معالم المواجهة في الرسالة الخاتمة (2) | المواجهة في المدينة المنورة

Cover Image for معالم المواجهة في الرسالة الخاتمة (2) | المواجهة في المدينة المنورة
نشر بتاريخ

المحور الأول: المواجهة مع أهل الكتاب

مع قدوم رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنوّرة وتوحيد القبائل العربية فيها الأوس والخزرج التي كانت بينهما حروب ونزاعات طائفية دامت 150 سنة، وعقد عليه الصلاة والسلام الأخوّة بينهم وبين المكيين المهاجرين، أصبحت للمسلمين دولة مدنية واضحة المعالم، ممّا سيفرز توسع المواجهات مع القوى المتواجدة داخل المدينة: اليهود والمنافقين من جهة، وقوى إقليمية؛ النصارى من جهة أخرى زمن النبوة المحمدية.

أ- المواجهة مع اليهود

نسائل العالم والإنسانية والضمائر الحية جمعاء: لماذا كل هذا الكره والحقد والبغضاء والعداوة والعدوان على الرسول عليه الصلاة والسلام والمسلمين من طرف اليهود إلى يومنا هذا؟ ولماذا هذا العداء للأمم من طرف اليهود؟ ولماذا الديانة اليهودية منكمشة لا تتعدى نسلهم وأجناسهم؟ ولماذا لم يقوموا بتبليغ الوثنيين المتعايشين معهم دين التوحيد في شبه جزيرة العرب؟

فإن عدنا إلى تلمودهم المزور والمحرف وجدنا الأجوبة الشافية الكافية: (نحن شعب الله في الأرض، سُخر لنا الحيوان الإنساني -وأسطر على كلمة «الحيوان الإنساني»- وهو كل الأمم والأجناس؛ سخرهم لنا لأنّه يعلم أنّنا نحتاج إلى نوعين من الحيوان: نوع أعجم كالدواب والأنعام والطير، ونوع كسائر الأمم من أهل الشرق والغرب. إن اليهودي من عنصر الله كالولد من عنصر أبيه، ومن يصفع اليهودي كمن صفع الله، يُباح لإسرائيل اغتصاب مال أي كان، وإن أملاك غير اليهودي كالمال المتروك يحقّ لليهودي أن يمتلكه). فلا غرابة أن تراهم اليوم فوق القانون والمنظّمات الدولية وفوق منظمات حقوق الإنسان، وتراهم يتباكون في المحافل الدولية رافعين شعار: “لا لمعاداة السامية”.

المفروض، لما سمع اليهود بخروج رسول من الله تعالى لتبليغ العالمين الدعوة إليه وترك الشرك بالله تعالى، أن يؤمنوا به وينصرونه ويساندوه في تبليغ الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأنّه رسول منه تعالى، وقد أخبروا من طرف الرسل والأنبياء الذين أُرسلوا إليهم بهذا الأمر الجلل: أمر الرسالة الربانية. جاء في التوراة في سفر التثنية 18:19: «يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبياً من إخوتهم مثلك؛ أجعل كلامي فيه ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلّم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه». وجاء في إنجيل برنابا في الباب 22: «وسيَبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله، الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله»، وقال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ (الأعراف: 157). لكن العكس هو الذي حصل: فاليهود كانوا أشدّ عداوةً للرسول عليه الصلاة والسلام من الوثنيين المشركين؛ بل تحالَفوا مع المشركين عباد الحجر والأصنام والأوثان على دين رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ دين التوحيد، دين آبائهم وأجدادهم الرسل والأنبياء، وهذا ما لا يستسيغه عقل أو منطق سويّ.

فما هي الوسائل والأساليب والأشكال التي واجه بها اليهود الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة؟

1- المواجهة بالعداوة والحقد والحسد

كان حيي بن أخطب، سيد بني النضير بالمدينة وصهر رسول الله عليه الصلاة والسلام، أبا أمِّ المؤمنين صفية رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حقودًا حسودًا شديد العداوة لرسول الله عليه الصلاة والسلام. ولقد كان حيي بن الأخطب وأخوه ممن علموا صدق النبي عليه الصلاة والسلام، لكنّهما لم يسلما عنادًا واستكبارًا، وواجهوا الرسول عليه الصلاة والسلام بالكره والحقد والحسد والعداوة حتى وصل بهم الأمر إلى محاولة اغتياله.

تحكي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها تقول: «سمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟» – أي: هل محمد عليه الصلاة والسلام هو النبي الذي ننتظره الموجود بشارته في كتبنا؟ – «قال حيي بن أخطب: نعم والله. قال أبو ياسر: أتعرِفه وتثبته؟ قال حيي بن أخطب: نعم. قال أبو ياسر: فما في نفسك منه؟ قال حيي بن أخطب: عداؤه، والله ما بقيت» (سيرة ابن هشام، 1/517).

2- المواجهة بنقض العهود والمواثيق والغدر والمؤامرة

لما دخل سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام المدينة المنوّرة واستقر فيها وضع لها دستورًا ينظم العلاقات بين سكانها وطوائفها من خلال توقيع عهود ومواثيق بين المسلمين واليهود على وجه الخصوص، وقد كان المنطق السائد عند رسول الله عليه الصلاة والسلام هو التعايش السلمي مع اليهود باعتبارهم أهل دين التوحيد. وكان همّ الرسول عليه الصلاة والسلام مواجهة الشرك والاستكبار الوثني، وبالتالي أقرّ رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يهود المدينة على الحرية الدينية والعدل بين المسلمين واليهود في الحقوق والواجبات والاستقلال الاقتصادي دون فرض ضرائب أو دفع جزية، والأهم وحدة الدفاع المشترك بين اليهود والمسلمين عن المدينة المنوّرة من أي اعتداء خارجي غادر وتحمل نفقات الحرب. لكنهم نقضوا العهود والمواثيق وتآمروا على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، خانوا الله ورسوله، واصطفّوا إلى جانب الشرك والوثنية وتحالَفوا معهم للقضاء على الدعوة الإسلامية ووأدها قبل المخاض والولادة. فتخابروا مع كفار قريش ومدّوهم بالمعلومات الحربية لجيش المسلمين، وجهّزوهم بالسلاح وحرضوهم على قتال الرسول عليه الصلاة والسلام والمسلمين، ويتضح هذا الأمر جليًا في غزوة بدر وأحد والأحزاب. (انظر: سيرة ابن هشام).

