مساجدُ اللهِ.. عِمارتها وعُمّارها

Cover Image for مساجدُ اللهِ.. عِمارتها وعُمّارها
نشر بتاريخ

مقـدمة

ليس من الصدف أن يكون أول عمل يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم حين وصل إلى المدينة قادما من مكة ومهاجرا هو بناء المسجد. ذلك المحضن الذي جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يتلقون فيه التربية النبوية ويتعلمون العلم النبوي، ثم منه يخرجون إلى الدنيا للعمل والدعوة والجهاد. ولما كان الصحابة رضي الله عنهم يومئذ يبنون المسجد ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقول قولا جميلا فيرد الصحابة عليه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة

فانصر 1 الأنصار والمهاجرة

فيجيبونه:

نحن الذين بايعوا محمدا

على الجهاد ما بقينا أبدا

وهذا القول الموزون يبين أن من أهداف تأسيس المسجد أولا: تحقيق عيش الآخرة وهو مطلب الإحسان، وثانيا: تحقيق النصر بالبيعة الجهادية وهو مطلب العدل.

والمسجد هو بيت الله الذي يقصده زواره من المسلمين والمؤمنين لأداء عبادة الصلاة تقربا إلى الله تعالى في بعدها الجماعي كصلاتي الجماعة والجمعة. هو المعقل، هو المعهد، هو المدرسة، هو المؤسسة، هو كلّ شيء في حياة الأمة يرفع لها علما ويمنحها مكانة بين الأمم. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في كتابه المنهاج النبوي: “محضن الرجال، ومدرسة العلماء، ومحراب المتبتلين، ودائرة قيادة الجهاد، مجلس الشورى والإيمان: المسجد”.

وكما كان للمسجد عبر التاريخ في حياة المسلمين وظائف متنوعة، كان له أيضا عمّاره من المؤمنين يعمرونه ويحرسونه ويصونونه معنويا وماديا من أن يُخرّب أو تحرّف أدواره والأهداف التي أسّس لتحقيقها. يقول الله تعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين 2.

فما هي محورية المساجد في حياة الأمة؟ وما وظائفها؟ وما هي وسائل وطرق عِمارتها ومواصفات عُمارها؟

محورية المسجد في حياة الفرد والمجتمع

المساجد هي زينة الدنيا وبهجتها، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض، يجتمع فيها المسلمون للعبادة وذكر الله وللعلم وفقه دين الله، وللتشاور وعقد ألوية الجهاد في سبيل الله. وهذا مما يعطي للمساجد مكانة ودورا في حياة الفرد والمجتمع والأمة. فلا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال. ومما يعطي للمساجد أهمية ومكانة أيضا ارتباطها بأهمّ العبادات وأعظمِها وهي الصلاة. ولمعرفة هذه المكانة التي تتبوأها المساجد في حياة الأمة يكفي أن نقارن بين تاريخٍ أُعطيت فيه للمساجد دورها الكامل، فكانت النتائج ما ترويه لنا الكتب من تخريج علماء ومجاهدين ومصلحين ساهموا في بناء صرْح الإسلام، وتاريخٍ حوصرت فيه المساجد وأُمّمت ومنعت من أداء دورها، فكانت النتائج ليس ما نقرأه بل ما نراه من غثائية الأمة كغثاء السيل، ومن أشباه الرجال ولا رجال، كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه. يقول الله تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا 3.

فإذا كانت الحياة تفرق الناس فإن المسجد يجمعهم ويوحدهم، فهو مدرسة يومية للتآلف والمساواة والوحدة. وتتوج هذه اللقاءات اليومية للصلاة في المسجد بلقاء كبير هو يوم الجمعة في تعبير حضاري شكلا ومضمونا.

وظائف المسجد

للمسجد وظائف عديدة تطال عدة جوانب من حياة المؤمن إن لم نقل كلها. فهو محضن للتربية على الإيمان، وهو معهد لتلقي العلم النافع، وهو المركز لالتقاء المسلمين.

