هل يقتصر نجاح مؤسسة الأسرة على التوعية الحقوقية والقانونية؟ هل تحتاج الأسرة لمقاربة قانونية تعيد تماسكها أم أن رياح الغزو الثقافي نالت منها؟ ألا توجد مؤسسات بديلة يمكنها رعاية شأن الأسرة باعتبارها مكونا اجتماعيا يختلف عن جميع المكونات باعتبار العلاقات الإنسانية التي تسوده؟ ولماذا عجزت المؤسسات القانونية والمؤسسات الوسيطة عن وقف التفكك الأسري؟
العديد من التساؤلات تتولد أمام واقع مكلوم رغم تنوع الاجتهادات والمحاولات وتحتم علينا تأملا أعمق في سيرورة تاريخ هذه الوحدة الاجتماعية لنربط حبلها من جديد، وإلا فهو هدر للجهود تضيع معه أجيال ومجتمعات.
فلا يمكن الحديث عن نجاح مؤسسة الأسرة بمعزل عن المنظومة القيمية للمجتمع وعن الثقافة التي يتشبع بها الأطراف في هذه المؤسسة، كما يلاحظ جليا مدى تأثير الثقافة الأجنبية المادية على العقول المسلمة في موضوع الزواج خاصة، رغم ما يشهد لهؤلاء المجتمعات من فشل ذريع وتفكك أسري صارخ حيث الأنانية هي المتحكم الأول في العلاقة، وبالمقابل، ولا مجال للمقارنة، نجد الدين الإسلامي يبني هذه العلاقة على مبادئ سامية ترتكز على التعاون والتباذل والتكارم بين الزوجين، وتركز على بناء العلاقة بالمودة والرحمة إلى جانب الاكتفاء المادي الضروري، على عكس مجتمعات تسودها الحسابات المادية والقانونية وتسيطر عليها…
علما أن مستويات نجاح البناء الأسري ترتكز على مقومات أساسية حددها الله تعالى في محكم تنزيله وترجمها النبي الكريم سلوكا مجتمعيا توارثته الأقوام بعده تعبّدا ثم عرفا موروثا في انسجام تام مع الفطرة السوية.
1- الاختيار
إن إنقاذ لبنة الأسرة يتطلب جدية كافية من المؤسسات المتدخلة، وتكاملا منسجما في الأدوار بدءا من الأقارب الحكماء في الاختيار والتقدير، الأمر الذي أصبح مغيبا وتخلى عنه الوالدان والأهل بدعوى عدم تحمل اللوم عند حدوث أي مشكلة بين الزوجين، وهذا تهرب صريح من المسؤولية أمام شاب وشابة لم تكتمل رؤيتهما لمتطلبات الحياة الأسرية ولم يكتمل وعيهما بذواتهما ليتمكنا من الاختيار الصائب للزوج السكن كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا خطب إليكم من تَرْضَوْنَ دِينَه وخُلُقَهُ؛ فَزَوِّجُوهُ”، جاء الخطاب بصيغة الجمع ما يدل على أن القرار يأخذه الأهل وأولو الأمر وفق ما يرونه من مصلحة للفتاة المخطوبة، وطلب الخطبة يكون موجّها لأولي أمرها لأن تقديرها غالبا ما يسيطر عليه الجانب العاطفي ويؤثر، ويعضّد الاختيار ويصوّبه استخارة الله تعالى ثم استشارة ذوي الحكمة والمعرفة والصدق ممن هم على دراية بخبايا الأمور في موضوع الزواج، يدلون بدلوهم صدقا وحبا للإسهام في تأسيس خلية مجتمع ناجحة اتباعا لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا يضرهم بعد ذلك لومة لائم، الأمر الذي يتحفّظ منه العديد من الناس ومن أهل الفضل، فإذا كان تغيير واقع الأمة الإسلامية نحو الأفضل رهين بتغيير وعي الأفراد وسلوكاتهم، فالأولى رعاية النواة الأولى والمنشأ الأول لهؤلاء الأفراد “الأسرة” لتنبتهم نباتا حسنا.
