كتاب “القرآن والنبوة”: دراسة وتحليل

Cover Image for كتاب “القرآن والنبوة”: دراسة وتحليل
نشر بتاريخ

مدخل

1. زمن الكتابة وسياقها

في سنة 2010 صدرت الطبعة الأولى من كتاب القرآن والنبوة) للأستاذ عبد السلام ياسين، وهو في الأصل مبحث يندرج ضمن كتاب دولة القرآن)، الذي فضل الأستاذ أن ينشره مجزّأ، وقد صدرت منه لحد الآن العناوين التالية: في الاقتصاد: البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية) (1995)، ورجال القومة والإصلاح) (2001)، والخلافة والملك) (2001) ومقدمات لمستقبل الإسلام) (2005) وإمامة الأمة) (2009) وجماعة المسلمين ورابطتها) (2011).

الكتاب يقع في 106 صفحة من القطع المتوسط، ومقسم إلى أربعة فصول؛ الأول تحت عنوان “عبد يوحى إليه”، والثاني موسوم ب”قل ما كنت بدعا من الرسل”، والثالث سمّاه “الهجرة والنصرة”، أما الرابع والأخير فقد عنونه ب”الجهاد”.

ويعود تاريخ تأليفه إلى أكثر من ثلاثين سنة، في حدود 1980؛ أي بعد سنوات قليلة من الإفراج عن الأستاذ فيما يعرف بقضية رسالة الإسلام أو الطوفان)، وفي نفس الوقت الذي بدأ فيه الأستاذ ينشر كتابه التأسيسي المنهاج النبوي)؛ حيث صدر الجزء الأول منه في العدد الثامن في مجلة الجماعة) غشت 1981، وإعلانه رفقة ثلة من رفاقه ومحبيه عن تأسيس الجماعة الخيرية) (1983)، ثم اعتقاله مرة أخرى بسبب ما جاء في افتتاحية العدد العاشر من نفس المجلة؛ حينما عقَّب بقوة على رسالة القرن الملكية).

2. قضية الكتاب

مسلحا بعُدّة منهجية أصيلة، جوهرها اتِّباع المنهاج النبوي في الجمع بين العقل والعاطفة 1 ، ورفضه ل”اللغة الجاهلية” التي لا تتسع لتعبر عن معاني القلوب 2 ، ومُستهديا بنظرة ذات شقين متكاملين؛ خطواتها هي الشريعة، وأفقها هو التعرض للقدر الموعود 3 ، ينطلق الأستاذ مستعينا بالله تعالى ليتصدّى للإجابة عن السؤال العويص: كيف لنا أن نعيد للقرآن الكريم والنبوة الشريفة تلازمهما ودورهما في تحقيق ذلكم المشروع التجديدي الشامل ببُعديْه العدليّ والإحسانيّ؟ وبأي فهم، وبأي إرادة نتعامل مع القرآن الكريم والنبوة الشريفة من أجل تجديد الإيمان في القلوب والعزة في الأمة؟) 4 .

من القضايا الموضوعاتية للكتاب

1. القرآن الكريم: من أجل تعريف قرآني

في مقال له حول القرآن والعقل في نظرية المنهاج النبوي) يشير الأستاذ أحمد بوعود إلى أن القرآن الكريم عُرِّف بتعريفات عدّة، اهتمت أغلبها بالشكل أكثر من الجوهر؛ من قبيل تعريف الشوكاني الذي وسَمَهُ بأنه الكلام المنزل على الرسول، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلا متواترا)، لكنه يؤكد أن الأستاذ ياسين هو أوّل من اعتنى بتعريف القرآن لنفسه بنفسه) 5 ؛ وذلك حينما استخرج في كتابه هذا ثلاث صفات للقرآن، وهي: الفرقان والبرهان والإحسان.

