كلمة الدكتور متوكل في “مقدس 25” تقف عند حدثي “طوفان الأقصى” و”زلزال الحوز” وتحلل الواقع السياسي والاجتماعي

Cover Image for كلمة الدكتور متوكل في “مقدس 25” تقف عند حدثي “طوفان الأقصى” و”زلزال الحوز” وتحلل الواقع السياسي والاجتماعي
نشر بتاريخ

مقدس أكتوبر 2023

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين

إخواني الكرام، أخواتي الكريمات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

باسم الله وعلى بركة الله نفتتح هذه الدورة، دورة المجلس القطري للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان (مقدس)، المنعقد يومي السبت والأحد 21 – 22 أكتوبر 2023، سائلين المولى عز وجل كمال التوفيق والسداد.

إخواني الكرام، أخواتي الكريمات

تأتي هذه الدورة عقب حدثين بارزين كاشفين أو مؤكدين لحقائق كثيرة. ففي صبيحة 7 أكتوبر 2023 كان الموعد مع حدث كبير بتوقيع أبطال المقاومة الفلسطينية، حدث أذهل الصهاينة، وفاجأ العالم، وأعاد أملا كاد أن يتلاشى، وأكد سنة كونية كادت أن تنسى، وهي أنه مهما بلغ المعتدون من علو وجبروت، فإنه بالإمكان توجيه ضربات موجعة لهم، تربك حساباتهم، وتجرح كبرياءهم، وتهز ثقتهم في خرافاتهم أو ما يرجون له من أوهام.

لم يكن هذا الحدث مغامرة متسرعة، كما يزعم البعض، وإنما جاء بعد أن عيل صبر الفلسطينيين بالاعتداءات المتكررة عليهم، وحشروا في الزاوية، وطال حصار الصهاينة لغزة العزة، وما نتج عن ذلك من مآس تجلّ عن الوصف. لكن هذا الحدث أسمع من كان به صمم، أن تدنيس المقدسات الإسلامية لا يمكن أن يُقبل، وأن اغتصاب الأرض، وقتل النساء والأطفال والكبار والصغار لا يمكن أن يمر دون رد. وكان الرد مبهرا وكاشفا لخرافة الجيش الذي لا يقهر، والحصون غير القابلة للاختراق وغير ذلك من الدعاوى العريضة.

لا غرابة أن تفقد حكومة الكيان الصهيوني أعصابها، وأن يكون ردها غاية في الهمجية. لكن الغرابة كانت في السرعة التي تجاوبت بها الإدارة الأمريكية ومعها عدة دول غربية، داعمة للجلاد المحتل، وموجهة كل اللوم إلى المظلوم المغتصبة أرضه، والمهدورة كرامته، والذي يتعرض للحصار والتقتيل والتجويع وصنوف شتي من الأذى والإذلال منذ عقود. وسرعان ما بدأت حملة إعلامية واسعة تشيطن الضحية، وتبرئ ساحة المجرم المعتدي.

غريب أمر هذا العالم الذي ينتصر أهل السطوة فيه للظالم على المظلوم، ولا يبالون بدماء الأبرياء وإن جرت أنهارا، ولا بدموع الأطفال والنساء وإن سالت مدرارا. وغريبة سياسة هذه الدول التي تصف نفسها بأنها متحضرة، وحريصة على العدل الدولي وحقوق الانسان والمواثيق الدولية، وغير ذلك من الشعارات البراقة التي تتبين عند الاختبار أنها أخرب من جوف حمار، كما يقال، وأنها للاستهلاك ليس إلا. ربما يكون كتاب دجون ميرشايمرThe tragedy of Great Power Politics  مأساة سياسة القوى العظمى مفيدا لمعرفة أن المبادئ التي تقوم عليها سياسة هذه الدول لا يمكن إلا أن تكون مأساوية. ولعل مواقفهم المنحازة من القضية الفلسطينية رغم أنها قضية عادلة بكل المعايير القانونية والشرعية والأخلاقية والإنسانية خير دليل على ذلك.

حيّا الله أبطال المقاومة الفلسطينية، وبارك الله في الشعب الفلسطيني الأبي، ورحم الله الشهداء، وعجل بالشفاء للجرحى، وعظم الله أجر من فقدوا حبيبا أو أحبة، أو جارا كريما، أو صديقا عزيزا أو أصدقاء، وسلمت أيادي أظهرت أن هذه الأمة قد تضعف لكن لا تهون، وقد تخسر معركة أو معارك لكنها لا تنهزم، وقد تصانع الواقع زمانا لاختلال موازين القوى ولكنها لا تستسلم، بل سرعان تنهض وتنتصر بإذن الله.

ولعل خروج المغاربة يوم الأحد 15 أكتوبر 2023 في مظاهرة قد تكون هي الأضخم في تاريخ المظاهرات في المغرب تؤكد هذه الروح الكامنة في قلب كل مسلم ومسلمة، وتؤكد تعلق المغاربة بالقدس والأقصى والأرض المباركة، وإجماعهم على تضامنهم مع إخوانهم في فلسطين، والتنديد بجرائم المحتلين الغاصبين. كما تؤكد على أن التطبيع مع الصهاينة عمل مرفوض ومدان ولا مستقبل له، ولا مرحبا بالقتلة بين ظهرانينا وفوق أرضنا.

