محورية القرآن في “الرسالة العلمية” للإمام عبد السلام ياسين

Cover Image for محورية القرآن في “الرسالة العلمية” للإمام عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

مقدمة

في زمان غلبت فيه النزعة الأداتية إلى المعرفة، واستبعد البعد القيمي من المؤسسات التعليمية، وتفككت الصلة بين العلم والعمل، وبين العقل والقلب، برزت الحاجة الملحة لإعادة الاعتبار للعلم في بعده الشمولي، في ظل ما يعيشه العالم الإسلامي من أزمة مزدوجة: أزمة غياب البوصلة، وأزمة ارتهان المعرفة للمقولات الحداثية الغربية دون تمحيص أو تأسيس ذاتي. من هنا انطلق الإمام عبد السلام ياسين في صياغة مشروع المنهاج النبوي ودوره في بناء مجتمع العمران الأخوي. ومن بين مؤلفاته، كتب الإمام “الرسالة العلمية” بروح المصلح المجاهد، لا بروح الأكاديمي المنعزل، متضمنة توجهه الفكري في إنقاذ العلم الإسلامي من الهامشية والاغتراب والانفصال عن قضايا الأمة، ومبلورة رؤيته للعلم والعلماء، ودور النخبة العلمية في معركة البناء الحضاري وتحرير الإنسان على أساس من الهداية والعدل والإحسان.

كتب الإمام هذا المؤلف سنة 1417ه الموافق لـ1996م، رسالة مفتوحة إلى أعضاء اللجنة العلمية لجماعة العدل والإحسان وإلى عموم الباحثين والطلبة والعلماء. أعاد فيها طرح عدة أسئلة مركزية: ما العلم الذي تحتاجه الأمة؟ ما علاقة المعرفة بالإيمان؟ ومن هو العالم المنشود لقيادة الإصلاح؟

 تكونت هذه الرسالة من 233 فقرة مركزة تناولت محاور عدة كمفهوم العلم، ووظيفة العالم المؤمن ودوره في الإصلاح، إضافة لأهمية القرآن الكريم في هذه العملية.

وبما أن القرآن يأخذ موقعا مركزيا في تصور الإمام المنهاجي، نطرح الأسئلة التالية: ما هي مكانة القرآن في هذه الرسالة العلمية؟ وما أهميته في الإصلاح المنشود؟ وكيف يمكن أن يتحلى العالم الداعي بسلوك القرآن، وينطلق منه لتحقيق الكمال التربوي والعلمي؟

أولاً: القرآن الكريم مرجعية مركزية ومنطلق للعلم والعمل

يستهل الإمام الحديث بنداء حارّ مكرَّر: “القرآن! القرآن! القرآن!” 1، كأنما ليهزّ غفلة العالم المؤمن ويستدعي عزيمته وانتباهه. يدعو المؤمن والمؤمنة إلى عقد العزم وشد الهمة لحفظ القرآن وفهمه والعمل به، ويربط هذه المهمة بالاستعداد للتضحية والمجاهدة في وجه الكسل والغفلة، معتبراً إعلان شعار “هذه السنة سنة القرآن!” فعلاً جماعياً يجب أن يتوسع ليشمل الحركات والجماعات لا الأفراد فقط. ويربط الإمام هذا الاجتهاد بحديث نبوي عظيم يجمع بين القرآن والارتقاء في مراتب الآخرة، وهو ما يمنح مشروع حفظ القرآن بعداً أبدياً يتجاوز المجرد الدنيوي، حيث يقول رسول الله ﷺ: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتّل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» 2.

ثم يتابع الإمام حديثه بدعوة إلى الفرار إلى الله بالقرآن وبيان النبوة، هروباً من عالم ملوَّث مادياً وروحياً، ومن حضارة مادية تتفنن في الإغراق في الشهوات، ومن إعلام يمسخ القيم وينشر التفاهة. إنها دعوة للهجرة المعنوية بالقرآن، إلى عالم طاهر، عبر السؤال الوجودي العميق: “إلى أين يجري بي الليل والنهار؟”، وهو تساؤل لا يطرحه إلا من شعر بالخطر الزاحف على قلبه وروحه، ومن أيقن أن القرآن هو المنارة التي ترشد المؤمنين في هذا الظلام.