2- الاحتضان
بعد الاختيار يأتي دور الاحتضان والتعضيد من الوالدين أولا، ثم الأقربين من أهل الحكمة والتبصر، فرعاية البذرة النواة أهم مرحلة لإنباتها ونموها لتعطي ثمارها، حيث تتلاقح الطباع كما قد تتصادم أحيانا، وتتعارض الأدوار أو تتوافق، ويحس الأطراف بثقل المسؤولية إن لم يدرّبوا عليها مسبقا… تبقى هذه مواقف مألوفة وطبيعية، تمر مر السحاب إن لقيت وعيا وإدراكا كما قد تعصف بالمركب وتحدث به شقوقا، ولا ننكر أن الزواج التقليدي في المجتمعات القبلية والأسر الممتدة تستحضر بفطرتها هذه الاحتياجات، فنجد أم الزوج وأهله يساعدون العروس الجديدة للاندماج ويخففون عنها عبء المسؤولية في تربية المولود الأول خاصة والأبناء عموما، ويعملون على التأليف بين الزوجين الحديثين وتذليل الخلافات وإدخال البهجة بخلق مناسبات للفرح تأتي في إطار العادات والتقاليد، فمن الأسر من يعتبرون الزوجة عروسا إلى أن تبشر بمولودها الأول، ويتولى الجد والجدة بحكم تفرغهما الإسهام في رعاية الأبناء وتلعيبهم… وكذلك كل من في المنزل، ويتدرجون في تقاسم الأدوار الاجتماعية إلى حين تحقق الانسجام التام بين الزوجين وبين الأهل (مقتطف من دراسة ميدانية لعينة من قبيلة في إحدى القرى حول تقاسم الأدوار الاجتماعية).
كل هذه المعاني والتدابير نجدها في روايات المجتمع النبوي الشريف، ولقد تم توارثها والحفاظ على جزء منها في جوهره في المجتمعات التقليدية، الأمر الذي غاب في الأسر المتحضرة المتأثرة بالثقافة الغربية التي تفضل الارتكان إلى الظل أمام أي صراع بدعوى حرية الأفراد وخصوصية القرارات، وهي مبادئ لا تخدمنا كمجتمع متماسك يشد بعضه بعضا، وبالتالي لا عجب أن تكون النتيجة كما نراها، غلبة التفكك الأسري واحتدام الصراع بين الأهالي وعزوف عن الزواج… وهذا لا يمت لديننا بصلة، فلقد حرص المجتمع النبوي على مساعدة العزاب والعازبات على الزواج وعلى إحسان الاختيار، لأن حكمة الكبار في هذا الموضوع لا يمكن التغافل عنها في غياب أي أطماع دون إنجاح الزواج.
كما أن الدراسات الحديثة أثبتت ذلك، ورد في جريدة سكاي نيوز عن دراسة تقارن فرص نجاح الزواج المرتب تصريحا لقاض سابق في المحكمة العليا بالمملكة المتحدة يقول فيه: “المرأة المسلمة التي تزوجت عن طريق الزواج المدبر تكون لديها علاقة ناجحة.. في الواقع، المسلمون الذين يتزوجون بالاعتماد على الزواج المدبر لديهم الكثير من مقومات النجاح في زواجهم على المدى الطويل”. وأضاف “إنهم يتزوجون دون توقعات وضغوطات، مما يجعلهم لا يشعرون بخيبة أمل بعد زواجهم”.
