مشروع قانون مالية 2022.. تفاقم للتفاوتات ومزيد من الضرائب والديون

Cover Image for مشروع قانون مالية 2022.. تفاقم للتفاوتات ومزيد من الضرائب والديون
نشر بتاريخ

يُعتبر أي مشروع لقانون المالية عنوانا للإقلاع الاقتصادي والتنمية المرجوة التي تعتزم إحداثه أي حكومة تريد تحقيق برنامجها، تمتلك بموجبه الحق في استخلاص الضرائب، وتسيير أجهزة الدولة ومرافقها، والاستثمار في المشاريع والبنيات التحتية. وبما أن الحكومة الحالية تحضّر أول مشروع لها بعد استلامها المهام المخولة لها، وأمام سقف الوعود الانتخابية التي قدمتها الأحزاب المشكلة لها من جهة، وحدة النقد الذي وجهته وزيرة المالية الحالية للحكومات السابقة، معتبرة أن معدل النمو قد انخفض في التجربتين الحكوميتين السابقتين وارتفعت معه معدلات البطالة، مؤكدة أنه “كان يجب تحقيق نتائج أفضل”، يطرح التساؤل:

ما الجديد الذي أتى به أول مشروع قانون مالية تقدمه التشكيلة الحكومية الجديدة التي سميت بحكومة “الكفاءات” الآتية لتنزيل النموذج التنموي الجديد؟

وما هي أهم التغيرات التي أدخلتها والإجراءات التي اعتمدتها من أجل تجاوز الاختلالات السابقة؟

 

1.    فرضيات المشروع وتوقعاته

ارتكز إعداد مشروع قانون المالية لسنة 2022 على فرضيات أساسية، أهمها أن يبلغ المحصول الفلاحي 80 مليون قنطار من الحبوب، وأن يصل متوسط سعر غاز البوتان إلى 450 دولارا للطن.

المصدر: النموذج التنموي الجديد – التقرير العام

واللافت أن المشروع راهن على تحقيق نسبة نمو تصل إلى %3.2، وهو رقم متواضع جداً كسابقيه، وغير طموح حتى في تنزيل النموذج التنموي الذي اقترح نسبة نمو سنوية لا تقل عن %6 كي تصل إلى 16 ألف دولار من الناتج الداخلي الخام للفرد سنة 2035، فهو بعيد جدا حتى عن البرنامج الذي أتى لتنزيله. هذا ناهيك عن تشكيك كثير من المراقبين في واقعية وهشاشة التوقعات والافتراضات التي بنت عليها الحكومة تقديراتها، بسبب إيقاع الجائحة وما يمكن أن تسببه من أضرار مستمرة على المستوى الدولي والوطني معاً.

والفرضيات حسب الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي إما هشة لأنها لا زالت مرتهنة بشكل شبه كامل لنسبة التساقطات المطرية المؤثرة على المنتوج الفلاحي، وما يؤكد هشاشة التوقع أنه لا أحد يستطيع التنبؤ بما يمكن أن تنتهي إليه السنة، حيث تأرجح المحصول الفلاحي في السنوات الأربعة المنصرمة بين 33 مليون قنطار و103 مليون قنطار. أو هي غير واقعية لأنها توقعت سعرا لغاز البوتان وصل الآن في السوق الدولية إلى ضعف التوقع، وذلك بأكثر من 800 دولار للطن (يتأرجح طن النفط الآن بين 80 و84 دولار، في حين تتوقع الحكومة في فرضيتها 65 دولارا). وكل هذا يعني أن اختلالات كبرى ستحصل وسيكون لها وقع كبير أولا على صندوق المقاصة، ثم على عجز الميزانية، وعجز الميزان التجاري كما يؤكد الخبراء.

2.    عجز الميزانية وزيادة المديونية

تقدم المادة 36 من مشروع قانون المالية صورة إجمالية عن العجز الحقيقي لميزانية الدولة، فالمداخيل العادية تقدر بـ 255 مليار درهم، %90 منها مداخيل جبائية، أمام النفقات العادية التي تقدر بـ 270 مليار درهم (تضم نفقات التسيير من أجور ومعدات ودعم، بالإضافة إلى نفقات فوائد الديون فقط التي تقدر بـ 29 مليار درهم)، لنجد أنفسنا أمام عجز مبدئي يقدر 15 مليار درهم فقط لما هو عادي في الميزانية! يزداد هذا العجز هولا إذا أضفنا إليه ميزانية الاستثمار التي رصدت لها 87 مليار، ونفقات تسديد الديون المقدرة في 61 مليار، فننتهي إلى 164 مليار درهم هي رقم العجز الحقيقي للميزانية.

