مسيرة الأربعين في تاريخ العدل والإحسان (4).. الشعار والدثار

Cover Image for مسيرة الأربعين في تاريخ العدل والإحسان (4).. الشعار والدثار
نشر بتاريخ

مسيرة الأربعين في تاريخ العدل والإحسان

نظرات وثمرات -4-

جماعة العدل والإحسان: الشعار والدثار

في هذا الجزء من هذه النظرات نجمل الحديث عن هوية جماعة العدل والإحسان، ونعمم القول في أهدافها وغاياتها، ونوجز في بيان تصورها ورؤيتها المنهاجية، قاصدين الدلالة على هذا النموذج الماثل الذي استطاع بناءه وتشييده الإمام عبد السلام ياسين بمعية ثلة من الرجال ترجم به التصور إلى سلوك، والعلم إلى عمل، والخطبة إلى خطوة. على أن نستجمع في آخر القول بضع ثمرات تكون صوى للذكرى والاعتبار.

حزب أم زاوية؟

جماعة العدل والإحسان حزب سياسي أو تناوم ودروشة؟ سؤال كان الإمام عبد السلام ياسين قد طرحه ليوجّه أنظار المتسائلين عن هوية الجماعة إلى هذه القوالب الجاهزة المحنطة للفكر المضيقة للأفق، والتي لا ترى في الحركة المجتمعية إلا نموذج الحزب السياسي الغارق في تفاصيل الحياة السياسية والنضال الحقوقي، المغيب من دائرة أسئلته سؤاله الوجودي وخبر ما بعد الدنيا، أو نموذج الزاوية الصوفية الغارقة في تفاصيل التزكية المنغلقة عن واقع الناس ودنيا الناس، وبين النموذجين طبعا إشارة خفية إلى نموذج ثالث هو النموذج الثقافي الفكري الغارق هو الآخر في لجج الجدال الفكري والنقاش الثقافي الملخص أزمة الناس والمجتمع في ما يملأ أدمغة العالمين من نظريات ثقافية وعقلية. والسؤال إذ ينتقد ضمنا النماذج الثلاثة في الحركية المجتمعية: سياسة غائبة عن سياسة النفس، وزاوية قاعدة عن واقع المستضعفين، وإسلام ثقافي همه النظريات، إنما يريد أن يوجه النظر إلى خط رابع إن شئنا في التوجه البنائي للفرد والجماعة. من هنا من يسأل عن هوية جماعة العدل والإحسان يجد الجواب بأنها جماعة توبة ودعوة.

تقدم جماعة العدل والإحسان نفسها بكونها جماعة من المؤمنين، وليست جماعة المؤمنين، بما يدل على أنها لا تحتكر الحديث عن الإسلام، ولا تنفي اجتهادات غيرها من دائرة الإسلام. كما تقدم نفسها باعتبارها حركة مجتمعية مغربية المحتد والمنشأ؛ فهي على هذا تيار مجتمعي مغربي أصيل، لا تقطع نفسها عن أصولها الإسلامية لكن بهمة مرتفعة إلى النموذج النبوي السامق ونموذجها التربوي في الخلافة الراشدة الأولى، ولا  تنفي انتسابها إلى دائرة الحركات الإسلامية لكن باجتهاد مجدد في قراءتها للتراث الإسلامي وفي تصوراتها لما ينبغي أن يكون عليه التغيير الذي يستحق وسم الإسلامية الحقة.

 لا ترضى دعوة جماعة العدل والإحسان بهدف اجتماعي سياسي دون العدل على شريعة الله، ولا ترضى بغاية تتطلع إليها همم المؤمنين والمؤمنات دون الإحسان. الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، الإحسان أن تحسن إلى الناس، الإحسان أن يحسُن عملك، الإحسان أن تُجيدَ وتفيد. وهو ما يعني أن شعار العدل والإحسان يترجم بصفة جامعة التصور العام لما تريده الجماعة عبر هذا الدمج بين المطلب الأرضي الاستخلافي هدفا والغاية الإحسانية الإيمانية. العدل أمر الله فينا شورى في حكم راشد ورشيد، وقسمة بالسوية في الأرزاق، وعدالة وكرامة وحرية في المجتمع. والإحسان غاية الغايات التي تشرئب لها همم المؤمنين إرادة لوجه الله وطلبا لرضاه، ومعاملة بالخلق الحسن لخلق الله عامة، وإتقانا للعمل تخطيطا وتنفيذا وتقويما.

