مقدمة
لا يخفى على أيّ مسلم أن الله تعالى أمرنا بإقامة الصلاة، وذلك في آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى: إنّني أنا اللُه لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (طه:14). وقال أيضا سبحانه وتعالى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (النساء:103). وكما أمرنا بإقامة الصلاة أمرنا كذلك بدعوة الناس إلى إقامة الصلاة، فقال سبحانه وتعالى: وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها (طه:132). وقال أيضا عز وجل: وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (مريم:55). والسؤال الذي يمكن أن نطرحه بهذا الصدد هو: كيف ندعو الناسَ إلى الصلاة؟
حاجتنا إلى الحكمة
إنه حقا سؤال مهم جدا، لكن الجواب عنه قد يختلف من شخص لآخر حسب الفهم والحكمة والتجربة الدعوية. فقد نكون في بعض الأحيان نُنفّر الناس من الإقبال على الصلاة من حيث نظن أننا ندعو إليها، وذلك حين نستعمل أسلوبا غير مناسب. والذي يحدد الأسلوب المناسب أمران: الواقع الذي نعيشه والشخص الذي ندعوه. فمثلا إذا قرأنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع” 1. ثم قُمنا نطبقه مع أولادنا خاصة أمرا بالضرب والتهديد والترهيب حتى يُقبلوا على الصلاة بدون استحضار الواقع، نكون قد أخطأنا في تنزيل النص، وفي التفاعل معه. لأن الإكراه على الفعل في بعض الأحيان يصنع منافقين. قد يُصلون في حضرتنا ويمتنعون عنها في غيابنا. قد يصلون بعض الأوقات ويتركون بعضها الآخر. وربما قد يصلون تحت الإكراه حتى بدون وضوء.
تأملوا معي هذا السؤال والجواب اللّذين أخذتهما من موقع الإسلام سؤال وجواب. حتى تدركوا ما أشير إليه.
يقول السؤال: كيف لي أن أدعو أحداً إلى الصلاة، مع أنه يعرف أنها واجبة، ولكنه يتركها أحياناً؟ وأريد أن تعطيني بعض الجمل البسيطة والمتعلقة بهذا السؤال، وبعض الجمل التي فيها ترهيب وترغيب.
جواب الداعية: يمكنك تذكير هذا الشخص ونصحه من خلال بيان حكم ترك الصلاة، وحكم ترك الصلاة جماعة في المسجد، وبيان حال السلف مع الصلاة. أما حكم ترك الصلاة: فقد سبق في عدة أجوبة أن تاركها كافرٌ خارج من الإسلام، وأنه لا يُقبل منه عمل يوم القيامة، وأنه يجب فسخَ عقد نكاحه مع زوجته إن كانت مصلية، كما أنه يجب أن يعلم هذا التارك أنه لا تؤكل ذبيحته، ولا يغسَّل ولا يصلَّى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين. انتهى.
قلت: هذه الأحكام قد نجزم بصحتها، لكن تنزيلها على واقع مفتون هو من الصعب جدا تقبلها من قبل المنصوح. فقد يكون أسلوب الرحمة والرفق أنجع وأنفع من كل هذا الترهيب والصرامة المفرطة.
قارنوا هذا الموقف الذي أشرنا إليه مع هذا الموقف الذي قدّمه لنا الداعية محمد الغزالي رحمه الله تعالى حين سأله شخص عن حكم تارك الصلاة. فقال له رحمه الله: حُكمه أن تأخذ بيده إلى المسجد ليصلي. ما أعظمه من موقف وما أروعها من حكمة. إنه الفقه المنهاجي الذي نحن في حاجة إليه.
فلا بد إذن من التفريق بين واقع الإسلام الذي يقتضي التطبيق الحرفي للنصوص، وواقع الفتنة الذي يقتضي لتنزيل الأحكام إلى أساليب الرفق والرحمة والتحبيب والترغيب والتدرج أكثر من أي أسلوب آخر. وما ينطبق على الصلاة ينطبق كذلك على أمور أخرى في العبادات والمعاملات. وكما تختلف الأساليب وتختلف الوسائل من واقع إلى واقع، تختلف كذلك من إنسان إلى إنسان، هناك الصغار وهناك الكبار، هناك الرجال وهناك النساء. هناك الأمي وهناك المتعلم. فكل شخص من هؤلاء يحتاج إلى تعامل دعوي خاص.