قبل أن يُقدِّم تعريفه “القرآني” للقرآن الكريم يؤطِّر الأستاذ ياسين حديثه بالإشارة إلى أن العالم أصبح متحركا عنيفا، فيبدو من يتحدث فيه عن الوحي والنبوة ناشزا حالما) 6 ، بل وهاربا من حلبة مواجهة “حقائق” الواقع حيث يتحدد مصير الأمة ومستقبلها. بينما كان القرآن في العصر النبوي عندما كان ينزل مواكبا للمسيرة التاريخية موجها لها) 7 هو العلم والمنهاج والبرنامج. فما الذي وقع؟

لقد كان القرآن مصدر العلم والمعرفة للجيل القرآني الفريد؛ “يثوِّرونه”، بعد أن رضوا به إماما، ليستنبطوا منه الحق. ولكن للأسف جاء على الإسلام حين من الدهر طُرد فيه القرآن من قلوب الناس ومن جلّ حياتهم، وأصبح “يُنثر كما ينثر الدَّقل”.

والأسئلة التي تؤرق الأستاذ في هذا الصفحات هي: كيف نعود ونتخذ القرآن إماما؟ وكيف نجتمع عليه علما وعملا؟ وكيف ننظم به ما بيننا؟) 8 .

يؤكد الأستاذ بوضوح لا لُبس معه أن الفيصل بين الإيمان والكفر موقف الناس من القرآن) 9 ؛ فالمؤمنون الصادقون يتلقّون توجيه كلام الله بنيَّة التنفيذ إذعانا ورضى، ويخدمون الغايات التي رسمها، ويعملون على أن يسود القرآن سيادة مطلقة في حياة الفرد والمجتمع، بينما غيرهم، الذين اتخذوه مهجورا، وجعلوا العقل له قرينا، بل وإماما، يزدادون اختلافا وتفرقا، و”نقصانا في العمى”، كما عبَّر سيدنا عليّ كرم الله وجهه.

أما أن يكون القرآن برهانا فمعناه أن يكون هو المعيار والمرجع والحَكَم على الصّلاح والفساد، على إصابة العقل وخطئه، على سلامة الفهم وعلته) 10 ، ولن يكون كذلك حتى “يخنس” العقل ويتواضع بين يدي الوحي يستنير بهديه ونوره.

يشير الأستاذ إلى المبتدإ الذي يوضح أن الكون آيات وعلامات)، لكنه يؤكد أن العقل سيكون آلة زائغة فاشل إن اشتغلت بالأثر عن المؤثر، ووقفت عند مظاهر الخلق، تقبل ببلادة التفسير العقلاني) 11 المتحجر. ثم يطرح سؤالَ الخبرِ الذي يبحث في الجوهر والمعنى؛ فمن يزحزح العقلانية الفلسفية عن ماديتها ومواقعها؟

الجواب نجده في خطاب الله تعالى ودعوة الرسل؛ أي السَّماع. على اعتبار أن الوحي يثير كوامن الإنسان التي خلقها سبحانه قبل العقل ومن وراء العقل وفوق العقل حتى يميل المعنى الإنساني المسمى قلبا إلى “سماع” الحق)، فالسماع بهذا المعنى القرآني هو مصدر العلم)، ولن يكون لنا نصيب من هذا الخبر إلا بمقدار ما معنى من إحسان) 12 ، أي عندما يصبح موقف جماعة المسلمين من ربهم موقف العبيد المطيعين) 13 .

وأثناء اشتغاله على نسج تعريفه الجديد يلتفت الأستاذ بالنقد لفئة من المفكرين العرب الذين يَدْعون لقراءة جديدة لما يعتبرونه نصا قرآنيا، ويقصدون معالجته النقدية بأدوات العقلانية والتاريخانية) 14 .

ثم يطمئن من يتخوف من هذا الفهم، الذي يصفونه بـ”الشمولي”، على اعتبار أن هذا المسار يؤدي إلى احتكار السلطة واستعلاء الحاكم على المحكوم باسم فهم خاص للدين.

2. الوحي والنبوة

في معرض مجادلته لما يسميه بـالعقل المعاشي الفيلسوف)، والذي يطمح أن يعقلن الوحي)، وربطه بشخص محمد البطل البليغ، ومن ثَمَّ قطعه عن مصدره الإلهي، وجعله نتيجة حتمية للظروف التاريخية التي كانت تعيشها الجزيرة العربية حينها. والخلاصة هي “اقتناع” ممثلي هذا العقل المغرور بنفسه بتخلف “رؤية” الوحي في مضمار الفكر عن العقل البشري.

