قال الله تعالى ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض (محمد 4). ولعل من مظاهر رحمة الله تعالى هذه، المواجهة التي من خلالها يتحصحص الحق ويتمحص، قال تعالى كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض (الرعد 17). فمن سنن الله تعالى أن لا يُسلط الله عز وجل على البشرية ظالما واحدا يتحكم في مصيرهم لفترة طويلة، قال تعالى وتلك الأيام نداولها بين الناس (آل عمران 140). ذلك أن المواجهة والصراع يكون بين الظلمة أنفسهم وبينهم وبين الحق، وهذه سنة جارية في الحياة حتى يتوقف التاريخ ويتغير نظام الكون.

في هذا البحث أحاول سبر أغوار السيرة النبوية لأستشف معالم المواجهة بين الحق والباطل، وقد تناولت فيه ثلاثة محاور أساسية:

المحور الأول: معالم المواجهة في مكة – المحور الثاني: معالم المواجهة في المدينة المنورة – المحور الثالث: معالم المواجهة مع رجال القومة والإصلاح المعاصرين.

المحور الأول: معالم المواجهة في مكة المكرمة

وأنا أتحدث عن هذه الحقبة من أعالي تاريخ مكة المشرفة، لا بد أن أشير إلى أن مواجهة الاستكبار الوثني القريشي مع الرسول عليه الصلاة والسلام، لم تكن مواجهة ذات خلفية أيديولوجية مذهبية وطائفية وعشائرية أو اقتصادية وسياسية بين قبائل قرشية تتنافس على الزعامة والرئاسة، وأخص بالذكر قبيلة بني هاشم وقبيلة بني أمية، لأن بعض المستشرقين الحاقدين على الإسلام والمسلمين يبثون سمومهم العقدية والفكرية لتشويه تاريخ المسلمين، حيث أوصلهم منطقهم الجاهلي إلى أن المواجهة مع الرسول عليه الصلاة والسلام هي استمرار للصراع والمواجهة بين بني هاشم وبين بني أمية، انظر كتاب محمد للمستشرق الإنجليزي منت كمبري وات. وقد حذا حذوهم بعض المنظرين المسلمين ذوي مرجعية وأيديولوجية معينة واستنسخوا هذه النظرية واتخذوها مرجعا لهم في فهم وتشخيص تاريخ المسلمين المنكسر. ويعبّر المقريزي عن هذا التوجه ببعض مكتوباته الشعرية، إذ يقول:

عبد شمس قد أضرمت لبني هاشم حربا يشيب منها الوليد
فابن حرب للمصطفى وابن هند لعلي وللحسين يزيد

ولعمري إن هذه النظرية في تحليل تاريخ الأمة المسلمة تجانب الصواب، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث لتوحيد الله عز وجل والدعوة إليه سبحانه، وتوحيد الأمة المشتتة والمتفرقة، وفك رقاب الشعوب المستضعفة من كل ألوان العبوديات، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، واستنقاذهم من حياة الضنك نتيجة إعراضهم عن شريعة الله تعالى ومنهاج رسوله عليه الصلاة والسلام، وإلحاق الرحمة بهم، ووضع إصرهم والأغلال التي عليهم.

وهل دعوة رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى دين الإسلام، دين التوحيد والإيمان، خُصصت فقط لعشيرته من بني هاشم، أم اشتملت الثقلين إنسهم وجنهم؟ انظر كتب السيرة والتاريخ والحديث: من آمن به من بني هاشم، ومن آمن به من بني أمية، وجميع بطون قريش، ومن واجهه بالعداء والمعاداة والعدوانية من بني هاشم أقاربه وعشيرته، ومن بني أمية وجميع بطون العرب. ولكنها سنة الله الجارية، قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا (الفرقان 31).

فمنذ أن صعد الرسول عليه الصلاة والسلام فوق جبل الصفا صادعًا بالدعوة إلى دين الإسلام دين التوحيد، حتى واجهه الاستكبار الوثني القريشي المجرم بكل الأساليب والأشكال والوسائل الإجرامية العدائية والعدوانية المتنوعة والمختلفة لقمع واستئصال الدعوة ووأدها في بدايتها. سنذكر بعضًا منها، وإلا فحياة الرسول عليه الصلاة والسلام في حراكه الدعوي وطريقه إلى الله تعالى واجهت عقبات عدوانية ودموية قاسية.

