مزالق الخطاب الدعوي وأثرها في الأمة (1)

Cover Image for مزالق الخطاب الدعوي وأثرها في الأمة (1)
نشر بتاريخ

1- تقديم:

الخطاب الدعوي بلاغ وبيان، تقع على عاتق حامليه مسؤولية جليلة وعظيمة، أمام الله وأمام الأمة، لأنه عرض لرسالة الإسلام، ووراثة لمهمة صفوة الخلق عليهم السلام، فعلى هذا العرض والبيان والتبليغ، تترتب هداية الخلق، ووعظهم، وإرشادهم إلى صراط الله المستقيم، وبه ينبعث الأثر القلبي وتتشكل الرؤية الفكرية ومناط الهداية. فإن كان خطاب الدعوة على الهدي النبوي رحمة ومقصدا ورشدا، بدا أثره في واقع الأمة، وأثمر وآتى أكله ولو بعد حين، وإن تنكب عن المنهاج النبوي، نتج عنه ما لا تحمد عقباه فكرا وسلوكا.

ويعاني الخطاب الدعوي اليوم من اختلالات ومزالق شتى، تقف دون تحقيق الأهداف المتوخاة منه، بل وربما أتى بنتائج عكسية، تودي بأبناء الأمة في مهاوي الخلاف، والنفور من هدي الإسلام، ووصمه بالقصور أو التشدد، أو الركون إلى الظلم والظالمين، أو التحليق في سماء الأحلام بعيدا عن واقع الناس واهتماماتهم، وما ذاك لعلة في الرسالة، ولكن لمبلغ أساء العرض، وهجر سنن الله الكونية، وهدي المصطفين من عباده في تبليغ رسالة الله إلى خلقه. فما هي العوائق التي تحول بين الخطاب الدعوي وقلوب الخلق؟ وما الآثار الناجمة عن الخطاب الدعوي الشارد في واقع موار متقلب الأطوار، يفتقر إلى الحكمة وفصل الخطاب؟ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ 1.

2- لغة الجفاء والتعسير:

عدة الخطاب الدعوي بداية صدق اللهجة، ودثامة الخلق، ونظرة الرحمة والرفق إلى خلق الله، باعتبارهم عيال الله، ففي الحديث “الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ ، فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى عِيَالِهِ” الطبراني في الكبير والأوسط ، وأبو نُعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب،  2.

وأصل لغة الخطاب الدعوي إنما نستمده من أصل الدين، وأصل الرسالة، الذي يقوم على الرحمة والرفق واللين، والحرص على قلوب الناس ومشاعرهم ليسلسوا قيادهم لرب العباد، فرسالة الإسلام رسالة رحمة:  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ  3“اشتملت هاته الآية بوجازة ألفاظها على مدح الرسول – عليه الصلاة والسلام – ومدح مرسله تعالى، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه، فصار وجوده رحمةً وسائر أكوانه رحمة. ووقوع الوصف مصدراً يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله، ويدلّ على هذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “إنما أنا رحمة مهداة”، وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين: الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته”  4.

ومنهاجنا في ذلك إنما نستمده من الرحمة المهداة  صلى الله عليه وسلم، والذي وصفه الله تعالى في موطن آخر من القرآن قائلا: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ 5، جاءت الآيتان في كفار قريش، “بتذكيرهم بالمنة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم والتنويه بصفاته الجامعة للكمال. ومن أخصها حرصهُ على هداهم، ورغبته في إيمانهم ودخولِهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفاً رحيماً بهم ليعلموا أن ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم. وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارنة لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ 6، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدة وعوملوا بالغلظة تعقيباً للشدة بالرفق وللغلظة بالرحمة، وكذلك عادة القرآن. فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ليدخلها من وفقه الله إليها، فالخطاب بقوله: جاءكم وما تبعه من الخطاب موجه إلى جميع الأمة المدعوة للإسلام. والمقصود بالخطاب بادىء ذي بدء هم المعرضون من المشركين والمنافقين من العرب بقرينة قوله عقب الخطاب  بالمؤمنين رءوف رحيم   7.

والرحمة والرفق واللين هو أساس الإجابة والجمع والانجماع، لأن الغافل المدعو، تسجنه رعونة النفس، وتأخذه العزة بالإثم، بله الكافر المغشي عليه بموت البصيرة، ومن ثم كان التوجيه القرآني للنبي صلى الله عليه وسلم، درسا ربانيا للدعاة:  فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ 8.

والرحمة يتفرع عنها خلق الرفق واليسر والتدرج والتماس الأعذار للناس، كما أمر صلى الله عليه وسلم في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا” 9، وسيرته مليئة بمثل هذه المواقف في خطابه الدعوي وتوجيهاته النبوية، ومن مظاهرها أنه كان دائم البشر، كثير التبسم، طلق الوجه، إذا عرض عليه أمران اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.

 


[1] البقرة 229
[2] ومشيئة الله فيهم كما فينا جميعا نافذة
[3] الأنبياء 107
[4] التحرير والتنوير لابن عاشور
[5] التوبة 128
[6] الأنبياء 107
[7] التحرير والتنوير لابن عاشور 
[8] ءال عمران 159
[9] رواه البخاري