الحدث الثاني الذي لابد من الإشارة إليه بهذه المناسبة وإن كان ذا بعد محلي يتعلق بالزلزال الذي ضرب المغرب يوم الجمعة مساء 08 شتنبر 2023. وقد خلف ضحايا ودمارا كبيرا في منطقة الحوز وتارودانت وغيرهما من المناطق. نسأل الله أن يتقبل من قضوا في الشهداء، وأن يشفي الجرحى وأن يرزق الناجين خيرا مما فقدوا مع الصبر والاحتساب. ولقد كان هذا الحدث مؤلما وكاشفا لأمور كثيرة. منها شدة المعاناة التي يعيشها سكان مناطق واسعة من هذا البلد، علما أن هذه المناطق غنية بمواردها الطبيعية، لكنها لا تستفيد منها شيئا. والأنكى أنهم لما نزل بهم البلاء، ونتج عنه ما نتج من أضرار وآلام، لم يجدوا المواساة المطلوبة والمستعجلة من قبل الدولة. ولولا هبة المغاربة الرائعة ومسارعتهم لنجدة إخوانهم، والتخفيف عنهم من مصابهم، لكانت المصيبة أوسع وأشد إيلاما.

لا أريد أن أكرر ما قلته في حوار سابق حول الموضوع، ولكن الذي أريد أن أؤكد عليه هو أن محنة الناس هناك لم تنته بعد، وينبغي أن تبقى قضيتهم حاضرة، ولا ينسي اللاحق من المآسي السابق. كما أريد أن أنوه بالجهود التي بذلها إخوانكم وأخواتكم في جماعة العدل والإحسان، وبما قاموا به من مبادرات متميزة جدا، آثرنا أن نتريث في نشرها للعموم -لأن السبق الإعلامي لم يكن أولوية عندنا- وسائلين المولى عز وجل أن يتقبل من الجميع، وأن يجعل ما بذلوه خالصا لوجه الكريم.

إخواني الكرام، أخواتي الكريمات:

كنت قد قررت أن تكون افتتاحية هذه الدورة مختصرة لعدة اعتبارات. الاعتبار الأول هو أن أترك المجال واسعا لمناقشة ما يتضمن البرنامج من موضوعات غاية في الأهمية مثل مشروع الوثيقة السياسية ومدونة الأسرة وغيرهما. والاعتبار الآخر هو أنه ما يمكن أن يقال قد قيل، سواء تعلق الأمر بالتشخيص، أو بما يمكن أن يكون مخرجا هادئا وسلميا من حالة الاختناق البئيس الذي حشر فيه بلدنا بسبب التدبير الرديء لشؤونه.

وقد تكرر منا الكلام في هذه الأمور مرات ومرات، حتى بحّت منا الحناجر، في كلمات ومحاضرات وحوارات وندوات نظمناها أو شاركنا فيها أو غير ذلك من المناسبات. لم ندخر وسعا في البيان والتبيين وفي النصح والتنبيه. ويعلم الله أننا لم تحركنا في مساعينا تلك حسابات ضيقة، ولا أحقاد أو ضغائن تجاه أحد، ولا الرغبة في المناصب والمكاسب. إنما الدافع الأساس هو ابتغاء مرضاة الله عز وجل الذي أمرنا والناس أجمعين أن نكون من المصلحين، لا ممن يسعون في الأرض فسادا، وأن نساهم مع غيرنا في إصلاح أحوال هذا البلد، هذا البلد الذي حباه الله بميزات كثيرة، وبإمكانات وثروات يمكن أن يكون بها وبتدبير جيد في وضع أفضل، وينعم بخيره كل المغاربة، لا فئة معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة.

وإن كان من جديد يمكن الإشارة إليه، فهو لا يعدو أن يكون مظهرا آخر من مظاهر الأعطاب المعروفة المعلومة التي يعاني منها جسم النظام السياسي المغربي. لكن الملاحظ أن أكثر الأخبار الرائجة عبر مختلف وسائل التواصل إنما تتناول الأعراض، أعراض المرض، لا أسبابه وأصوله. بل إن الحديث عن تجليات المرض قد بلغت حد التخمة. فالكل يتحدث عن اتساع دائرة الفقر، وغلاء المعيشة، وارتفاع نسبة البطالة، والتردي المتواصل في مجال الصحة والسكن والتعليم والإدارة، وعن الرشوة والمحسوبية، ونهب الثروات والاعتداء السافر والمتكرر على أبسط الحريات، وملاحقة الصحافيين والمدونين لأتفه الأسباب، والتشهير الذي تجاوز كل الحدود بكل من تسول له نفسه أن يعبر عن رأي مخالف لما يحب سماعه أصحاب القرار، وغير ذلك مما يطول سرده ويستعصي إحصاؤه.