1- المواجهة بالإيذاء النفسي

لقد تفنن الاستكبار الوثني القريشي في إيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام باستعمال وسائل إرهابية مقيتة تحدث جراحًا غائرة ومؤلمة في نفس وجسد الرسول عليه الصلاة والسلام، وتترك أثرًا عميقًا ودائمًا على شخصه الكريم عليه الصلاة والسلام، لكن الله تعالى ثبته بمعيته وعونه وحفظه سبحانه.

فقد اتُهِم عليه الصلاة والسلام بأنه كاذب وشاعر ومجنون وساحر وكاهن، انظر كتب السير والأحاديث، والآيات مستفيضة في كتاب الله تعالى توثق فعل الاستكبار الوثني القريشي. لكن سأركز على حادثتين عظيمتين توضحان بجلاء الإرهاب النفسي الذي مُورس على الرسول عليه الصلاة والسلام.

تطليق أولاد أبي لهب لعنه الله لابنتي الرسول عليه الصلاة والسلام

فقد كانت مصاهرة بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين عمه أبي لهب قبل الرسالة، إذ زوّج الرسول عليه الصلاة والسلام ابنته رقية رضي الله عنها من عتبة، وابنته أم كلثوم رضي الله عنها من عتيبة. ولما صدع الرسول عليه الصلاة والسلام بالدعوة، أمر اللعين أبو لهب أولاده بتطليق بنات الرسول عليه الصلاة والسلام ليهينه، ولِيُلحق به العار، ولإيذائه نفسيًا واجتماعيًا. (الطلاق في العرف الجاهلي الوثني كان يعتبر وصمة عار على المرأة وأهلها، وإهانة للقبيلة بأكملها، والمرأة المطلقة تُعتبر امرأة منبوذة في المجتمع الجاهلي).

ولكي نستشعر ونحس بمعاناة الرسول عليه الصلاة والسلام النفسية عند تطليق ابنتيه، نستحضر هذا المشهد المؤلم: إنه لما أراد اللعين عتيبة ابن اللعين أبي لهب أن يُطلّق ابنة رسول الله عليه الصلاة والسلام أم كلثوم رضي الله عنها، جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: (يا محمد إني كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى)، ثم بصق أمام الرسول عليه الصلاة والسلام وطلّق ابنته أم كلثوم رضي الله عنها.

فغضب الرسول عليه الصلاة والسلام ودعا عليه، وقال: (اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك) دلائل النبوة لأبي نعيم. فأرسل الله تعالى إلى هذا اللعين أسدًا افترسه وهو في طريقه إلى الشام. يروي هبار بن الأسود (أنه رأى الأسد يشمّ النيام واحدًا واحدًا حتى أتى إلى عتيبة فأخذه) كتاب التوابين لابن قدامة.

معايرة الرسول عليه الصلاة والسلام بعدم إنجاب الذكور

بعد موت القاسم ابن الرسول عليه الصلاة والسلام، تعرض رسول الله عليه الصلاة والسلام للمعايرة والسب من قبل الاستكبار الوثني القريشي بعدم إنجاب الذكور. وقد قصّ القرآن الكريم علينا أهمية إنجاب الذكور في المجتمع الجاهلي ووأدهم البنات، قال تعالى وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت (التكوير 8).

لقد كان العاص بن وائل وأبو جهل لعنهما الله تعالى يسبّون الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه أبتر (أي مقطوع الذرية)، ولا يوجد له ابن ذكر يحمل اسمه، فإذا مات انقطع أثره ونسله. وكان اللعين العاص بن وائل يضع الحجارة في طريق الرسول عليه الصلاة والسلام ليعثر بها، وإذا لقي الرسول عليه الصلاة والسلام يسخر منه ويسبّه بـ”الأبتر”، فدعا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام قائلًا: (اللهم سلط عليه شوكة من أشواك الأرض)، فأصابه الله تعالى بشوكة في قدمه أنهت حياته وأرسلته إلى جحيم جهنم. انظر سيرة ابن هشام.

وأنزل الله سورة الكوثر دفاعًا ومواساة للرسول عليه الصلاة والسلام.

2- المواجهة بالمساومة والإغراء

فقد عرض الاستكبار الوثني القريشي على الرسول عليه الصلاة والسلام المال، والجاه، والنساء، والملك، والزعامة، والسلطة، على أن يترك الدعوة إلى الله وتوحيده. فكان رد الرسول عليه الصلاة والسلام واضحًا وقويًا: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) سيرة ابن هشام.