ويمضي الإمام في تأصيل وظيفة القرآن في واقع المسلمين من خلال إعادة مركزية الكلمة القرآنية في التعليم والدعوة والخطاب العام، فهو لا يقبل أن تكون الدعوة أو التربية أو حتى الخطابة عملاً ميتاً يعيد إنتاج أقوال الماضين دون روح أو فقه. بل يدعو المتكلم أن يترجم عن الوحي والنبوة لا عن عقول السابقين فقط بغير فقه، وأن يكون القرآن مصدر بيانه ومقياس صدقه، لا مجرد خلفية شكلية.

ثانياً: القرآن مصدر الحكمة وفصل الخطاب، ومقوم أساس للنهضة

يواصل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تمثيل تصوره المتكامل حول مركزية القرآن في بناء الأمة، موضحاً أن النهوض الحضاري لا يمكن أن يتم إلا باستعادة الارتباط العميق بالقرآن كمنبع للحكمة، وميزان لفصل الخطاب، أي للفصل بين الحق والباطل، بين سبيل الرشد وسبيل الغي. وانطلق الإمام من إشارة قرآنية دقيقة إلى النبي داود عليه السلام، الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب. وهما سمتان جوهريتان لكل قيادة ربانية، ولكل مشروع نهضوي: الحكمة بمعناها الجامع للعلم الرباني والبصيرة، وفصل الخطاب بما يعني القدرة على التمييز والحسم بين المتشابهات. وفي هذا السياق، يعرض الإمام تاريخ الانحراف الكلامي والسياسي، حين تحالف بعض المتكلمين مع المتسلطين في تشويه الدين وخدمة نزوات الحكام، كما حصل زمن المأمون وفتنة خلق القرآن، ليتنبه القارئ أن العقل وحده دون نور الوحي قد ينقلب خادماً للظلم.

ثم أخذ يعرف الحكمة كما بيّنها المفسرون بأنها الفقه في الوحي وفهم حقائقه، وفصل الخطاب بأنه هو القول البَيِّن الحاسم الذي يُظهر الحق من الباطل 3، وربط بين هذين المفهومين في رؤية سياسية مستقبلية: أن يجتمع لدى الأمة السلطان القرآني المعنوي (العلم والدعوة) والقوة التنفيذية (الحكم والسياسة) في مشروع حضاري يقوده المؤمنون المتقون، كما اجتمع ذلك لداود عليه السلام.

بيد أن نظرة الإمام هذه، تُنذر بخطر الفصل بين العلم والسلطة، أو بين الدعوة والدولة، كما هو شائع في واقعنا المعاصر، حيث يسود الانفصام بين العلماء الربانيين والسلطات الحاكمة، وبين الوعاظ وصناع القرار، ما يُفرغ الدين من أثره الحضاري الفاعل.

ثم دعا الإمام إلى تجنيد النبهاء من أبناء الأمة، ممن تربّوا على التقوى وتكونوا علمياً، ليبنوا علمًا جديدًا يجمع بين الدليل العلمي والعطاء السياسي والاجتماعي، علما ذا مرجعية قرآنية، بلا تعارض بين الفقيه والمختص، أو بين السياسي والعالم، أو بين الواعظ والباحث؛ فكلهم في مشروع القرآن الكبير شركاء. إنها دعوة لتكامل التخصصات تحت راية واحدة: نهضة قرآنية جامعة.