فإن الأستاذ يطرح في كتابه تنوير المؤمنات) سؤالا مفاده: هل الوحي فلسفة وعبقرية؟

فيجيب: كلا، بل هو خطاب الله لعبده اصطفاه في أزله، واختاره ليكون ترجمانا عنه 15 .

وفي كتابه محنة العقل المسلم) يعرف الأستاذُ الوحيَ بلغة واضحة وبسيطة، وضوح البلاغ النبوي، بأنه كلام يكلم الله به عباده المصطفين إما للاهتداء في حد ذواتهم، فتلك النبوءة، وإما يصطفيهم سبحانه لحمل رسالته لمن يشاء من خلقه، وتلك رسالة الرسل عليهم السلام، وقوامها النبوءة) 16 .

ففي الآية 53 من سورة الشورى يخاطب الله تعالى نبيه، ونحن معه، بقوله: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم.

وأثناء حديثه عن الوحي ينتقد الأستاذ توجُّهين؛ الوهابية، وما يسمون خطأ بـ”القرآنيين”، دون ذكرهما بالاسم طبعا، قوم حملوا الحديث النبوي سلاحا يقاتلون به المومنين، يبدعون ويضللون ويكفرون. وقوم من الدعاة على أبواب جهنم أنكروا السنة إطلاقا) 17 أولئك أحالوا الدين نقمة، فعملوا على نشر الكراهية بين المسلمين، أمّا مُنكرو السنة فيواجههم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ”. وهذا يعني، عنده قطعا، أن السنة وحي من الوحي، وفي كتابه إمامة الأمة) يصفها بأنها بنت للقرآن).

من بين الأمور التي يناقشها الكتاب على اعتبار أنه، كما قلنا، جزء من مشروع أضخم هو “دولة القرآن” كون “الخلافة” في غدنا الموعود تحتاج إلى أسوة، إلى سند، إلى نموذج تحذو حذوه، إلى منوال تنسج عليه؛ بمعنى أوضح: هل تجسد النموذج الذي نتحدث عنه في تاريخ المسلمين، أم أن الأمر مجرد “يوتوبيا” وأحلام؟

يقول الأستاذ بأن الذي ينفرد به الإسلام هو الشهادة التاريخية، المتمثلة في السيرة النبوية وفي الخلافة الرشيدة، ثم بعد في ومضات تاريخية هنا وهناك، بأن القرآن قابل للتطبيق، وبأن دولة القرآن ليست مثالا حالما) 18 .

لكنه يؤكد أن هذه العودة لن تتحقق لمجرد أن الناس فهموا الأحكام القرآنية وكتبوها وتحالفوا على تطبيقها، نجاحهم في تجديد الخلافة لا يتوقف على ذكائهم وضبطهم التنظيمي، وإن كان كل هذا مهم، بل نجاحهم رهين بمقدار ما معهم من خلق القرآن وفرقانه وبرهانه وإحسانه) 19 .

3. العقل: الحدُّ، والحدود، والوظيفة، والعلاقة بالوحي

من بين الإشكالات العويصة التي يعمل الكتاب على مناقشتها بوضوح وعمق كبيرين، تلك التي تروم تحديد مفهوم العقل، ووظيفته، وحدوده، وعلاقته بالوحي، وذلك لاقتناعه التام بأنه في غد مستقبل الإسلام أول ما سيواجه الإسلاميين عالم يؤله العقل وينكر الوحي) 20 فوجب منذ اللحظة الحسم في هذه القضايا وعدم تركها غُفلا بدون إجابات.

في البداية يقرر الأستاذ بأن العقل ليس ملَكا محلقا في فضاء البراءة والإخلاص، بل هو قسمة سماوية موحولة في أسباب الأرض، لاصقة بها، سيما إن لم يجالس العقل القرآن المجالسة المطولة، أو لم تكن له الأهلية لتلك المجالسة) 21 .

والعقل عنده كائن لا يمكن مطلقا إخضاعه بالمراقبة من الخارج، فإن حاولتْ “سلطة” ما أن تراقبَه أو تحدَّ من حريته دفعته إلى تمرد أو إلى سكون وذبول فموت، فما يبقى إلا مراودته بالإقناع حتى يتجاوز العتبة التي في أسفلها يكون خادما للهوى المتجدد والنزعات المتلونة، ومن فوقها يتنسم نسيم الإيمان ويصبح عبدا للرحمن) 22 .