منهاج علم وعمل

إن مما يمكن أن نضعه في اعتبار قراءتنا لتجربة العدل والإحسان في السياق المغربي والسياق الإسلامي والعالمي، تركيزها على ثلاثية المنهاج، والمشروع، والربانية. من هنا هذا الإلحاح الدائم في كتابات الإمام عبد السلام ياسين وفي الخطاب الفكري للجماعة على ضرورة التوفر على أداة تصورية تكون المنهاج الموجه للسلوك، وأهمية تقديم التجربة العينية والنموذج الماثل في أرض الواقع لاستجلاء جدلية الفكرة والممارسة، والرؤية والأداة، والنظر والواقع. ثم التركيز على حتمية إحياء الربانية في الأمة لتعمر أنوار الإيمان القلوب فتشع فهما سديدا في العقول، وتوفيقا وبركة في الفعل والحركة على نحو يعيد جمع مختلف الأبعاد المشكلة للشخصية البشرية، ويعيد بناء الشخصية الإسلامية الوارثة التي ضيعتها عوامل التعرية التي تلت سنوات الرشد الأولى.

 في فهم الجماعة لا يغني تلمس مختلف الوسائل وانتهاز كل الطرق لتحقيق غاية الوصول إلى تحكيم الإسلام في المجتمع إن تنكب الفاعل الإسلامي عن الشرع الرباني والسنة النبوية، لذا اقتضى مسمى التغيير الحقيقي في سلوك الجماعة الدعوي الحرص على الوعي بأهمية تمثل السلوك النبوي في التربية التي بنت الرجال وأبدعت العظماء، وخَرَّجت النخبة الإنسانية التي بدلت وجه العالم وبسطت يد الرحمة في العالمين. بغير هذه التربية التي يصنعها المنهاج النبوي لن يدرك التغيير العميق والسريع والواسع.

كان مما وقر في الوعي التنظيري حتى غدا قناعة راسخة، ومسلمة فكرية حتى لا نقول إيديولوجية عند الإمام عبد السلام ياسين، أن لا تغيير يرجى من منظور إسلامي يستحق أن يحمل وسم الإسلامية رسما ومعنى إلا بالنهج الذي غير به النبي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسدد وحيا أفرادا كان يحيون في جاهلية جهلاء، لذا كان الثابت في تصوره للتغيير المنشود التأكيد منذ أزل بعيد على الحاجة إلى اكتشاف المنهاج النبوي الذي يضع يدنا على الوصفة التي استطاع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحدث في ذلك الزمن القصير في عرف التغيير الحضاري ذلكم التحول العميق في الشخصية العربية في جزيرة العرب الغارقة في جاهلية العنف والتبرج والتسيب الأخلاقي الذي قد  يظهر لنا بفعل البعد الزمني وكأنه سراب أحلام أو خرافات أوهام.

 تمتلك الجماعة إذن، منهاج عمل هو مخطط لهندسة التربية والتنظيم والزحف، ومفتاح جامع للنظر والتجربة، وللفكر والممارسة. وهو آلة للعلم، ومرشد للعمل. وهو علم بكيفيات تربية الإنسان، وتنظيم الجماعة، وتوجيه الفعل المجتمعي الحركي على كافة الأصعدة. يضع الإنسان موضوعا أساسيا له، ويضع للتغيير رؤية وغاية وأهدافا، ويرتب لذلك كله الأولويات والمراحل والوسائل، ويحدد العقبات والتحديات، ويرسم حدود التكتيكات والاستراتيجيات.

روابط وثوابت

إذا كان الوعي بأهمية تسطير أرضية تصورية وبرنامج عمل عيني قد وصف في زمن كانت السرية فيه رائدة بالتهور وكشف الظهر للعدو، فإن الإمام عبد السلام ياسين كان حاسما في رفض ما سماه في مقدمة كتابه المنهاج النبوي بالانكفاء من “ميادين الفكر المتفاعل في ميدان الصراع الثقافي إلى منظومات أفكار مبرمجة متوقفة عن النمو”، وذلك مخافة السقوط في “ضمور الفكر في غلس التخفي”، والوقوع في “انحرف العمل في الضالات الحركي”. كما كان حاسما في موضوع أهمية الوضوح في الكشف عن أساليب التربية والتنظيم مخافة السقوط في الخنق التي تصنعه عملية التهميش التي قد لا تستطيع المؤامرات بلوغه.