المصدر: مشروع قانون المالية رقم 76.21 للسنة المالية 2022 – المادة 36

هنا تلتجئ الدولة لتغطية هذه الهوة الكبيرة بالاستناد إلى المديونية، حيث ستقترض الحكومة 105 مليار درهم جديدة، وهو ما يقارب %10 من الناتج الداخلي الخام. ومع ذلك وبهذه القروض سيبقى العجز مستمرا وسيبلغ 59 مليار درهم. وبسبب التراكم في عجز ميزانية الحكومات السابقة، مع اللجوء للاقتراض دائماً لسد هذا العجز، تتضاعف مديونية تزيد في خنق مستقبل البلد. وإذا استحضرنا ما ذكر سابقا من افتراضات غير واقعية، فستضطر الحكومة إلى اللجوء للاقتراض من أجل سد العجز المتوقع في هذه السنة أيضا.

وقد أفادت الخزينة العامة للمملكة بأن تنفيذ قانون المالية لسنة 2021 سجل رصيدا سلبيا بلغ أزيد من 38 مليار درهم. وكشف التقرير المرفق بمشروع قانون المالية حول الدين العمومي، إلى أنه بمتم سنة 2020 بلغ حجم الدين الخارجي العمومي 374.6 مليار درهم، مسجلا ارتفاعا قدره 34.7 مليار درهم أو %10.2 مقارنة مع المستوى المسجل لسنة 2019.

الباحث الاقتصادي والأستاذ الجامعي هشام عطوش اعتبر أننا أمام هذه الأرقام “نغذي الدين بالدين”، فهناك مصاريف من 80 مليار إلى حدود 90 مليارا، في مقابل ما يناهز 100 مليار من الديون. وبالتالي نبقى في نهاية المطاف مدينين. وبهذا تصير المديونية حسب كثير من الباحثين مكونا هيكليا ضمن الاختيارات الاقتصادية القائمة.

3.    الاستمرار في نفس إجراءات الحكومات السابقة

لم يُدخل مشروع قانون المالية الجديد أي تغيير جوهري على الإجراءات الأساسية التي اعتمدتها الحكومتان السابقتان، فالاستمرار في التوظيف بـ”التعاقد” داخل وزارة التربية الوطنية لا زال مستمراً، إذ اقترحت الحكومة إحداث 17 ألف منصبا لفائدة الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، منها 15 ألف منصبا لتوظيف الأساتذة، وألفي منصب لتوظيف أطر الدعم التربوي والأطر الإدارية على مستوى المؤسسات التعليمية.

ورغم أن سياسة التوظيف تسببت في احتقان واسع، بخروج آلاف الأساتذة مطالبين بإسقاطه، مع خوض إضرابات عديدة لإدماجهم في الوظيفة العمومية، إلا أن الحكومة، عكس آمال أساتذة التعاقد بحل ملفهم، تسير في اتجاه تكريس التعاقد وتوسيعه في قطاعات أخرى كقطاع الصحة، في تناقض تام مع وعود انتخابية أطلقتها أحزاب تشكل النسيج الحكومي اليوم بإلغاء سياسة التوظيف بالتعاقد.

يضاف إلى هذا عزم الحكومة الجديدة من خلال المذكرة التقديمية لمشروع القانون على “مواصلة مشروع إصلاح منظومة التقاعد”، معتبرة أن المغرب انخرط في مسلسل إصلاح هيكلي لأنظمة التقاعد وفق مقاربة شمولية تقوم على مرحلتين: الأولى همت “التنزيل التدريجي ابتداء من سنة 2016 للإصلاح المقياسي المستعجل لنظام المعاشات المدنية بالنظر إلى هشاشة توازناته المالية وكذا العجز التقني المسجل”، والمرحلة الثانية من الإصلاح “تهدف على المدى المتوسط إلى إنشاء منظومة القطبين (العمومي والخاص)، في أفق التقارب على المدى البعيد نحو نظام أساسي موحد على المستوى الوطني”.

