المحور الثاني: المواجهة مع المنافقين
إن أشد وأشرس عدو، والأخطر على الإطلاق – وما زالوا – للرسول عليه الصلاة والسلام وللإسلام والمسلمين، هم جبهة المنافقين. وقد حذّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم منهم، فقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُوفَكُونَ [المنافقون: 4].
وقد نزلت سورة بكاملها في تعريتهم وذمّهم وفضح خططهم الخبيثة ومكائدهم المسمومة (انظر سورة المنافقون)، فواجههم الرسول عليه الصلاة والسلام بحكمة مبصرة سديدة، ومناورة سياسية محنّكة وهادفة؛ فلم يتعرّض لهم بالأذى أو الاستئصال أو القتل، وتركهم يموتون موتتهم الطبيعية؛ لأن الهدف الأسمى للرسول عليه الصلاة والسلام كان هو الدعوة إلى دين الإسلام، ووحدة الأمة الإسلامية، وتثبيت جذور حكم الدولة الإسلامية في أرض شبه جزيرة العرب، حتى لا يقول أعداء الإسلام وخصوم المسلمين إن محمدا عليه الصلاة والسلام يقتل أصحابه المسلمين. روى البخاري رحمه الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه”، لأن المنافقين كانوا يُعلنون الإسلام والمودّة والنصرة للرسول عليه الصلاة والسلام وللإسلام والمسلمين، ولكنهم يُضمرون لهم الكفر والعداوة والكراهية والحقد. وكلّما سنحت لهم الفرصُ، فخّخوا الفخاخ، وتآمروا، وصنعوا الحيل والمكائد، ليكونوا معاولَ هدمٍ ووحوشًا مفترسة.
فما هي أساليبهم وأدواتهم السامة وأسلحتهم في مواجهة الرسول عليه الصلاة والسلام والمسلمين؟
في هذا المقال نحاول كشف بعضٍ منها، إذ إن الحبيب رسول الله عليه الصلاة والسلام عانى شديد العناء من شرورهم وخططهم الشيطانية الخبيثة.
1- المواجهة ببثّ الهزيمة النفسية والإحباط
حاول النفاق الماكر عبر خططه وتحركاته الخبيثة بثَّ الهزيمة والإحباط النفسيَّين والرعب في المسلمين في عدة مواقع وجبهات، خصوصا في الغزوات المصيرية الوجودية للمسلمين، كغزوة بدر وتبوك والغزوات ضد اليهود، وغزوة الأحزاب التي حاصر فيها العدو الوثني المشرك والعدو اليهودي الحاقد المسلمين في جبل سلع في تخوم المدينة المنوّرة.
وبينما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يرفع معنويات الجنود ويُبشّرهم بالنصر وفتح بلاد الإمبراطوريتين العظيمتين: فارس والروم، كان النفاق ينفخ سمَّه في أوساطهم حتى قال بعض المنافقين: “كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وواحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط” 1.
وكانوا سببا رئيسا في هزيمة المسلمين في بعضها، كما حدث في غزوة أُحد، حيث استطاع الماكر رأس النفاق عبد الله بن أُبيّ بن سلول أن يخدع المسلمين موهما إياهم بالخروج معهم لقتال جيش الاستكبار القُرَشي الوثني المكوّن من ثلاثة آلاف مقاتل، ويفوق جيش المسلمين عُدّة وعتادا، حتى إذا وصلوا إلى مشارف ساحة القتال قرب جبل أُحد انسحب بثلث الجيش ليكسر معنويات المسلمين ويَبُثّ فيهم الخوف والهزيمة النفسية والإحباط.
والأدهى والأمرّ من ذلك أن المنافقين استقبلوهم باللوم والشماتة والاستهزاء 2.
2- المواجهة بزعزعة استقرار وأمن الدولة الإسلامية
حاول المنافقون بكل الأسلحة الفتّاكة ضرب وحدة المسلمين وتمزيقها في المدينة المنوّرة؛ تارةً بين الأنصار فيما بينهم؛ الأوس والخزرج، وتارةً بين الأنصار والمهاجرين، وخلق الشقاق وإعادة النعرات الجاهلية وإشعال نار الحرب بينهم، كما حدث في غزوة بني المصطلق 3.
كما حاولوا زعزعة الأمن الروحي للمسلمين بإنشاء مسجدٍ ضرار قربَ مسجد قباء، مستغلّين غزوة الرسول عليه الصلاة والسلام تبوكًا. قال الله تعالى فضحا لخططهم الخسيسة: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَه [التوبة: 107] 4.
والخطرُ أنَّ المنافقين حاولوا زعزعة استقرار بيت الرسول عليه الصلاة والسلام بإشاعة الأكاذيب والافتراءات الباطلة، وتزيينها، والتعرّض لعرض أزواجه – أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين كحادثة الإفك، عندما حاول المنافقون الطعن في عرض النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراء على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد رواه البخاري رحمه الله في كتاب المغازي. ويصف الله خبثَهم في سورة النور: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النور: 11].
3- المواجهة بالخيانة والتحالف مع العدو
سعى المنافقون لإسقاط الدولة النبوية الإسلامية عبر الخيانة المتجذِّرة في أعماقهم؛ يتآمرون ويتخابرون ويتحالفون؛ تارةً مع العدو الحاقد اليهودي، وقد فضحهم الوحي الرباني قائلاً: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر: 11]. وتارةً يتحالفون مع العدو الوثني القرشي المشرك المستكبر ويحرضونه على المسلمين، كما وقع في غزوة الأحزاب 5.
4- المواجهة بالاغتيال والتصفية الجسدية
والأخطر من هذا أن تحرّكاتهم وخططهم الشيطانية وصلت إلى محاولة اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام وهو راجع من غزوة تبوك عند العقبة، وقد رواه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي الطفيل، ونزل فيها الوحي؛ قال الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة: 74].
إن أخطر جبهة واجَهها الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في حراكهم الدعوي الإسلامي الراشد الدؤوب هي جبهة المنافقين. وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعرفهم ويعرف تحرّشاتهم وتحركاتهم وفخاخهم فيفشلها بالحكمة والبصيرة، وكان الوحي ينزل فاضحًا لهم ومبطلًا لمكائدهم ومخططاتهم الخبيثة.
ولكن لما انقطع الوحي الكريم بانتقال الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، تداعى المنافقون على أمة الرسالة الخاتمة، فمزّقوها وفرقّوها ونهشوها وافترسوها كما تفترس السباع فريستها.
والأمة المسلمة اليوم، رغم كثرتها المليارية، تكتوي بسلاح المنافقين المسموم وخياناتهم المتكررة، وغزّةَ الأبية شاهدة على أفعالهم وسياساتهم الماكرة.
اللهم اكفناهم بما شئت وكيف شئت؛ فإنهم لا يعجزونك. اللهم اضرب المنافقين بالمنافقين والظالمين بالظالمين، واخرجنا والمسلمين سالمين غانمين، يا أرحم الراحمين، يا ربّ العالمين.