وحجته في ذلك أن العقل المسلم قد أشع إشعاعا متألقا في حياة الجيل القرآني الفريد، ومن جاء بعدهم، لأنه لم يكن خاضعا للركام الفكري والفلسفي الذي يحجب نور الوحي، فاحتل العقل في خدمة القرآن مكانته، وانطلقت قوى الجماعة، وربحوا خيري الدنيا والآخرة) 23 .

تألّق العقل المسلم إذن عندما كان في خدمة القرآن، خاصة في الفقه والحديث وعلوم النقل وعلوم الآلة، والاستثناء كان في مجالات السلطان ومشروعيته، وسياسة الأمة وفروضها، وقسمة الأموال) 24 .

وفي الأخير يَخْلُصُ إلى أن العقل المعتبر شرعا هو وظيفةٌ قلبيةٌ تابعة للإيمان) 25 فما عليه والحالة هاته إلا أن يجالس القرآن والداعيَ ويتتلمذ له و”يسمع”، فالسماع بهذا المعنى القرآني هو مصدر العلم) 26 .

وهنا يكمُن خَلاصه من ربقة الهوى 27 .

4. سر التربية النبوية ومنهاجها

من بين الأسئلة العميقة التي يعمل الكتاب على ملامستها والنبش في دقائق مخرجاتها تلك التي تبحث في السر الذي يقف وراء تربية الجيل القرآني الفريد؛ تلك التربية التي أخرجتهم من ضيق الدنيا إلى سعتها، فاستحقوا أن يرتقوا بشرف إلى مرتبة حاملي رسالة الله إلى خلقه.

هل السر يكمن في الحضور الشخصي للنبي بين ظهرانيهم: تربية وتنظيما وزحفا، فإن كان الأمر بهذا المعنى فإن ذلك النور النبوي الذي قبس منه الصحابة فوصلهم بنور القرآن وقربهم من الله جلت قدرته فأحبهم ونصرهم) 28 يكون قد خبا إلى غير رجعة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذن فلاحَظَّ للأجيال التالية من ذلك السر ولا نصيب.

كلا يجيب الأستاذ لقد ترك فينا النبي صلى الله عليه وسلم ما إن تمسكنا به لن نظل؛ ترك فينا أمرين: الأول، متفق حوله، وهو كتاب الله تعالى، والثاني اختُلف في تحديد ماهيته بين شقي الأمة: “سنة النبي” عند “أهل السنة”، و”أهل البيت” عند “الشيعة”.

وإذن فقد تساوت الأجيال اللاحقة مع الجيل النبوي فهما وفضلا.

كلا أيضا، لأن “خيرية” القرن النبوي ثابتة، وهي نابعة أساسا من طراوة آيات كتاب الله في القلوب، وحضور النبي الشخصي؛ بما يعنيه ذلك من تربية وتوجيه وتطبيب.

السر إذن في تلك الروح التي تسري في المؤمنين وتصوغ منهم جندا يطيع الله والرسول، وينبذ كل إله غير الله، ويقطع كل ولاء غير الولاء لله ورسوله) 29 . ولن يكون لنا نصيب من هذا السر إلا بمقدار ما معنا من إحسان) 30 . وهذا جوهر ما يسميه الأستاذ بـالمنهاج النبوي).

5. ميراث عظيم، وورثة متخاصمون

يوجه الأستاذ ياسين نقدا لاذعا للثورة الإيرانية في بداية انتقالها نحو “منطق الدولة”؛ حيث يُعدِّد عليها أربعة أخطاء كانت حاسمة في الانحراف الذي وقع لمسيرتها بعد ذلك 31 ؛ التعاون ضد المؤمنين مع نظام النصيرية الكافر) وتَوقُّفها عن مَدِّ يد المساعدة للأمة الإسلامية المقاتلة في أفغانستان) والإعلان في صفوف المسلمين أن إسلامهم هو إسلام آل البيت) وإيهام المتطلعين منهم للتحرر من كابوس الجاهلية أن إسلام أهل السنة مُعادٍ لآل البيت)، واضطهاد المذاهب الإسلامية الأخرى، وهو ما يفتل في تضخيم داء الطائفية) الذي شتت شملنا لقرون.

