تأطير:
تفاعلا مع القضايا المجتمعية، وبعد بيان مجلس إرشادها عن حزمة التعديلات المقترحة من طرف المجلس العلمي لمدونة الأسرة، أصدرت جماعة العدل والإحسان مذكرة فـي الموضوع تحت عنوان: “مدونة الأسرة: مبادئ مرجعية ومقترحات أولية“، حرصا منها علـى “أداء واجبها الدينـي والوطنـي اتجاه قضية محورية ومجتمعية، ألا وهـي قضية الأسرة، وإسهاما منها فـي الإصلاح ومعالجة الاختلالات التشريعية والتنظيمية والمؤسساتية التـي كشف عنها التطبيق العملـي لمدونة الأسرة خلال عقدين أو أكثر”.
يروم هذا المقال تسليط الضوء علـى هذه المذكرة، والتـي تضمنت تمهيدا وخاتمة، وبينهما ثلاثة محاور جاءت تواليا: مبادئ مرجعية أساسية، ملاحظات عامة حول مقترحات مراجعة مدونة الأسرة، رأي الجماعة فـي مقترح التعديلات.
من حيث الشكل:
1. تعتبر المذكرة الصادرة بتاريخ: 2025.01.24 الثالثة فـي شأن مدونة الأسرة وتعديلاتها، حيث صدرت الأولى بتاريخ 2023.11.21، التي خُصّصت للمنطلقات المؤسِّسة، في حين جاءت الثانية بتاريخ 2024.01.04، والتي تناولت القضايا التفصيلية للمدونة؛ تفاعل منتظم ومسؤول يكرس القوة الاقتراحية للجماعة وقدرتها علـى التجاوب مع المستجدات، مثلما يؤشـر علـى نسقية فـي القضايا المشتغل عليها، وهو ما يسمح بإنتاج تصور ذي طابع أكاديمـي.
2. المذكرات الثلاث حتـى الآن صدرت عن اللجنة المشتركة بين المؤسسات التنظيمية لجماعة العدل والإحسان مستعينة بثُلّةٍ من أهل الاختصاص فـي المجالين الفقهـي والقانونــي، ترسيخا لآلية العمل المؤسساتـي، كما هو الحال فـي مجالات أخرى، حرصا من الجماعة علـى المصداقية والمسؤولية والقوة الحُجية للمواقف، بعيدا عن ردود الأفعال اللحظية والمنفعلة.
3. صدرت المذكرة الثالثة حول المقترحات التعديلية لمدونة الأسرة بعد بيان مجلس إرشاد الجماعة الذي حدد المواقف المبدئية من التعديلات علـى المستوى السياسـي، وفسح المجال لأهل الاختصاص بالاشتغال علـى مدارسة المقترحات -علـى نار هادئة كما يقال- بعيدا عن أي ضغط أو توجيه لتكون النتائج فـي مستوى التطلعات.
4. عملا بقاعدة “هذا ما تمّ السماح بنشره”، سجلت اللجنة الأسلوب الانتقائـي مع مقترحات الهيئة، إذ تم الاكتفاء بتقاسم حوالـي 20 مقترحا من أصل 139 تم الاشتغال عليها، وتنتصب قضية “التعدد” مثالا صارخا علـى الانتقائية المتعمدة لصرف الاهتمام عن أم القضايا، إذ كيف يستحيل تعدد الزوجات قضية مجتمعية ساخنة، والحال أن نسبته لا تتجاوز %0,66 أي أنه من أصل كل ألف زوج يلجأ للتعدد أقل من سبعة رجال؟ ينضاف إلـى الانتقائية عرض القضايا التـي سُمح بتقاسمها مع الجمهور فـي شكل عناوين فضفاضة قابلة للتأويلات قصد جس نبض الشارع -ربما- وقياس حرارة تفاعله، تفاديا لصدمة مجتمعية غير معلومة العواقب، ومن يدري، فقد يكون ما خفـي من المقترحات أعظم خطرا علـى تماسك الأسرة والسلم المجتمعـي.
من حيث المضمون:
1. علـى الرغم من الخلفية الشرعية لمدونة الأسرة، يُسجل للمذكرة استحضار منطلقاتها للدستور، باعتباره وثيقة منظمة لمؤسسات الدولة وضامنة لحقوق الأفراد والجماعات من جهة، ورفعا للحرج عن بقية الحساسيات الحقوقية والفكرية فـي الترافع علـى مواقفها واختياراتها فـي الموضوع، من جهة ثانية.
2. ذكّرت المذكرة بإسلامية الدولة حيث لا يجب أن يُحلَّل الحرام ويُحرَّم الحلال، وهو ما يعني سمو المرجعية الإسلامية عن غيرها من المرجعيات، حفاظا علـى خصوصية المجتمع وحماية هويته ومنظومة قيمه. وعليه، “فالأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعـي -يؤكد الفصل 32 من الدستور – هـي الخلية الأساسية للمجتمع”.