كل هذا يؤكد أن الحكومة الحالية سائرة بنفس طريق سابقتها، في إجراءين خلّفا سخطا واحتجاجا شعبيا مستمرا، هما التوظيف بالتعاقد، و”إصلاح” صناديق التقاعد.

4.    مداخيل الخزينة في مشروع القانون

من أين يقترح مشروع قانون المالية الإتيان بمداخيل جديدة للخزينة؟ من عائدات الاستثمارات أم من الديون؟ من الضرائب أم بمزيد من الخوصصة؟

تشكل الضرائب حوالي نصف مداخيل الخزينة. ويعتبر النظام الضريبي غير ناجع وغير عادل حسب الاقتصادي أقصبي، فهو عاجز عن تغطية نفقات الدولة في مستوى معقول، ففي الوقت الذي ينبغي أن تغطي المداخيل الضريبية بالمغرب %80 من النفقات على الأقل، لتكون هناك سيادة على الميزانية، نجد، منذ أزيد من عقد، أن معدل الاكتفاء الذاتي الضريبي نزل إلى %60، واليوم انخفضت تغطية الجبايات إلى %55، وحتى بإضافة المداخيل غير الضريبية، قد ترتفع المداخيل في عمومها إلى حوالي %60، ما يعني وجود هوة %40 من الحاجيات. وهذه الهوة ستدفع الدولة إلى اللجوء للمديونية.

على هذا المستوى يسجل على مشروع قانون المالية استمرار نفس الاختلال الذي تعرفه منظومة الضرائب، حيث تعرف لا توازنا ضخما بين الضريبة المباشرة بنسبة %38 (أي الضريبة على الدخل والضريبة على أرباح ومداخيل الشركات) وبين الضرائب غير المباشرة بنسبة %62، رغم أنها ضرائب “عمياء” لا تميز بين الأغنياء والفقراء، فهي تختبئ في أثمنة المواد (TVA- الحقوق الجمركية- الرسوم على الاستهلاك- حقوق التسجيل). والحيف الأكبر المسجل حتى في الضريبة على الدخل، رغم إسهامها الضعيف ضمن الضريبة المباشرة، هو أن النسبة الأكبر يدفعها الأجراء بـ %75 رغم أنهم يشكلون نصف السكان النشيطين فقط، والمداخيل المهنية والعقارية والمالية والفلاحية لا تساهم إلا بأقل من %25.

مشروع قانون المالية اقترح أيضا استخلاص مزيد من الضرائب من جيوب المواطنين، حيث نص على رفع رسم استيراد الأنابيب والمصابيح المتوهجة من %2.5 إلى %40 ضربة واحدة وذلك “في إطار تعزيز النجاعة الطاقية”، وبمبرر “تشجيع استخدام المنتجات ذات الاستهلاك المنخفض”. ونص أيضا على فرض ضريبة داخلية على استهلاك المنتجات والآلات والأجهزة الكهربائية “شائعة الاستهلاك”، وتشمل اللائحة بشكل أولي الثلاجات والمجمدات ومكيفات الهواء وأجهزة غسل أو تجفيف الألبسة وآلات غسل الأواني، حسب مؤشر فئة الاستهلاك الطاقي، بمبالغ تتراوح بين 100 و500 درهم، إلى حين “تحيين اللائحة في إطار المشاورات مع القطاعات الوزارية”. بالإضافة إلى تطبيق رسم بيئي في صيغة ضريبة داخلية على أجهزة التلفاز والهواتف المحمولة والحواسيب المحمولة وحواسيب المكتب والألواح الإلكترونية والبطاريات المخصصة للمركبات.