3- المواجهة بالتشكيك والتشويه والتحريض والتفريق

شنّ اليهود على الرسول عليه الصلاة والسلام -وما زالوا- حملات متكررة إعلاميًّا لتشويه صورته وتشكيك الناس في رسالته وتنفيرهم من دينه ودعوته، وتحريض المشركين على قتله، كما فعل اليهودي كعب بن الأشرف لما سافر إلى مكة المكرمة بعد غزوة بدر لتحريض الاستكبار الوثني وتجييشهم ضد المسلمين، فكان يغريهم بشعره التحريضي لغزو المدينة والانتقام من الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يلقي أشعارًا يسبّ فيها الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين ونسائه.

كما سعوا لتفريق المؤمنين وإشعال نار الفتنة والنزاع بينهم وتحريضهم على الحرب، كتذكير الأنصار -الأوس والخزرج- بحرب بعاث في الجاهلية. (انظر: سيرة ابن هشام ص. 556). وكان هدفهم إثارة الفتن والمؤامرات وزعزعة أمنِ واستقرارِ الدولة الإسلامية وإجهاضها في مهدها.

4- المواجهة بالاغتيالات

كانت تصفية واغتيال المخالفين لهم طبعهم وسلوكهم الإجرامي، ومايزال. يقول الله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ (آل عمران: 21). فقد حاولوا بكل الوسائل والأشكال والطرق اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام منذ أن كان طفلاً رضيعًا؛ والحديث روته حليمة السعدية رضي الله عنها مرضعة الرسول صلى الله عليه وسلم (انظر: طبقات ابن سعد بالسند إلى إسحاق بن عبد الله). وحاولوا قتله عليه الصلاة والسلام وهو طفل صغير كان عمره اثنتي عشرة سنة حين رحل مع عمه أبي طالب إلى الشام (انظر: سيرة ابن هشام). وحاولوا اغتياله مرات متكررة: مرة بعد غزوة بدر فنجاه الله تعالى (رواه ابن داود في سننه)، ومرة همّوا بإلقاء حجر عليه فأخبره الوحي بذلك (سيرة ابن إسحاق)، ومرة وضعوا له السم في لحم شاة (رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه).

5- المواجهة العسكرية المسلحة

لقد حرض اليهود القبائل العربية الوثنية وكوّنوا حلفا ضخما وجيشا قويا تعداده عشرة آلاف مقاتل لغزو المدينة المنوّرة والقضاء على الدولة الإسلامية والانتقام من الرسول عليه الصلاة والسلام. وغدر اليهود بالمسلمين ونقضوا العهد الذي كان بينهم، ممّا وضع المسلمين تحت ضغط عسكري من الداخل والخارج؛ لأن اليهود كانوا يقيمون في جنوب شرق المدينة وكان هدفهم وخطتهم ضرب المسلمين المحاصرين في جبل سلع من الخلف. وقد شكل هذا التحالف خطرًا وجوديًّا على المسلمين في المدينة المنوّرة، ولكن الله تعالى نصر عبده ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ فبعث الله تعالى ريحًا شديدة اقتلعت خيام الأحزاب فانصرفوا خائبين وباءت مساعيهم بالفشل الذريع. (انظر: سيرة ابن هشام، ج2/215).

ب- المواجهة مع النصارى

1- المواجهة بالمناظرة والملاعنة والمباهلة

أقبلت وفود نصارى نجران إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما دعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن امتنعوا وكثر جدالهم في عيسى عليه السلام. فدعاهم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المباهلة، أي الدعوة إلى أن يبتهل كل طرف إلى الله تعالى أن يجعل لعنته على الطرف الكاذب، فخافوا وامتنعوا وأبوا. وحديث المباهلة نزل فيه الوحي في سورة آل عمران: 59 و61، ورواه البخاري عن حذيفة رضي الله عنه.

2- المواجهة الحربية

أعظم حرب دامية خاضها الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته في مواجهة نصارى الروم وحلفائهم نصارى العرب الغساسنة كانت غزوة مُؤتة؛ حينما انتفض وغضب الرسول عليه الصلاة والسلام غضبةً لله تعالى لموت رجل مسلم، الصحابي الجليل الحارث بن عمير الأزدي -رسولٌ من رسول الله إلى ملك نصارى الروم- فعرض له أتباعه نصارى العرب الغساسنة فاغتالوه. فأعلن الرسول عليه الصلاة والسلام حربًا عليهم وأرسل لهم جيشًا من خيرة الصحابة وأكابرهم، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، في مواجهة جيش نصارى الروم الضخم الذي كان قوامه مئتا ألف مقاتل. (انظر: السيرة ابن هشام، ج2/378).

قلت: سبحان الله، هكذا كان خلق وسيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ ينتفض ويغضب لمقتل المسلم ويبعث الجيوش للقصاص. والمسلمون في غزة الأبية اليوم يُقتلون ويُذبَحون، ولا من ينتفض لهم ولا يغضب من حكام أمة المليار مسلم. حسبنا الله ونعم الوكيل.