3- التأهيل الزواجي
التأهيل الزواجي هو إعداد الفرد لدخول غمار الحياة الزوجية بوعي متطلباتها وقبله الوعي بالذات واحتياجاتها، الأمر الذي كان يمرّر بالفطرة ولازال في بعض العائلات، حيث يتم إعداد الأطفال منذ نعومة الأظافر لمسؤولية الأسرة المستقبلية بشكل عفوي غير مخطط له، من خلال الألعاب في مرحلة الطفولة والأدوار في المناسبات وإشراكهم في بعض المهام ولو على سبيل المزح في إطار إعدادهم لمسؤولياتهم الاجتماعية تلميحا وتصريحا، الأمر الذي يغيّب بتاتا عن أذهان شباب اليوم وشاباته، إذ الحوار الطاغي هو التحصيل الدراسي وشغل مناصب مهمة وتأمين وظيفة ودخل مادي، لماذا؟ فقط لتحقيق الاستقرار المادي، ولا يثار موضوع الزواج وبناء الأسرة إلا في مرحلة متقدمة، حيث يصبح رصيد الشاب والشابة في الموضوع محصورا في تجربة الوالدين وما يتم تناقله في وسائل التواصل الاجتماعي صحيحا كان أو مغلوطا، يقبل كل منهما إن أقبلا على الزواج برصيد أفكار حالمة أو حسابات مادية طاغية تشكل درعا للاحتماء به في عاصفة الزواج، فإما تمضي السفينة على ظهر أحدهما أو تشرخ في إحدى المنعطفات.
الحل إذن، ويبقى حلا ترقيعيا ترميميا، هو التأهيل الزواجي الممأسس ليتمكن المقبلون على الزواج من معرفة ذواتهم أولا وتحديد احتياجاتهم الحقيقية العميقة في نفوسهم، ولمعرفة مواصفات الشخصية المكملة لهم والموافقة لطباعهم ولتطلعاتهم.
كما يمكن تضمين هذا الجانب التأهيلي ضمن البرامج التعليمية الواعية والجادة في سن مبكرة، تعدّ من طرف متخصصين نفسيين واجتماعيين ومرشدين في شأن الأسرة…
4- النية
صدق النية في الزواج أمر حاسم ومفصلي في نجاحه وإن توفرت الشروط السابقة، والنية في الزواج كما حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع: زواج لمال ولجمال ولنسب ولدين، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: “تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك” 1.
وهنا يلزم على المقبل(ة) على الزواج معرفة حاجته الحقيقية وإدراكها وهو أمر مرتبط بمعرفة الذات كما سبق الذكر، لأن مخالفة الاحتياجات الأولوية يسبب معظم المشاكل ويفاقمها، وفيه توجيه نبوي في الحديث الشريف: “حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ نَكَحْتَ يَا جَابِرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مَاذَا أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قُلْتُ: لاَ بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ فَهَلَّا جَارِيَةً تُلاَعِبُكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ، كُنَّ لِي تِسْعَ أَخَوَاتٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ إِلَيْهِنَّ جَارِيَةً خَرْقَاءَ مِثْلَهُنَّ، وَلَكِنِ امْرَأَةً تَمْشُطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ، قَالَ: أَصَبْتَ” 2، فإدراك المقبل على الزواج حاجته الحقيقية وهي نيته من الاختيار يباركه الله على عكس الانجذاب العاطفي الاندفاعي، أو التبرير الواهم الناتج عن جهل وقصور فهم، وحق على الله عونه لقوله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة كلهم حقٌّ على اللهِ عونه: المجاهدُ في سبيلِ اللهِ، والْمُكَاتَبُ الذي يريدُ الأداءَ، والناكحُ الذي يُرِيدُ العفافَ” 3.
5- تدبير النزاعات الأسرية
سنكون حالمين واهمين إن جزمنا أن نجاح الأسرة رهين بانعدام الخلافات والصراعات، لأن الصراع قرين العيش المشترك في التجمعات الإنسانية، بل يعتبر أمرا صحيا لتقوية الروابط الاجتماعية وتطويرها نحو الأفضل إن حسن تدبيره، والأسرة جزء من هذا الاحتكاك الطبيعي، لهذا حدد الله تعالى أقوى ضوابط التماسك الأسري ضد هذه الصدامات؛ ألا وهو الإصلاح بين الأطراف في قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (سورة النساء، آية 35)، كما عملت التنظيمات الاجتماعية على حل هذه النزاعات ولمّ شمل الأسر بشتى الطرق في إطار توافقي بين المتدخلين، الأمر الذي عجزت عنه مجتمعاتنا اليوم، وبين مفهومي الصلح والإصلاح تتشتّت أسر، فالآية تشير للإصلاح وصدق النية في الإصلاح، وكذلك في أعراف القبائل تعمل الأطراف المتدخلة على إصلاح ذات البين.