أما بالنسبة للشركات الصناعية فحسب المذكرة التقديمية لمشروع قانون المالية فهو يسعى في إطار تنزيل الأهداف الأساسية للقانون الإطار المتعلق بالإصلاح الجبائي، الرامي إلى التدريج نحو سعر موحد فيما يخص الضريبة على الشركات، لاسيما بالنسبة للأنشطة الصناعية، فقد اقترح مشروع قانون المالية لسنة 2022، تخفيض السعر الهامشي لجدول الضريبة على الشركات من %28 إلى %27 بالنسبة للشركات الصناعية التي يقل مبلغ ربحها الصافي عن مائة مليون درهم فيما يخص مبلغ ربحها المطابق لرقم أعمالها المحلي، وذلك من أجل “تشجيع الاستثمار المنتج للقيمة المضافة، والمحدث لفرص الشغل ذات الجودة” و”تحفيز المقاولات من أجل دعم تنافسيتها على الصعيد الوطني والدولي”، و”تخفيف العبء الضريبي على القطاع الصناعي، باعتباره أحد القطاعات المنتجة والمحدثة لفرص الشغل”، وقد جرى سابقا تخفيض المعدل الهامشي لجدول الضريبة للشركات الصناعية من %31 إلى %28.

هذا الإجراء في قانون المالية بتخفيض السعر الضريبي بالنسبة للشركات والمقاولات في القطاع الصناعي، يبدو وكأنه تخفيض تستفيد منه كل المقاولات، والحال أن الأرقام الرسمية والإحصاءات -حسب أقصبي- تقول بأن %96 من الشركات تصرح بأرباح أقل من 300 ألف درهم، بمعنى أنها خاضعة لسعر %10 وغير معنية بالتخفيض، وكذلك الشركات التي تصرح بأرباح من 300 ألف درهم إلى مليون درهم خاضعة لسعر %20، ولا يتبقى إلا الشركات الأقل من %1 والتي تصرح بأرباح تفوق مليون درهم هي فقط المعنية بهذا التخفيض، أي أن السياسيات الضريبية للدولة تتجه للمحظوظين، والذين كانوا دائما محظوظين، ولأصحاب الثروات الكبرى.

كما جاء مشروع قانون المالية أيضاً بجملة من الإعفاءات أو التخفيضات الضريبية لفائدة المنعشين العقاريين؛ حيث تستفيد من فرض الضريبة بالسعر المخفض %20 “الدخول الناتجة عن عمليات الإيجار المحققة من طرف المنعشين العقاريين الذين ينجزون في إطار اتفاقية مبرمة مع الدولة وخلال أجل أقصاه ثلاث سنوات برنامجا لبناء أحياء وإقامات ومبان جامعية تتكون على الأقل من 150 غرفة”. كما يستفيدون من إعفاء كلي فيما يخص العقود والأنشطة والدخول المتعلقة بإنجاز برنامج، في إطار اتفاقية مبرمة مع الدولة تكون مشفوعة بدفتر للتحملات، “لبناء 200 سكن بالوسط الحضري أو 50 سكنا بالوسط القروي للمساكن ذات القيمة العقارية المخفضة، موزع على فترة أقصاها خمس سنوات”، بالإضافة إلى الإعفاء من واجبات التسجيل والتنبر فيما يخص العقود والأنشطة.

علاوة على ذلك يستفيد المنعشون العقاريون من إعفاء كلي لمدة ثمان سنوات على الأكثر من الضريبة على الشركات برسم الدخول المهنية المرتبطة بالكراء، أو برسم زائد القيمة المحقق في حالة تفويت المساكن بعد انقضاء مدة 8 سنوات بالنسبة للمؤجرين الذين يبرمون اتفاقية مع الدولة يكون الغرض منها اقتناء 25 سكنا اجتماعيا على الأقل قصد تخصيصها للكراء لمدة ثمان سنوات على الأقل لأجل استعمالها للسكن الرئيسي من الإعفاء لمدة 8 سنوات على الأكثر ابتداء من سنة إبرام أول عقد للإيجار. بالإضافة إلى أنه بصرف النظر عن جميع الأحكام المخالفة، مُنح أجل إضافي مدته سنة للمنعشين العقاريين الذين أبرموا مع الدولة اتفاقيات من أجل إنجاز برامج بناء مساكن اجتماعية والذين حصلوا على رخصة بناء قبل تاريخ بداية حالة الطوارئ الصحية.