تركز جماعة العدل والإحسان على معنى وحدة التصور، ووحدة الإرادة، ووحدة الجهاد، وكل المعاني التي تمركز نبذ الخلاف واللجاج والجدال والحجاج غير المجدي. من هنا ترى الجماعة أن الجسم التنظيمي لا بدّ له من معنى عضوي جامع يمثل روابط معنوية تكون الروح التي تضمن الاتساق والانسجام والانتظام والاستقامة التي  تمضي على رشاد و تقود إلى الرشاد. من هنا الحديث الدائم عن النواظم الثلاثة الحاسمة في تقوية لحمة هذا الجسم التنظيمي وجمع شتاته، وتوحيد وجهته. وهي: الحب في الله بما يبثه في قلب الفرد والجماعة من أنوار التواد والتراحم والتعاطف، وما يحققه من معاني الأخوة والتحاب في الله، وما ينجم عن ذلك من روابط الولاية والتآلف التي تحقق متانة الصف، وتبني معنى الجماعة القوية الرحيمة “أشداء على الكفار، رحماء بينهم”. ثم تأتي الناظمة الثانية متجسدة في النصيحة والشورى لتضع القواعد الكلية البانية للتعبير الحر عن الرأي والحوار لاتخاذ القرار على أرضية الصدق في النصح لله ولرسوله وللقيادة. وبعد المحبة والشورى يأتي التنفيذ والطاعة والمسارعة للعمل الجماعي كل في دائرة اختصاصه من دون توان ولا كلل، فيُعْصَم الأمر الجماعي من الفرقة والتنازع وحب الرئاسة والظهور القاصم للظهور.

تشتغل الجماعة في عملها التربوي على تقوية توزين العامل الذاتي بتربية الإيمان في القلوب، وعلى شد وتصليب الجسم التنظيمي بتربية معاني الجندية في الصف، وعلى توجيه وتسديد الحركة بتنمية معاني الفاعلية والنجاعة والعمل الدؤوب المتئد الصاعد إلى ذروة الجهاد بمعانيه المتعددة والمتكاملة والمتوازنة. وترى أن لا بد لذلك من صحبة دالة على الله، وجماعة محتضنة للدعوة، وصدق يعبر عن هذا الاستعداد الذاتي للتحلي بالخصال العشر وشعب الإيمان بعددها الواسع بما هي ركائز سلوكية، وأعمال منتجة للإيمان، وأعمال ناتجة عن الإيمان، ومواقف قلبية باطنية موجهة لعمل المومن، وبما هي مضمون للإسلام ومحتوى للإيمان.

تضع الجماعة لأعضائها برنامجا عمليا يمكنهم من تنظيم تدبير ذواتهم وتنظيم وقتهم، وذلك من خلال جملة من الأعمال التي تمثل ثوابت تربوية تخرج بالفرد المؤمن من زمن العادة إلى زمن العبادة، وتشمل عددا من الأوراد التي يحرص الأعضاء على القيام بها لتثبت أقدامهم في طريق الإيمان دعاء وقراءة للقرآن وللسور والآيات الفاضلة، وذكر تطهير وتنوير وتعمير، وقيام ليل، وغير ذلك من الأعمال الدعوية والتربوية المشروطة كلها بالتوازن والتكامل تجنبا للزهادة المتناومة، والفكرية المتكلمة، والحركية الجوفاء، وكلها أدواء مخلة بتوازن التربية ضامنة لتفشي الخلل في التنظيم، مؤدية للفشل في الجهاد.

ومع الثوابت التربوية الإيمانية تضع الجماعة برامج علمية تشمل العلوم الشرعية والعقلية، ومختلف ما يدخل في إطار العلم النافع والرافع دنيا وأخرى، مشجعة على الاجتهاد في التخصصات المختلفة. لكن ذلك من منظور يجدد معنى العلم ووظيفة العالم، ويميز بين العلم الحق الذي هو علم الوحي والسنة، وبين العلوم بصيغة الجمع التي تحتاج إلى أن تكون موجهة لخدمة غايات النهوض الحضاري وبناء القوة للأمة. وكذا من منظور يروم التأسيس لاجتهاد جماعي للفقه جامع يعيد قراءة التراث الإسلامي والإنساني قراءة متجددة من أعالي التاريخ بعيون القرآن والسنة الشاهدة، وبفهم متجدد، وإرادة متحررة، وأفق مستبشر بمستقبل الأمل لغد الإسلام وغد العالم.