– الوظيفة التربية: تتجلى في كون المسجد بروحانيته ونورانيته يبعث في الفرد الاستقامة والهداية ويبني فيه الشخصية النموذجية المتخلقة بأخلاق المؤمنين وسلوكاتهم.

– الوظيفة الاجتماعية: تتجلى في كون المسجد كما يجمع الأجساد والأشباح يجمع القلوب والأرواح، وكما يوحد بين مختلف شرائح المجتمع يوحد بين اهتماماتهم الاجتماعية فيحصل بينهم التعاون والتآزر والتكافل الاجتماعي.

– الوظيفة التعليمية: تتمثل في تحصيل المسلم للعلم الشرعي الذي به يتقن عباداته، وفي تعميق فهمه لأموره الدينية العامة، وفي تنمية وعيه بقضايا المجتمع والعالم. وهذا يتم من خلال حلقات التعليم وإلقاء خطب الجمعة وتقديم المحاضرات وعقد الندوات.

وهناك من عدد له وظائف أخرى دينية وثقافية ودعوية وسياسية. ولما كان للمسجد كلّ هذه الوظائف الحيوية وبرهن عنها من خلال ما حققه عمّارُه المؤمنين من ثورات زلزلت دعائم الطاغوت والاستكبار، وطردت المحتل البغيض، أحْكَم اليوم قادةُ الفتنة وحكامُ الاستبداد السيطرة على المسجد وشدّوا الوطأة على رُواده وعُماره من المؤمنين فاهتموا بالمساجد والصلاة وخطبة الجمعة. حتى بتنا نسمع عن إسلام رسمي يحتل المساجد ويتحكم فيها. وفوق هذا اتخذوا عمارة جدران المساجد وزخرفتها داخليا وخارجيا وسيلة للدعاية على وجود إسلام وتقوى. وبهذا حُوصر المسجد وأُمِّم ولم تعد له تلك الأدوار والوظائف التي كان يؤديها سابقا.

عمارة المسجد

من المعارك التي يخوضها المؤمنون اليوم وهم ينشدون التغيير، معركة تحرير المساجد وطلب حقهم فيها. فلا يحقّ لأحد كيف كان أن يمنع أحدا من المؤمنين من أن يذكر الله في المسجد، كما لا يحقّ لأحد أيضا كيف ما كان أن يخرّبه بتزويقه وتأثيثه بالشكل الذي يفقد فيه روحانيته ونورانيته ورسالته الإيمانية.

وعلى هذا تتخذ عمارة المسجد في مشروع المؤمنين وبرنامجهم مرحلتين اثنتين:

الأولى: قبل تحريره وذلك بالمحافظة على صلاة الجماعة فيه، والتمسك بحقّ الاجتماع على ذكر الله والاعتكاف والوعظ والتعليم فيه. والمساهمة في كل ما يحافظ على قداسة المسجد باعتباره بيتا من بيوت لله عز وجل. ومما يدل على فضل من اعتنى بذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء كان يقم المسجد فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلوني على قبره أو قال قبرها. فأتى قبرها فصلى عليها”. 4

الثانية: بعد تحريره وذلك بإعادة عمارة المسجد إلى بساطة بنائه مع جمال هيئته. وحول المسجد تقام مرافق الدعوة من مكتبات وحجر للضيف وقاعات للرياضة والنظافة والاستحمام. وبهذا يعود للمسجد دفؤه وحركته وحرارته وحيويته بعدما كان يعاني الجمود والهجران. بعد تأهيله يتم عمارته بالصلاة والتلاوة والعلم وذكر الله تعالى، ويجمّر ويُعتنى بنظافته وينزّه عن اللغو واللغط ويحتفل لدخوله بالزينة السنّية. يقصده الناس رجالا ونساء في ضحوة النهار وفي ظُلم الليل. أما الأطفال فيُستقبل الداخل إليه منهم أول مرّة بالاحتفال. روى أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدُّور وأن تنظف وتطيّب”. وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

ومن عمارة المساجد أن تراعى آدابه عند الدخول إليه وعند الخروج منه وعند الصلاة أو الجلوس فيه. فيختار المؤذن ذو الصوت الندي، والإمام العالم ذو القلب التقي، وتسوى الصفوف وترص.