ثالثاً: النهضة القرآنية وقومة الخلافة على منهاج النبوة

يسلط الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله الضوء على شروط النهضة الإسلامية الحقيقية، الخلافة على منهاج النبوة، فيربط مباشرة بين أمر الله تعالى في قوله: وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال: 61] وبين المشروع الكامل للخلافة الثانية على منهاج النبوة. هذا الربط يوضح أن الاستعداد في بعده التربوي والعلمي والسياسي والاقتصادي والعسكري شرط لا غنى عنه لنيل موعود الله بالخلافة في الأرض، تلك الخلافة التي تعني سيادة القرآن، وسيادة الشريعة، لا مجرد نظام حكم شكلي.

لكن هذا المشروع لا يكتمل ولا يُثمر إلا إذا صحبه اجتهاد مؤسس حي ومجدد يكسبه سيادته ويمهد لها الطريق، اجتهاد مبني على أساس في علم أصول الفقه وفروعه، مستنير بالسلف الصالح ودون اجترار لأقوال الأقدمين، يأخذ عن قال الله وصح عن رسول الله ﷺ مباشرة، ثم ينظر بعين الفقه والفكر إلى ما دون ذلك. ويحذر الإمام من الاكتفاء بـأماني الخلافة دون سعي أو إعداد أو اجتهاد؛ فقد اعتبر هذا دهدهة العاجز مهد ضعفه واستكانته إلى واقع يحكمه غيره، وهذيانا جميلا يلهي عن الحقيقة المؤلمة: أن الواقع محكوم بغير القرآن، وموجَّه من خارج دوائر الإيمان والسيادة الإسلامية.

رابعاً: القرآن أساس الكمال العلمي والتربوي للداعية والعالم

 يؤسس الإمام عبد السلام ياسين لرؤية تربوية وعلمية واضحة لدور القرآن الكريم في تكوين العالم والداعية، مبرزا أن أي كمال علمي أو دعوي للعالم وللمفتي وللواعظ وللمجتهد لا يتحقق ما لم يكن القرآن الكريم والسنة النبوية هما الأصل والمرجع والمورد في بناء يقينه، وما لم يكونا مرجعا يُرجَع إليه عند السؤال والحاجة والاختلاف، ومرتعًا يُرتع فيه بالفكر، يُستمطر منه الفقه، ويُستلهم منه العمل، وتُستخرج منه الهداية والطمأنينة والمواقف.

خاتمة

وضع الإمام القرآن في صلب مشروع النهضة، وأكد أن كل إصلاح فردي أو جماعي لا يتخذ من القرآن منطلقاً ومصبّاً هو مشروع ناقص أو مشبوه؛ فبالقرآن يطهَّر قلب الإنسان، وبه يبنى عقله، وبه تُستعاد السيادة على الذات والواقع والتاريخ. فالقرآن إذا، كما رسم الإمام، هو منطلق للعمل الجماعي التغييري، يُستنهض به العزم لحفظه وفهمه والعمل به، فرارًا إلى الله من جاهلية الواقع. ومصدر الحكمة وفصل الخطاب، يُنير الطريق بين الحق والباطل، ويوحد جهود العلماء والمصلحين في مشروع متكامل بين العلم والدولة. ومرتكز الاجتهاد الحي لبناء الخلافة القادمة، والأساس الأصيل في تكوين العالم والداعية.
إن النهضة التي ينشدها الإمام هي نهضة قرآنية بامتياز: منه تبدأ، وعليه تُبنى، وإليه تُرجع، نهضة تعيد القرآن إلى القيادة: قيادة الفكر، والسياسة، والتربية، والاجتماع، والاقتصاد، والدعوة.


[1] عبد السلام ياسين، الرسالة العلمية، دار إقدام للطباعة والنشر، ط2، ص13.
[2] أخرجه أبو داود في سننه كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، رقم1464، واللفظ له، والترمذي في سننه، كتاب فضائل القرآن، باب 18، رقم 2914، وهو حديث صحيح.
[3] عبد السلام ياسين، الرسالة العلمية، دار إقدام للطباعة والنشر، ط2، ص22.