كل هذه الإجراءات الضريبية وغيرها مما ورد في مشروع قانون المالية اعتبرها المحلل الاقتصادي نجيب أقصبي غير متضمنةٍ للإصلاحات الضريبية الجوهرية المطلوبة، فالمشروع لا يتضمن أية إجراءات من شأنها توسعة الوعاء الضريبي، عبر البحث عن الأماكن المعفية كليا أو جزئيا أو التي تتهرب من الضريبة، فمجموعة من الثغرات يتضمنها القانون المتعلق بالضريبة على الشركات، تجعل ثلثي الشركات لا تؤدي شيئا لأنها تصرح بالخسارة وليس بالربح، ما يجعلها غير معنية بهذه الضريبة، والثلث الباقي لا يصرح أغلبه بالأرباح الحقيقية، ويخفض من أرباحه عبر مجموعة من الطرق، حتى يخفض من حجم الضريبة. وفي النهاية يحصل العكس، فبدل أن يتوسع الوعاء الضريبي فهو يزداد تقلصا، بحكم الامتيازات وغيرها، ملقيا بثقله على الطبقات الوسطى والفقيرة.

وقد كشف مشروع قانون المالية لجوء الحكومة إلى مزيد من الخوصصة، حيث أن 5 ملايير درهم من المداخيل ستأتي من تفويت مساهمات الدولة، دون أن يحدد المشروع ما هي المساهمات التي سيتم تفويتها.

إذاً يقوم مشروع قانون المالية بزيادة الضرائب على المواطنين والشركات الصغيرة، فيما يعفي الشركات الكبرى، ويعطي مزيدا من الامتيازات الضريبية لكثير من القطاعات، دون مراجعة هذه الامتيازات التي لا تحقق أي مردودية. مما يعني تكريسا لمزيد من الفوارق الاجتماعية، حين يغرق فئات ضعيفة بالضرائب، ويمتنع عن تضريب الثروة.

هذا ولم تكلف الحكومة نفسها عناء البحث عن موارد جديدة، من قبيل جنة الريع التي ينعم فيها كثير من “المحظوظين”، بسبب افتقادها الجرأة اللازمة، لتلجأ في المقابل إلى مزيد من الخوصصة وتفويت مساهمات الدولة.

5.    الاستثمار

يؤثر الاستثمار العمومي بشكل كبير على اقتصاد البلد، حيث يحركه ويحفزه على التطور المتكامل، وعلى أساسه بإمكاننا التمييز حسب الباحثين بين الميزانية التوسعية والمتقشفة، وبه أيضا نستطيع تحديد طبيعة الدولة.

وفي هذا الصدد، قدم مشروع قانون المالية مبلغ 245 مليار درهم كمجموع للاستثمار العمومي (الاستثمار المرصود في الميزانية العامة، واستثمار الحسابات الخصوصية للخزينة، والجماعات الترابية، والمقاولات والمؤسسات العمومية، ثم صندوق محمد السادس للاستثمار)، ورغم أن الرقم يبدو ضخما، لكن الخبراء يشيرون إلى أنه حين القيام بتدقيق الأرقام واقعيا نجدها ضعيفة، لأن هناك فرقا بين الرقم المتوقع وما سينجز فعليا، حيث يتراوح معدل الإنجاز بين %60 و%80، أي أننا سنصل إلى مبلغ 170 مليار درهم على أفضل التوقعات. وإذا أضيفت لهذا الرقم العديد من الاختلالات في الإنجاز، والتي توقفت عندها التقارير الرسمية، بالإضافة إلى مناطق الظل بخصوص تحويلات الميزانية العامة إلى المقاولات والمؤسسات العمومية والحسابات الخصوصية للخزينة، فإننا ننتهي إلى أن الاستثمار العمومي، رغم أهميته، لا يستطيع تحقيق أي من النتائج المنتظرة، المعوّل عليها في تنمية البلد، نظرا لغياب ربط حقيقي للمسؤولية بالمحاسبة، وعدم القطع مع روابط الريع والاحتكار، وتغييب المنافسة الشريفة والعادلة.

نقطة أخرى يضيفها الملاحظون مستغربين كيف سنستثمر 245 مليارا ونكتفي رغم ذلك بنسبة %3.2 نمو متوقع فقط؟ فهناك علاقة بين مجهود الاستثمار ونسبة النمو، كلما ارتفع الأول ارتفع الثاني، إلا أن تجربة 15 سنة سابقة تبين أن مشكل نموذج النمو بالمغرب هو أنه لا يؤدي لا لنمو كاف ولا لخلق مناصب شغل كافية.