3- المواجهة بالحصار

لقد تعرض الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه وعشيرته لحصار ظالم غاشم من قبل الاستكبار الوثني القريشي، لمدة ثلاث سنوات في شعب أبي طالب، ذاقوا فيها ألوانًا من الجوع والعطش والمرض والقطيعة، لا يجدون ما يأكلونه سوى أوراق الأشجار وجلود الأنعام. انظر سيرة ابن هشام.
وأفتح قوسًا لأقول لأهلنا في غزة العزة المحاصرين ظلمًا وعدوانًا، والذين يموتون جوعًا: صبرًا آل غزة، فإن النصر آتٍ، ولكم في رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه أسوة حسنة. قال تعالى: إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب (هود 81).

4- المواجهة بالإرهاب والاغتيالات

لقد تعرض الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه للإيذاء والتصفية الجسدية وللاغتيالات المتعددة من طرف الاستكبار الوثني القريشي المتجبر. نذكر على سبيل المثال لا الحصر: تعذيب الصحابة المستضعفين في رمضاء صحراء مكة كخبّاب بن الأرت، وبلال بن رباح، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعامر بن فهيرة، وعمّار بن ياسر، وغيرهم كثير، رضي الله عنهم وأرضاهم.

وكان نصيب ياسر بن عمّار وزوجته سمية بنت خياط التصفية الجسدية، رضي الله عنهما. لقد كانت سمية رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام بعدما عذبت عذابًا شديدًا، وطعنها اللعين أبو جهل بحربة في فرجها. انظر سيرة ابن هشام.

أما الرسول عليه الصلاة والسلام، فتعرض للاغتيال مرّات متكررة. لقد حاول الاستكبار الوثني القريشي مبادلة الرسول عليه الصلاة والسلام بعمارة بن الوليد بن المغيرة من أجل تصفية الرسول عليه الصلاة والسلام.

فقد طلبوا من أبي طالب عمّ الرسول عليه الصلاة والسلام أن يُسلّمه ليقتلوه ويعطوه عمارة بن الوليد ليتخذه ولدًا، فجاءهم الرد مجلجلًا ومزلزلًا من أبي طالب:

(والله لبئس ما تسومونني: تعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلوه؟! هذا والله ما لا يكون أبدًا) سيرة ابن هشام.

وقد حاول اللعين عقبة بن معيط اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد باغت الرسول عليه الصلاة والسلام من خلفه، ووضع ثوبه حول عنق الرسول عليه الصلاة والسلام، وخنقه خنقًا قويًّا، إلى أن جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأبعده عنه، وقال له: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم غافر: 28، انظر سيرة ابن هشام.

ومرّة أخرى، جاء عدو الله اللعين عقبة بن أبي معيط بسَلَا جَزور (وهو ما يخرج من الناقة عند ولادتها وما يحتوي عليه من قذارة ودماء)، ووضعه فوق ظهر الرسول عليه الصلاة والسلام وهو ساجد في صلاته في الكعبة، فجاءت فاطمة رضي الله عنها – وكانت فتاة صغيرة – فأزالته عنه، ودعت على من صنع ذلك. رواه الإمام مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه.

ثم إن الاستكبار الوثني القريشي، بعد نفاد جميع الوسائل والسبل والمحاولات لإجهاض الدعوة وقبرها دون جدوى، اجتمعوا في دار الندوة، ودبروا مؤامرة لاغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك باختيار فارس من كل قبيلة لقتل الرسول عليه الصلاة والسلام جميعًا في وقت واحد، حتى يتفرّق دمه بين القبائل، فلا تستطيع عشيرته المطالبة بدمه.

لكن معية الله مع حبيبه وصفيّه وخليله، إذ أعلمه الله تعالى بمكرهم، ونجّاه من كيدهم، فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه أن ينام في فراشه، وهاجر إلى المدينة مع صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. انظر سيرة ابن هشام.

5- المواجهة المسلحة العسكرية

لقد خاض الرسول عليه الصلاة والسلام مواجهات مسلحة حامية الوطيس، وحروبًا دامية مع الاستكبار الوثني القريشي المتجبر. بدأت بمعركة بدر كأول مواجهة عسكرية كبرى، ذاع صيتها بين القبائل العربية، وأصبحت أخبارها معروفة ومنتشرة على نطاق واسع في شبه جزيرة العرب.

انتصر فيها الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وقُتل زعماء الاستكبار الوثني القريشي المجرم. ثم توالت المواجهات العسكرية المسلحة والمعارك، مثل معركة أحد، والأحزاب، وغيرها، حتى مَنّ الله تعالى على رسوله عليه الصلاة والسلام بفتح مكة المكرمة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. انظر الرحيق المختوم للمباركفوري.