في الجانب السياسي تبني جماعة العدل والإحسان للسياسة فهما يجعلها تدافعا في ساحة الواقع تهمما بأمر الناس ونصرة للمستضعفين. مؤسسة لخط سياسي يقوم على معنيي العصيان والنصيحة: عصيان الحكام لعصيانهم لله تعالى، والنصح الرفيق لهم أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وتحملا لثمن لكلمة الحق ثباتا في الميدان. كل هذا مع إيمان بمبادئ ثلاثة راسخة مؤطرة ترفض غلس السرية، وتهم العمالة والاستقواء بالأجنبي، ومهاوي العنف و سفك الدماء. وتعرض الجماعة على الناس مقابل رفضها لواقع الجبر والاستبداد والفساد مشروعا مجتمعيا تسميه “العمران الأخوي” قاعدته العدل وجماله الإحسان، وغايته توفير البنية العدلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تسمح للإنسان بمعرفة الله تعالى والعيش في مجتمع يضمن له الحرية والعدالة والكرامة، ويمكنه من الجمع بين مختلف الوسائل المادية لعمارة الأرض بالخير عوض الفساد والإفساد فيها، وبين مختلف معاني التضامن والتكافل والأخوة الإيمانية والروابط الإنسانية.

من الثمرات التي يمكننا استفادتها من عرضنا لهوية جماعة العدل والإحسان، وتصورها المنهاجي في التربية والتنظيم والسياسة ما يلي:

–  جماعة العدل والإحسان جماعة مغربية المنشأ، إسلامية المرجعية، لها تصورها التجديدي تربويا وفكريا وسياسيا. لا تستنسخ ولا تلتقط آراء غيرها ولا تجاربهم، لكن تستفيد من الكل، وتقدم مقترحاتها، لذا فهي تستحق أن يسمع لها ولما تعرضه على بساط الحوار الهادئ دون إقصاء ولا إزراء.

–  ليست الجماعة حزبا سياسيا، ولا توجها فكريا، ولا زاوية صوفية. من ثمة فليس من المجدي قراءتها خارج ما تقدمه هي عن نفسها، وخارج ما تمارسه من فعل تربوي وسياسي ماثل في الواقع. وليست تجدي الأحكام المسبقة والتهم البائدة والقوالب الجاهزة في فهم الجماعة تصورا وسلوكا.

–  ليست السياسة في فهم جماعة العدل والإحسان سباقا محموما نحو الكراسي، إنما هي بذل الجهد الجهيد لنصرة المستضعفين، والوقوف الصادق الصامد ضد جبر الحكام، وفساد الحكم، وضياع القيم، بقوة من غير عنف، وبرفق من غير ضعف.

–  ليست التربية الإيمانية التي تريدها جماعة العدل والإحسان كلاما إنشائيا وخطبا تعبيرية، بل هي حبس للنفس وأخذ شديد بتلابيبها وبشهواتها في مجالس المرابطة والذكر والقيام والصبر والمصابرة. وليس يغني الحديث هنا، إنما الذي تغني التجربة الشخصية فعليها مدار الأمر مبتدأ ومنتهى.

–   ليست جماعة العدل والإحسان بالتي تستعجل قطف الثمار؛ فالتغيير عندها يحتاج إلى تربية، والتربية تحتاج إلى أجيال وأجيال. وعليه فالأفق ممتد، والعمل متئد، والنهج قصد قاصد لا تستفزه عوائق مُضَيِّقات، ولا تستخفه بوارق خداعات، ولا تزيغه وعود براقات.

وجماع المسألة في الختام أن جماعة العدل والإحسان تجربة دعوية تربوية فكرية سياسية تستحق من كل ذي لُبٍّ لبيب، ومن كل باحث عن الحق منصف أن يُستمَع لها، وينظر فيها النظر الموضوعي العلمي عسى يكون في ما تقدمه تنظيرا وما تمارسه سلوكا ما يكون إضافة جديرة بالاهتمام إلى جانب ما يعرضه كل العقلاء من ذوي المروءات وأهل الفضل خدمة لصلاح العباد وإنقاذا للبلاد. والله الهادي إلى الصواب.