دراسة سابقة للمندوبية السامية للتخطيط سنة 2015، بيّنت بأن المغرب يحتاج إلى 8 نقاط في الاستثمار لكي يحقق نقطة واحدة من النمو، مع أنه مثلا في آسيا هناك بلدان تحتاج إلى 3 أو 4 نقاط من الاستثمار لكي يحققوا نقطة واحدة من النمو. الآن سيصعد المجهود الاستثماري إلى %31، وهو مجهود حقيقي ومهم حسب المراقبين، لكننا إذا قسمنا الرقم الاستثماري على نسبة النمو المحققة نصل إلى رقم كارثي، يؤكد أننا في دوامة استثمارات لا تؤدي لا لتنمية ولا لنمو ولا لتشغيل.

وحتى عندما نقارن هذا الرقم المخصص للاستثمار، فهو لا يرقى بتاتا إلى الاستثمارات الخاصة بـ”الحيتان” الكبرى في البلد، والتي تتوسع مجالات أعمالها، وتتضاعف أرباحها في القوائم الدولية لتصنيف الثراء الفاحش. وكل هذا يعزز فرضية أن العجز والفشل في الاستثمار العام مرده إلى لوبيات نافذة تضغط حتى تفرض نمو استثماراتها الخاصة على حساب الاستثمار العمومي للبلد.

أخيراً لم يدخل أي تغيير جوهري على ميزانية الحسابات الخصوصية للخزينة المعروفة إعلاميا باسم “الصناديق السوداء”، باستثناء حذف الحساب المرصد لأمور خصوصية المسمى “صندوق الاستثمار الاستراتيجي”، الذي سيحذف في فاتح يناير 2022. لتبقى نفس الميزانية المرصودة لـ 68 حساباً خصوصيا تقارب 90 مليار درهم.

6.    التشغيل

تعلن الحكومة إيلاءها أهمية كبرى لورش التشغيل باعتباره ورشا اقتصاديا يتعلق بخلق الثروة أساسا، واجتماعيا أيضا لأنه عامل من عوامل الإدماج. لكن عدد المناصب المالية في الوظيفية العمومية التي أعلن مشروع قانون المالية إحداثها هو 26 ألف و860 منصبا، والصادم أن القطاعات ذات الأولوية كانت بالنسبة للحكومة، في سياق جائحة كورونا، مخالفا للمتوقع، حيث استأثرت إدارة الدفاع الوطني ووزارة الداخلية بأغلبيتها (بنسبة %64 من مجموع المناصب المالية)، بما يصل إلى 10 آلاف و800 منصب مالي لإدارة الدفاع الوطني، تليها مباشرة وزارة الداخلية ب 6544 منصبا ماليا. ورغم أننا لا زلنا في ظل الجائحة، فمناصب الشغل بوزارة الصحة لم تتجاوز 5000 منصبا، في حين أن النموذج التنموي نفسه يتحدث عن خصاص يتجاوز 95 ألف إطار، منها 30 ألف طبيب، والبقية للممرضين.

والأمرّ من كل هذا هو أن عدد مناصب الشغل المعلن عنها بالمقارنة مع نسبة البطالة، وبالنظر لما روّج له في البرامج الانتخابية، تحول سريعا إلى سراب. حيث وعدت البرامج الانتخابية للحزب المتصدر بمليوني منصب شغل، في حين اكتفى البرنامج الحكومي بمليون منصب شغل إضافي في الخمس سنوات المقبلة، ولم يدرج في مشروع الميزانية سوى إحداث 250 ألف منصب شغل مباشر خلال السنتين القادمتين.