وهذا ما يجعله يؤكد في ذلك الوقت أن الخطوات الأولى للثورة في إيران تتجه إلى غير ما يدل عليه الكلام الطيب الذي نسمعه من الإمام الخميني الذي يدعو لوحدة المسلمين في وجه الكفر والاستكبار، ويدعو لتخطي الطائفية) 32 . ويعترف الأستاذ أن المهمة ضخمة، لذلك يقول بأنه يعذر الثورة على أخطاء البدايات، لكنه حذّر بقوة.

ثم ينبه إلى أنه لا يمكن لشق من الأمة أن يزعم أنه وحده الأمة) 33 .

ويدعو إلى عرض الخلاف بين “السنة” و”الشيعة” على كتاب الله وسنة رسوله، ولكنه يتساءل قائلا: من يعرض، ومن يفهم، ومن يسوّي الخلاف؟ وبأي إرادة، ومن أي منطلق، وإلى أي هدف؟) 34 .

لا نستعجل يقول الأستاذ فبعد تحرير دار الإسلام يفتح الله تعالى لنا بابا لنتجاوز المهاويَ التاريخية المهددة انقطاعا عن تاريخ الفتنة ووصلة بالنموذج الخالد. )يجمعنا حب الله ورسوله. يجمعنا تحدي الجاهلية لنا، وخطرها المحدق بنا. يجمعنا واجب حمل الرسالة الخالدة للعالم، وواجب بناء الأساس للإمامة المهدية، وهي هي الخلافة الثانية الموعودة، ولن يحمل الرسالة جسم مُصَدَّعٌ) 35 .

6. مدرسة الشدائد، ومركزية مفهومي “الهجرة والنصرة”

يؤمن الأستاذ بأنه كي يكون نَسْجُ الإسلاميين الطامحين للتغيير على النمط الأول؛ نمط النبوة والخلافة الراشدة، لا تكفي شدائدُ تاريخيةٌ تجمع غضبَ الأمة، بل لا بد من مرور كل مؤمن من مدرسة الشدائد، يتربى فيها تربية تمكنه من الانقطاع عن ماضيه، وحاضره ومألوفه، وراحته، وعلاقته بكل ما يشدّه إلى الأرض وشهواتها، ليرتبط بموعود الله، ولتملأ جوانحه محبة الله، والشوق إلى لقائه، فيهون عليه الموت، ويهون عليه من دونها بذل المال والجهد. ومن هذه المدرسة مر المهاجرين والأنصار أفرادا، حتى إذا آن أن يتجمع منهم جند الجهاد، تجسدت فيهم تلك التربية، وهي روح الجماعة، تنظيما مرصوصا لا يقاوَم) 36 .

وهذه اليوم شدائد مَهُولَةٌ تطحن المؤمنين وتربيهم لتُخرج لنا إن شاء الله رجالا على ذلك الطراز. وإن كان من هذه الشدة ما يبدو لنا قاتلا، فمن وراء دروس الشدة الرجولةُ إن شاء الله (…) على أن جند الله إن استطاع أن يوفر على نفسه الاصطدام قبل اكتمال القوة كان أحكم (…) [لكن] الذي لا يمكن بدونه اعتبار جند الله مؤهلا لحمل الرسالة وأعبائها، وقيادة الجهاد ومهماته، هو التربية على الهجرة والنصرة. وهما معنيان خالدان) 37 .

فكيف يفهم الأستاذ مفهومي “الهجرة والنصرة”؟ وما الذي يبنيه عليهما؟

في كلمة، الهجرة تفيد عنده انقطاع على كل المستويات، عن كل علائق الماضي) 38 ، ممّا يستتبع ميلاد إنسان ومجتمع جديدين يضعان نصب العين تحقيق العدل الأرضي والفلاح الأخروي. والنصرة مكملة، فلا معنى لإحداهما إلا بالأخرى. وهما معا، وبهذا الفهم، يشكلان خطوة حاسمة في بناء دولة العدل الإسلامية.

