بقلم: خالد المطالسي
من مظاهر عظيم كرم الله تعالى ورحمته بعباده المؤمنين ورعايته لهم، أن خصهم بمواسم للخير مفرقة على الساعات والأيام والشهور، شرع لهم فيها من العبادات والأذكار ما ينقيهم ويرقيهم ويقربهم منه سبحانه وتعالى، فالمؤمن يتنقل بين مواسم الخير المزهرة، ورياض العبادات المتنوعة، يتنسم عبيرها ويتفيأ ظلالها ويقطف ثمارها ويقتبس من أنوارها، ممتثلا أمر الكريم المتفضل على عباده، شاكرا لعطائه، واقفا ببابه سبحانه وتعالى، مستحضرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه “وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ” 1
من هذه المواسم العظيمة التي خصها الله بالذكر في كتابه العزيز، ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر، يقول الله تعالى في شأنها إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. آيات عظيمة تستوقف المؤمن وهو يقرأ ويتدبر القرآن الكريم. لماذا سماها الله بهذا الاسم؟ وخصها بهذه المنزلة الجليلة وبهذا الشرف العظيم؟ وما الحكمة في إخفاء وقتها عن العباد…؟
يقول الله تعالى: “إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ” هي ليلة الأنوار المشهودة في الوجود. إنه نور الاتصال العظيم بين نور الأرض -سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم- ونور الوحي المنزل من عند نور السماوات والأرض للَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ 2، ونور الملائكة التي تغدوا وتروح طوال هذه الليلة المباركة “تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ”، ونور السلام المرفرف على أرجائها “سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ”، إنها ليلة المهرجان الكوني. يقول صاحب الظلال في تقديم سورة القدر “تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال. ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب -محمد صلى الله عليه وسلم – ليلة ذات الحدث العظيم، الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا” 3.
وتسمى بليلة القدر لعظم قدرها وشرفها ومنزلتها وما يحصل فيها من الخير لعباد الله. قال الإمام الزهري: ليلة القدر ليلة العظمة والشرف 4. لأن الله تعالى يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة المقبلة 5. من الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها، وتدفع إلى الملائكة لتمتثله، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما 6. وعن أبي بكر الوراق: سميت ليلة القدر، لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر، على أمة لها قدر، ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظة القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب 7. وقال الزهري وغيره: سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرا عظيما وثوابا جزيلا 8. وتكسب من أحياها قدرا عظيما لم يكن له من قبل، وترده عظيما عند الله تعالى 9. وقال: الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة 10، قال تعالى تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي: يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له 11.
ومن فوائد نزول الملائكة أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروه في سكان السماوات، ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى الله من زجل المسبحين، فيقولون: تعالوا نسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا. ولعل للطاعة خاصية في هذه الليلة المباركة، فالملائكة أيضا يطلبونها طمعا في مزيد الثواب، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعاته هناك أكثر ثوابا 12.
ثم يقول الله تبارك وتعالى: “لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ”، اختصها الله سبحانه وتعالى بهذا الفضل العظيم، وميزها عن سائر الأيام والليالي. فالعمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر… وذلك أن الأوقات إنما يفضل بعضها على بعض بما يكون فيها من الخير والنفع، فلما جعل الله الخير الكثير في ليلة، كانت خيرا من ألف شهر لا يكون فيها من الخير والبركة ما في هذه الليلة 13. يقول الإمام الرازي: واعلم أن من أحياها فكأنما عبد الله تعالى نيفا وثمانين سنة، ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعمارا كثيرة… 14. يقول العلامة محمد الطاهر ابن عاشور: وتفضيلها بالخير على ألف شهر، إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة، واستجابة الدعاء ووفرة ثواب الصدقات والبركة للأمة فيها، لأن تفاضل الأيام لا يكون بمقادير أزمنتها ولا بما يحدث فيها من حر أو برد، أو مطر، ولا بطولها أو بقصرها، فإن تلك الأحوال غير معتد بها عند الله تعالى، ولكن الله يعبأ بما يحصل من الصلاح للناس أفرادا وجماعات وما يعين على الحق والخير ونشر الدين 15.
وقد أخفى الله تعالى هذه الليلة المباركة عن العباد، كما أخفى قبول الطاعات، وساعة الإجابة من يوم الجمعة، وآجال المخلوقات، واسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، لحكمة عظيمة جدا تجلي رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده.