3. مركزية العلماء باعتبارهم ورثة الأنبياء، قياما بواجب التبليغ عن الله ورسوله، وذودا عن حياض الشريعة، وحماية لمقاصد الشريعة وحفظ الضروريات الخمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال؛ مركزية تقتضـي من العلماء القيام بواجب النصح والحضور الفعال فـي أي نقاش مجتمعـي تنويرا للأفهام، وتصديا لمحاولات الاستهداف الذي أضحى ممنهجا لإزاحة شرع الله من حياة الناس وحصره فـي زوايا ضيقة.
4. مع الاحترام الواجب للعلماء أفرادا ومؤسساتٍ، حمّلت المذكرة العلماء مسؤوليتهم فيما “يطبخ” من مخططات كيدية تهدد استقرار المجتمع من خلال تفتيت نواة الأسرة باعتبارها آخر حلقة فـي سلسلة التماسك المجتمعـي، حيث يطلب منهم التماهـي مع التوصيات الغربية وتبرير التنازل علـى أسس الشريعة الإسلامية إرضاء لإملاءات الهيئات الدولية لا يخفـى خطرها على المجتمع واستقراره؛ حيث “إن هذه المقترحات -تنبه المذكرة- حاولت التقريب بين الإملاءات الخارجية، ومنها اتفاقية “سيداو” وبيـن الرؤية الشرعية، وذلك بسلوكها مسلك التلفيق”.
5. لأن التأهيل قبل التشريع، نبهت المذكرة إلـى أن توفير شروط تنزيل القوانين والتدابيـر الإدارية حاسم فـي نجاحها، بل ويرفع منسوب نجاعتها والثقة فيها قبل الاحتكام إليها، فالترسانة القانونية مهما بلغت من النضج والاستواء لا تحقق المبتغـى، ما لم تتوفر البيئة التربوية السليمة، لذلك تتخوف المذكرة أن “ما تمّ التصريح به حتـى الآن من مقترحات يؤكد تخوفاتنا التـي عبرنا عنها فـي أوراقنا السابقة، وهـي اختزال كل المشاكل فـي نص قانونـي لن يعالج تلك الاختلالات التـي أفرزها التنزيل طيلة عَقدين من الزمن، وهذا لا يعنـي التنقيص من أهمية التشريع…”.
6. حيث “إن الأسرة مؤسسة -تُذكِّـر المذكرة- مركزية متوازنة مبنية علـى القِوامة والحافظية، وضامنة بقاء النوع البشري واستمراره ونموه، إذ هـي الناتج الشرعـي لنظام الزوجية، والأصل فيها أن تبنـى علـى التساكن والمودة والرحمة”، فقد جنحت مقاصد المذكرة فـي ضوء أسلوب العموميات الذي اعتُمد فـي عرض المقترحات، تعاملت المذكرة بنفَس إيجابـي مع أهم المقترحات حرصا علـى المصلحة الفضلـى للمجتمع، بعيدا عن المزايدات السياسوية فـي شأنٍ غايةً فـي الحساسية، محملة الدولة مسؤوليتها فـي هذا الورش الإصلاحـي الاستراتيجـي، بدل التهرب من إشكالات اجتماعية، هـي فـي الأصل نتاج لتدبير غير راشد للشأن العام. لذلك علـى الدولة -بمنطوق الفصل 32 من الدستور- أن “تعمل علـى ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة بمقتضـى القانون، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها”.
علـى سبيل الخيم:
1. إن تجديد الحديث عن تعديل مدونة الأسرة مع الإصرار المتعمد علـى استئناف النقاش من حيث انتهـى سابقا، يؤشر علـى وجود مخطط مرسوم سلفا لهدم مؤسسة الأسرة باعتبارها سياجا يحمـي هوية المجتمع، وما بقـي من منظومة قيم لتفكيك عُرى المجتمع وإصابة تماسكه واستقراره فـي مقتل؛ مخطط تتماهـى فيه الدولة مع التوصيات الأجنبية، وهـي تتنازل عن استعمال حقها فـي التحفظ علـى ما يتعارض وخصوصيات المجتمع الدينية والثقافية سعيا للحصول علـى شهادة حسن السيرة التـي تضمن تدفق الديون والمساعدات المالية التـي ترهن قرار الدولة ومقدرات البلد.
2. إن مفتاح تدبير ملف الأسرة وتجاوز الإشكالات العاصفة باستقرارها هو اضطلاع الدولة بمسؤولياتها فـي توفير الحد الأدنـى من شروط الحياة الكريمة، وما تقتضيه من تربية وتشبع بالقيم الفضلـى تفضـي إلـى إشاعة التكارم والإحسان بين الزوجين، بل وعموم الأقارب، وبعد التربية التعليم والصحة والسكن والشغل الكريم، ومع هذا وذاك دولة اجتماعية صدقا وحقا لا ادعاء، تسد الفراغ وتحارب العوز حفاظا على كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، وتحصينا لمؤسسة الأسرة التـي يؤشـر استقرارها علـى استقرار المجتمع، من جهة، وباعتبار الأسرة ثانيا مشتل لتربية أجيال يُمكن أن تُستأمـن علـى مستقبل البلاد سيادة واستقلالا ورُقيا.