أساليب ووسائل
فإذا حاولنا أن نحدد بعض الأساليب والوسائل المشتركة التي يمكن أن نعتمدها في الجواب عن السؤال الذي طرحناه في المقدمة فستكون على الشكل التالي:
أولا: التعليم: إذْ لا يمكن أن نأمر إنسانا صغيرا أو كبيرا بشيء وهو يجهله، ومنها الصلاة. بل لا بد من تعليمه إياه حتى يتقن ويحسن تطبيقه. وتعليم الصلاة يبدأ من الطهارة والوضوء ثم الصلاة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “علِّموا أولادَكُمُ الصلاةَ إذا بلَغُوا سبعًا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشْرًا، وفرِّقُوا بينهم في المضاجِعِ” 2.
ثانيا: النصيحة: عبارة عن تحبيب، بأن نرغبه في الصلاة بذكر فضلها عند الله تعالى، وأهميتها في الدين. فإن الصلاة فضلها عند الله عظيم، فهي سبب من أسباب دخول الجنة، وهي الصلة التي تربط بين العبد وربه. روى أبو هريرة -رضيَ الله عنه- عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: “أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟ قالوا: لا يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ، قالَ: فَذلكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بهِنَّ الخَطَايَا” 3.
أما أهميتها في الدين فهي من أركان الإسلام الخمسة، وفرض من فرائضه، وهي عمود الدين من تركها سقط دينه. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ” 4.
ثالثا: الإصرار: وهي تكرار الدعوة إلى الصلاة وعدم الاكتفاء بمرة أو مرتين. يقول الله تعالى: وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها. ويقول كذلك سبحانه: وكان يأمر أهله بالصلاة، تحمل كلمة “اصْطبِر” وكلمة “كان” إشارةً قوية إلى تكرار الأمر في الدعوة إلى الصلاة.
رابعا: القدوة: أن يشاهد النماذج الحية وهي تصلي بخشوع أمام عينيه، تستهويه إلى الاقتداء، وتستفزه في كل مرة يراها أن هلمَّ إلى الصلاة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “صلوا كما رأيتموني أصلي”. توجيه نبوي يحمل معنى الدعوة إلى الصلاة بالتعليم والاقتداء.
خامسا: المصلَّى: مكان في البيت يخصص للصلاة خاصة النوافل والتطوع. وجوده بمثابة حجة على عمل مُهم في الدين ينبغي ألاّ نتركه بأي وجه كان. وهو الصلاة. عن أنس بن مالك رضي الله عنه: “أنَّ أمَّ سُلَيْمٍ سألَت رسولَ اللَّهِ، أن يأتيَها فيصلِّيَ في بيتِها فتتَّخذَهُ مصلًّى، فأتاها فعمَدت إلى حصيرٍ فنضحَتهُ بماءٍ، فصلّى عليهِ، وصلَّوا معَهُ” 5.
سادسا: الصحبة: تبدأ الصحبة على الخير، ثم تنتهي بالاستصحاب إلى بيت الله تعالى لدفع من لا يصلي إلى عتبة الباب وحشره وسط المصلين. وعندما تتمكن روحانية المسجد من قلبه، تكون العملية قد نجحت.
سابعا: الهدية: من خلال تقديم كتاب يتحدث عن الصلاة، أو إهداء مصحفِ قرآن، أو إهداء سجادة صلاة. ومن الأكيد جدا أن هذه الهدايا سيكون لها الوقع الكبير والتأثير القوي حين تقع في يد المدعُوِّ إلى الصلاة.
سابعا: الدعاء: هذه الأساليب والوسائل يجب أن تصطبغ بالدعاء من قبل ومن بعد وأثناءها. لأن التوفيق والهداية يبقى من الله أولا وأخيرا.
خاتمة
إن كل ما ذكرناه هي أمور تساعد على الإجابة عن السؤال الذي بدأنا به حديثنا: كيف ندعو إلى الصلاة؟
وسأختم حديثي بهذه القصة التي تظهر أهمية الحكمة في اختيار الأسلوب والموقف المناسبين عند الإقبال على عمل من أعمال الدعوة. يُحكى أن رجلين من أهل الدعوة والعلم مرّا برجل معلّقٍ بحبل على شجرة يكاد يلفظ أنفاسَه الأخيرة. فبينما هو يستنجد بهما طلبا لإنقاذه، انهمك الرجلان في الجدال: هل سقطت عنه الصلاة أم لم تسقط؟
موقف مضحك ومُبكٍ في الوقت نفسه. الأحرى بهما والأولى أن ينقذا الرجلَ ويحسنا إليه ثم بعد ذلك يذكّرانه بأمر الصلاة. لكنهما لغياب الحكمة تصرفا بغير ذلك، ولربما الرجل يكون قد مات وهما مازالا يتجادلان، من يدري.
فاللهم ارزقنا الحكمة والعلم والفهم والصواب في صغير الأمر وكبيره. آمين
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين. والحمد لله رب العالمين.