يقول الإمام الرازي رحمه الله: إنه تعالى أخفاها، كما أخفى سائر الأشياء، فإنه أخفى رضاه في الطاعات، حتى يرغبوا في الكل، وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل، وأخفى وليه فيما بين الناس حتى يعظموا الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف، فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان 16. ويجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها 17. أخفيت ليجتهد المؤمن في طلبها ويسعى لإدراكها وموافقتها بالفرض والنفل، ويكسب بذلك أجر الاجتهاد في الطلب. ومن الرحمة أيضا ألا يعرفها المؤمن بعينها لئلا يتجاسر على المعصية فيها مع علمه بها، لأن التجاسر على المعصية مع العلم أشد من المعصية بغير العلم.
إن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر، فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر، فيباهي الله تعالى بهم ملائكته، ويقول: كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء. فهذا جِدُّهُ واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة له فحينئذ يظهر سر قوله: إني أعلم ما لا تعلمون 18.
ومن علامات هذه الليلة المباركة أنها ليلة لا حارة ولا باردة مضيئة وضيئة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ، لا حَارَّةٌ وَلا بَارِدَةٌ، تُصْبِحُ الشَّمْسُ يَوْمَهَا حَمْرَاءَ ضَعِيفَةً “ 19. وقال عليه السلام أيضا: “إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا، سَاكِنَةٌ لا بَرْدَ فِيهَا وَلا حَرَّ، وَلا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنَّ أَمَارَتَهُمَا: الشَّمْسُ أَنْ تَخْرُجَ صَبِيحَتَهَا مُشْرِقَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ، مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةِ الْبَدْرِ، وَلا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَطْلُعَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ”. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ الشَّامِيِّينَ، رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَبَقِيَّةُ إِذَا رَوَى عَنِ الثِّقَاتِ فَلَيْسَ بِحَدِيثِهِ بَأْسٌ 20. وقال عليه السلام: “وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَكْثَرُ فِي الأَرْضِ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى” 21.
إذن هي ليلة محفوفة بالأنوار والخير والفضل، وشهود الملائكة أفواجا بعد أفواج إلى طلوع الفجر أنين العصاة، وتسبيح المنيبين، ودعاء المضطرين، وتوجه المقبلين، وانكسار التائبين، وأنفاس المحبين ولسان حالهم ينادي أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ 22، منتظرين استجابته لهم قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 23.
[2] سورة النور الآية 35.
[3] في ظلال القرآن، الشهيد سيد قطب، دار الشروق، الطبعة الشرعية السابعة عشر، 1992، المجلد 6، ص3944.
[4] التفسير الكبير” مفاتيح الغيب”، محمد الرازي، دار الفكر، ط1-1981، ج32، ص28.
[5] فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، المكتبة العصرية، ط2-1998، الجزء5، ص598.
[6] البحر المحيط، محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، دار الكتب العلمية، ط1-1993، ج8 ص492.
[7] التفسير الكبير” مفاتيح الغيب”، ج32، ص28.
[8] الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، د-ت، ج20 ص130.
[9] البحر المحيط، ج8، ص95.
[10] الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص132.
[11] تفسير القرآن العظيم، الحافظ ابن كثير، دار المعرفة، ط1-2000، ج4، ص2052.
[12] التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، وهبة الزحيلي، دار الفكر، ط1-1991 ج30، ص330.
[13] فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، ج5، ص599.
[14] التفسير الكبير” مفاتيح الغيب”، ج32 ص31.
[15] التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، المداد التونسية للنشر والتوزيع، ط1984، ج30 ص559.
[16] التفسير الكبير” مفاتيح الغيب”، ج32، ص28.
[17] البحر المحيط، ج8، ص493.
[18] التفسير الكبير” مفاتيح الغيب”، ج32، ص29.
[19] رواه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصوم، باب حمرة الشمس عند طلوعها وضعفها صبيحة ليلة القدر. صححه الالباني.
[20] الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه “الموطأ” من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار، ابن عبد البر، دار قتيبة للطباعة والنشر، ط-1-1993، ج10، ص343.
[21] رواه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصوم، باب ذكر كثرة الملائكة في الأرض ليلة القدر. حسن اسناده الألباني.
[22] سورة يوسف الآية 88.
[23] سورة يوسف الآية 92.