وقد راعني، مما ذكرت وما لم أذكره من مآس، الهجوم المتصاعد على الأخلاق والدين والقيم النبيلة والفطرة السليمة، وبروز أنماط من السلوك الغريبة عن مجتمعنا، والدعوة إليها علنا، والإعلان عنها في مناسبات تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي بالصوت والصورة، مسجلة بذلك وقاحة غير مسبوقة في تحدي مشاعر مجتمعنا المسلم.

ولو كان الأمر يتعلق بحدث فردي معزول، لقلنا ربما كانت فلتة غير مقصودة، ولكنه اعتداء يبدو أنه منظم يتم من خلال وسائل الإعلام الخاص والعمومي والمسارح والمهرجانات الماجنة، والشواطئ التي أصبحت ترتكب فيها الفواحش أمام أعين الجميع، ونوادي الرذيلة المنتشرة في كثير من المدن المغربية، والأفلام الرديئة التي تروج للعهر والزنا والشذوذ وكل ما يناقض الفطرة السليمة ويتعدى حدود الله تعالى، بل وصل الأمر حتى إلى بعض البرامج الدراسية… ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لا أدرى لحساب من هذه الحملة المسعورة على الدين والخلق وكل سلوك سوي. وما الذي يريد المسؤولون في هذا البلد أن يجنوه من اتساع ظاهرة الانحلال الأخلاقي، إلا أن يكون ذلك داخلا في سياسة تخنيث الشعوب، وهي ممارسة قديمة جدا اعتمدتها الأنظمة الاستبدادية لترويض المواطنين. وأذكر هنا، باختصار وبتصرف يسير لتباين الترجمات، رواية تحكي ما صنعه كسرى في الزمن القديم إزاء الليديين الذي لم يشأ أن يتحمل عبء إبقاء حامية كبيرة لحراسة مدينتهم خوفا من تجدد الثورة عليه، ففكر في حيلة ماكرة وهي أنه:

أمر بفتح مواخير وحانات للدعارة وشرب الخمور وملاه للألعاب الشعبية، وأصدر مرسوما يحض السكان على ارتياد تلك الأماكن الموبوءة، فكانت له هذه الحيلة حامية، أغنته إلى الأبد عن أن يسل السيف في وجه الليديين. وقد انصرف هؤلاء المساكين والبؤساء إلى اللهو والتفنن في اختراع الألعاب من كل صنف. (…)    

ويعلق لابواسييه على هذه السياسة قائلا:

صحيح أن الطغاة لم يصرحوا جميعا أنهم يريدون تخنيث شعوبهم. غير أن ما فعله كسرى صراحة يتوخاه معظم الآخرين خفية (…) فالمسارح والألعاب والمساخر والمشاهد والمصارعون… والأوسمة واللوحات، وأشياء أخرى من هذا القبيل (يقول) كانت أشكالا من الطعوم لإبقاء الشعوب القديمة في فخ العبودية، وثمن حريتها، وأدوات الاستبداد بها. وكانت هذه الوسيلة، وهذه الممارسة، وهذه المغريات هي ما تذرع به الطغاة القدامى لتنويم رعاياهم تحت النير. (انتهى)

وهل أرزاؤنا تقتصر على استباحة الدين والأخلاق والأعراض فقط؟ كلا. إنما هي كثيرة، تنسيك الواحدة منها الأخرى، مثلما قال عمرو بن كلثوم في وصية له: وما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة. وأعود لأطرح سؤالا يحيرني: ترى ما الفائدة المرجوة من التطبيع مع الصهاينة الذين يدنسون مقدسات المسلمين لا يخشون حسيبا ولا رقيبا، ويُقتّلون الأبرياء في فلسطين، وإن كانوا يرقدون في المستشفيات يتلقون العلاج ولا حول لهم ولا قوة، أو كانوا صغارا يجلسون في حجرات الدراسة فتفجر المدارس على رؤوسهم لتتحول إلى برك من الدماء والجماجم؟ هل يمكن للقتلة المجرمين أن يرجى منهم خير لبلدنا؟ هل يمكن لمن دأبوا على إخلاف الوعود ونقض العهود أن يفيدونا في الدفاع عن قضايانا أو الإسهام في تنمية بلدنا؟ التطبيع ليس فقط خيانة لفلسطين وللأقصى ولدماء الشهداء، بل هو أيضا توقيع لفتح الباب على مصراعيه لكل الويلات المتصورة على المغرب والمغاربة.

 فلحساب من يتم هذا وما هو المقابل؟ ولماذا هذا الحرص على تعريض مجتمعنا لخطر ماحق، والتمكين لأعدائنا من رقابنا بدون داع، والسعي لاجتثاثنا من الجذور، وتحويلنا إلى غثاء كغثاء السيل، بلا وزن ولا أمل. يا حسرتى أن يؤول حال بلدنا إلى ما آل إليه من البؤس والتعاسة والهوان على الأمم. ما بكينا من زمان، كما قيل، إلا دهانا بعده زمان، ولا برقت بارقة أمل إلا تلتها خيبة أشد وقعا على النفس وأبلغ إيلاما. إلى الله المشتكى وهو حسبنا ونعم الوكيل.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله والحمد لله رب العالمين.

الرباط السبت 21 أكتوبر 2023

الموافق 06 ربيع الآخر 1445