للوقوف على المفهومين نجد كلمة إصلاح كلمة قرآنية وردت في حالات النزاع وفي حالات التغيير الإيجابي، ويقصد بها جعل الشيء صالحا، وضدها الإفساد أي جعل الشيء فاسدا، والصُّلْحُ: يعني إنهاء الخصومة، صَلُحَ صَلاَحاً، و الصُّلْحُ إنهاء حالة الحرب، و الصُّلْحُ السَّلم في المعجم الوسيط، وبالتالي يتضح أن الصلح يأتي بعد مرحلة الإصلاح بتغيير ما فسد في العلاقة تغييرا فعليا.
في غياب هذه المكونات وهذه المقاصد المحدّدة بمعايير الصدق والحكمة، من يعالج نزاعات الزوجين ويؤلف بينهما؟
6- المؤسسات القانونية “القضائية”
كون المؤسسات القضائية تعتمد على المقاربة القانونية في إطار الحق والواجب، وتتعامل مع الطرفين كمتنازعين يسمى أحدهما “المدعى” والآخر “المدعى عليه”، لا يمكننا الحديث عن إصلاح أو لمّ شمل الأسرة، لأنها ببساطة مؤسسة مختصة في إصدار العقوبات الزجرية لضمان حق المعتدى عليه، والمساطر القانونية عموما ذات طبيعة زجرية تبعد عن المقاربة الإنسانية التي يتطلبها حل النزاعات الأسرية.
مما يؤكد أن المقاربة القانونية لا يمكن اعتبارها بتاتا وسيلة لصيانة الأسرة وتماسكها، وتبقى هذه المقاربة وسيلة لضمان الحقوق المادية فقط في الحالات الاستثنائية.
وبالتالي فحديث المجتمع عن مدونة الأسرة في إطار تحسين وضعية الأسر لا ينسجم بتاتا مع طبيعة هذا المكون الاجتماعي، والمبالغة في ضمان حق طرف على حساب الآخر ينمّي الخلاف ويعمّقه ويورّث حقدا ينخر هذا الجسد من الداخل.
إذن، نقوم على الثغر
للأسف، إنه انسحاب جماعي لمكونات المجتمع من مسؤولية بناء أسرة سليمة وحصرها في قوانين تؤجج النزاع وتعمّقه ليترك شاب وشابة انساقا لإعجاب عاطفي قد يدوم أو يندثر في السنوات الأولى ليرفع عدد ضحاياه، وتتلاطم سفينتهم أمواج الحياة وأعباؤها، ويكون محظوظا من نجا من ركامها إلى بر الأمان، فتتهاوى معها جدران مجتمع مستهدف في نواته اللبنة التي تقيمه، ويصبح مرتعا لقطاع الطرق يعيثون فيه فسادا، وإلا فترميمه وحمايته أولى الأولويات، نبدأ من حيث بدأ السلف الصالح وخلفه، لا يحيدنا عنه لوم أو عتاب صارخ، نأخذ الكتاب بقوة امتثالا لا اختيارا، لأنها ثغر من أشد الثغور يؤتى منه القوم وإن صلحوا، والجهاد فيه فرض عين لا كفاية، دفعا للمفسدة العامة للأمة وحفظا للدين وللنفوس وللمجتمع، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في كتاب تنوير المؤمنات “أقوى ما تَسْتقوِي به الأمة متانة بناء الأسرة، والمتانة أمومة مَصُونةٌ مستقرة في بيتٍ مدرسةٍ، أهم ما نُعِد لهم من قُوَّة أمومة مبرورةٌ بَرّةٌ مربية، تصنع مستقبل العزة للأمة” 4.