عُمّار المساجد

ومن يعمر المساجد من المؤمنين سماهم الله تعالى بعُمّار المساجد، وسماهم الحديث بمُعتادي المساجد، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان”. رواه الترمذي. وسماهم بموطّني المساجد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما توطّن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشْبش الله تعالى إليه كما تبشْبش أهل الغائب لغائبهم إذا قدم عليهم”. صحيح رواه ابن ماجة وابن خزيمة. وسماهم بأهل الله عز وجل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن عمّار بيوت الله هم أهل الله عز وجل”. رواه الطبراني في الأوسط. وضعفه الألباني. وسماهم بأوتاد المساجد، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن للمساجد أوتادا، الملائكةُ جلساؤهم إن غابوا يفتقدوهم، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم. ثم قال: جليس المسجد على ثلاث خصال: أخٍ مستفادٌ أو كلمةٍ حكمةٍ، أو رحمةٍ منتظرةٍ” 5.

فنفهم مما ذُكر أنه ليس كل من يدخل المسجد ويخرج منه يحمل هذا الوصف، إنما من قلبه معلّق بالمساجد واعتادها وتعاهدها ووطّن نفسه فيها وصار من أوتادها.

ومن المواصفات التي خص الله تعالى بها عمّار المساجد ما ذكره في الآية الكريمة [إنما يعمر مساجد الله… من المهتدين]. وهي:

الإيمان بالله واليوم الآخر: الإيمان بأسمائه وصفاته، بربوبيته وألوهيته، والإيمان بلقاء الله تعالى يوم القيامة. وهما ركنان من أركان الإيمان.

إقام الصلاة وإيتاء الزكاة: فإقام الصلاة يعني الصلوات المفروضة والمستحبة، في وقتها ومع الجماعة. وإيتاء الزكاة يعني إعطاؤها لمستحقيها، وهي عبادة اجتماعية. وهما ركنان من أركان الإسلام.

خشية الله تعالى: أي لم يخف في دين الله إلا الله تعالى. وهو ركن من أركان الإحسان.

فنرى أن هذه المواصفات تحمل في مجموعها معاني الإسلام والإيمان والإحسان.

وعسى واجبة في حق الله تعالى، بمعنى خليق بمن كانت هذه مواصفاتهم أن يجعلهم الله من المهتدين.

وفي آية أخرى ذِكر لنفس المواصفات مع قليل من الاختلاف، يقول الله تعالى: في بيوتٍ أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيه اسمه يُسبِّح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار 6.

خاتـمـة

عند استرجاع المسجد لمكانته، وعندما يعمُر بالناس ويكثر زواره ورواده تكون الحاجة إلى تعميم المساجد في الحواضر والمدن والقرى حتى تستوعِب كل الناس. فيؤدي مسجد الحي دوره الدعوي. ويكون تعميم المساجد يوازي تعميم المدارس، حتى تتكامل رسالتاهما تربويا وتعليميا.

بموازاة هذا الاهتمام الكبير بالمسجد وحتى يعاد له مكانه كالمركز الأول في حياة المجتمع الإيمانية والسياسية والتوجيهية لا بدّ من الاهتمام بوسائل الإعلام أيضا حتى نساير العصر ولا نتخلف عنه، وحتى تُنقل دعوة الإسلام وبشرى التجديد بكل الوسائل إلى البيوت، وحتى يتمّ من هذه الوسائل التحبيب في عمارة المساجد وزيارتها. ففي المسجد يكون المجلس واللقاء، وفيه يكون الهدوء والصفاء، والطهارة والنقاء. يقول الله تعالى: فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطّهّرين 7.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وحزبه.


[1] وفي روايات أخرى: فاغفر، فأكرم،  فارحم
[2] التوبة: 18.
[3] الجن: 18.
[4] رواه البخاري ومسلم رحمهما الله.
[5] رواه أحمد والحاكم.
[6] النور: 36-37.
[7] التوبة: 108.