خاتمة

ما هي الخلاصات التي يمكن أن يصحبها القارئ معه بعد جولتنا هذه؟

في الحقيقة، كل خاتمة تروم تقديم خلاصة لكتاب نسقي مثل كتاب القرآن والنبوة) تسقط، لا شك، في الاختزالية والتبسيط المخلَّين. من أجل ذلك نرى بعض المفكرين يعوضون “الخاتمة الاستخلاصية” بـ”خاتمة استشرافية” يطرحون فيها إشكالات تولَّدت عندهم نتيجة بحثهم السابق من أجل استئناف النظر.

ولأن كتابنا كما سبق الذكر هو جزء من مشروع أكبر وكنت أفضل أن يصدر في مجلد واحد فإننا لا نستطيع أن نختم لا بـ”الخلاصات” ولا بـ”الآفاق”، ولكننا نقول في كلمة وداعية، نستعيد فيها ما قلناه في “قضية الكتاب”، من كون الكتاب حاول أن ينبه إلى ضرورة استعادة التلازم بين القرآن والنبوة تلازم مصدريهما وغايتيهما، وأشار إلى أن المشروع المجتمعي الذي يطرحه الأستاذ لا يمكن أن يَنْبُتَ إلا إذا حسمنا وفصَّلنا في الكيفية التي يجب أن نتعامل بها معهما. وبهذا المعنى فإن تجديد الإيمان في القلوب والعزة في الأمة لن يحصل إلا بنوع خاص من الفهم والإرادة شعارهما العريض هو “الجهاد”.


[1] عبد السلام ياسين، “القرآن والنبوة” ص14.\
[2] نفسه، ص 32. ويقول في الصفحة 53 من نفس الكتاب: “البلاغ الإسلامي ينبغي ألا يحاكي الخطاب الثقافي الجاهلي في تثَنِّيه وتحذلقه الجاهلي، يجب أن لا ننهزم أمام العقلانية الكافرة التي تكشط من كلام من يحاور المغربين على أرضهم كل نداءات القلب الحارة”.\
[3] نفسه، ص46.\
[4] من تقديم عمر أمكاسو، ص7.\
[5] أحمد بوعود، “القرآن والعقل في نظرية المنهاج النبوي”، ضمن الجزء الأول من “مركزية القرآن في نظرية المنهاج. النبوي”. ص232.\
[6] عبد السلام ياسين، “القرآن والنبوة” ص11.\
[7] نفسه، ص13.\
[8] نفسه، ص16.\
[9] نفسه، ص17.\
[10] نفسه، ص18.\
[11] نفسه، ص23/24.\
[12] نفسه، ص24/25.\
[13] نفسه، ص 26.\
[14] نفسه، ص18.\
[15] عبد السلام ياسين، “تنوير المؤمنات” ج1، ط1، مطبوعات الأفق 1996، ص262.\
[16] عبد السلام ياسين، “محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى”، ط1، ص19.\
[17] عبد السلام ياسين، “القرآن والنبوة” ص36/37.\
[18] نفسه، ص26/27.\
[19] نفسه، ص28.\
[20] نفسه، ص21.\
[21] نفسه، ص20.\
[22] نفسه، ص22.\
[23] نفسه، ص20-21.\
[24] نفسه، ص21.\
[25] نفسه، ص 23. يقول في كتابه “محنة العقل المسلم”: “العقل في القرآن فعل حاسة باطنة في الإنسان تسمى القلب. العقل تلق لحقائق الوحي بواسطة القلب”.\
[26] نفسه، ص24.\
[27] في سنة 1994 أصدر الأستاذ ياسين كتابا سماه “محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى” فصّل فيه ما أجمله في كتابنا هذا، موضوع المقال. وقد نشرتُ في الشبكة العنكبوتية مقالا أُقرِّب فيه للقارئ سياق الكتاب وقضاياه.\
[28] عبد السلام ياسين، “القرآن والنبوة” ص66.\
[29] نفسه، ص45.\
[30] نفسه، ص 25، والإحسان بالمعنى الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.\
[31] نفسه، ص 67/68.\
[32] نفسه، ص68.\
[33] نفسه، ص69.\
[34] نفسه، ص70.\
[35] نفس المرجع، ونفس الصفحة.\
[36] نفسه، ص74.\
[37] نفسه، ص75.\
[38] نفسه، ص76.\