 

وقد سجل المراقبون تناقضات غريبة في الأرقام المعلنة، حيث أكد المحلل الاقتصادي أبو بكر الجامعي أن نسبة نمو %1 تعني القدرة على خلق 30 ألف منصب شغل، بمعنى أن نسبة نمو %3.2 تعني القدرة على خلق 96 ألف منصب شغل، ما يعني أن الأرقام التي تقدم غير واقعية. وأورد الخبير الاقتصادي فؤاد عبد المومني عدم انسجام ما وعدت به الحكومة من مناصب شغل والذي “لن يغطي حتى الوافدين الإضافيين على سوق الشغل (370 ألفا سنويا، أي مليون و650 ألف شخص خلال الولاية)”، مضيفا في حوار إعلامي منشور له أنه “حسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2015، والتي لم تزدد إلا تدهوراً، فمن بين أزيد من 24 مليونا في سن الشغل، هناك مليون عاطل عن العمل، وما يقارب من 3 ملايين عاملين بالقطاع غير المهيكل، وأزيد من 16 مليون شخص هم ساكنة دون عمل لائق مُدِرٍّ للدخل، بالإضافة إلى أزيد من مليونين مساعدين عائليين غير مأجورين، و10 ملايين غير متمدرسين وغير نشيطين”.

وأكد عبد المومني أنه “إذا أراد المغرب فقط أن يحافظ على نسبة التشغيل التي يتوفر عليها، يجب أن تستقر نسبة نموه بين 6 و8 %، وكل سنة لا نصل فيها إلى 6 % على الأقل فإننا نضيف إلى جيش العطالة أرقاما أخرى. وعليها ألا تغرّنا نسب العاطلين عن العمل المعلنة رسميا، لأن هناك مشكل حقيقي في إحصاء العاطلين”.

فيما أشار أقصبي إلى أن تصريح وزيرة المالية بأن هناك غلافا ماليا بـ 2 مليار و250 مليون درهم سيرصد لاستحداث نصف هذه المناصب الـ 250 ألفا أي 125 ألف منصب، فبالقيام بعملية بسيطة لاقتسام هذا الغلاف على عدد المناصب المخصصة ستعطينا 18 ألف درهم في السنة للمنصب، أي 1500 درهم كأجرة لكل عامل. هذا يعني حسب أقصبي أننا نتحدث في أحسن الظروف عن الإنعاش الوطني، أي مناصب شغل هشة، لا تحترم فيها الدولة قانون الشغل، لأن الحد الأدنى للأجور هو 2700 إلى 2800 درهم. فالحكومة تعدنا رسميا، أنها إذا استطاعت استحداث هاته المناصب بهذا المبلغ الهزيل، فهي تسميها “مناصب شغل”، وكل هذا تأكيد على عدم الجدية في التنبؤ والتحضير للمشاريع.

ختاماً:

يمكننا استخلاص أن العنوان الكبير لمشروع قانون المالية لسنة 2022 هو الاستمرارية، مع بعض التعديلات، وذلك بعيداً كل البعد عن الشعارات والأحلام والوعود التي رفعها ويرفعها من “حملتهم” الانتخابات إلى قيادة التجربة الحكومية الحالية، حيث يمعن في زيادة حجم وأصناف الضرائب على المواطنين، ورفع اليد التدريجي للدولة عن دعم المواد الأساسية في ظل ارتفاع غير مسبوق للأسعار، مع منح الامتيازات والإعفاءات دون تقييم. يضاف إلى هذا تفاقم العجز المالي العام والاستمرار في الغرق في دوامة المديونية التي تعني مزيدا من تضييق الخناق على الخزينة العمومية بمستحقات تسديد الديون، وكذا الخضوع لشروط الدائنين بالمزيد من تخلي الدولة عن الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية التي تمس حياة المواطنين.

تدني نسبة النمو بدورها التي تقترحها الحكومة، مع ضياع ميزانية الاستثمار، سيؤديان إلى تقلص فرص الشغل وضياع الموجود منها وبالتالي تفاقم حاد للبطالة. ومع استمرار تهريب الثروة، وتوسع غنى الفئات “المحظوظة” المستحوذة على خيرات البلد ومقدراتها، ودون محاربة التهرب الضريبي، وتجريم الإثراء غير المشروع، وفرض ضريبة تصاعدية على الثروات الكبرى، يعني في النهاية أنه لا توجد إرادة حقيقية لإنعاش الاقتصاد الوطني وتقدم البلد وانتشاله من واقع التخلف، طالما لا يتم إعادة النظر في الاختيارات الرئيسة التي أدت إلى هذا الوضع.