قيامة الأمة الموعودة بالخلافة

Cover Image for قيامة الأمة الموعودة بالخلافة
نشر بتاريخ

إن الله تعالى رفع قدر ومنزلة أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وخصها بخصائص عظيمة ومميزات جليلة، إذ جعلها خير الأمم وأفضلها وشرفها بوسام الشهادة على الأمم، قال تعالى وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: “أنتم شهداء الله في الأرض” رواه البخاري.

1- أمة مستضعفة

كيف كان واقع الأمة المبشرة والموعودة بالخلافة الثانية على منهاج النبوية (انظر حديث الخلافة الذي رواه الإمام احمد رحمه الله في المسند) قبل بعثتها وسيادتها الأمم؟

لقد كانت الأمة غارقة في أعماق أعماق الجهل والوثنية والاستضعاف، يصف سيدنا جعفر ابن ابي طالب رضي الله عنه واقع هذه الأمة قبل البعثة النبوية وهو يناظر الملك العادل النجاشي ملك الحبشة: “أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار” (سيرة ابن هشام).

قلت انظر رحمك الله إلى قول سيدنا جعفر رضي الله عنه (يأكل القوي منا الضعيف) هكذا كان حال الأمة. وروى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: “كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به”.

كانت هذه الأمة الموصوفة بالخيرية من رب العالمين مستضعفة متذيلة ذيل الأمم القوية العظيمة والمتفوقة حضاريا وسياسيا واجتماعيا وعسكريا، ونستحضر الهجمة الشرسة على الكعبة المشرفة بقيادة الطاغية أبرهة الاشرم ملك اليمن الذي قصدها لهدمها، فجيش جيشا جبارا جرارا بعدته وعتاده واستخدم فيه الفيلة، فما كان من سيد الأمة عبد المطلب جد الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أن قال له كلمته الشهيرة: “إن للبيت رب يحميه”، وصعد هو ومن معه إلى جبال مكة يتفرج على ما يحدث، لأنهم مستضعفون لا طاقة لهم بأبرهة وجنوده (انظر سورة الفيل)، كما يتفرج المسلمون اليوم على إخوانهم في غزة وهم يبادون، لأنه لا طاقة لهم بالصهاينة المعتدين وحلفائهم المستكبرين، لكن لأهل غزة العزة رب كريم يحميهم وينصرهم.

كما كانت هذه الأمة قبائل متفرقة منقسمة متشرذمة متشتتة متباغضة متناحرة ومتحالفة مع قوى الاستكبار ضد بعضها البعض، وكانت تدور بينهم حروب أهلية طاحنة ودامية، نستحضر حرب البسوس التاريخية بين قبيلتي بكر وتغلب التي دامت 40 سنة لأسباب تافهة، وحروب الأوس والخزرج التي دامت 150 سنة أشهرها حرب بعاث، أما المعارك الطاحنة بين قوى الاستكبار العظمى آنذاك الروم والفرس فكانوا يتخذون من قبائل هذه الأمة المستضعفة المقهورة المستعمرة جيوشا؛ يجعلونهم في مقدمة معاركهم ودروعا لحمايتهم، فقبيلة المناذرة كانوا تابعين لأمة الفرس وقبيلة الغساسنة كانوا تابعين لأمة الروم، وكانت تبعيتهم لهذه القوى الاستكبارية تبعية عمياء يقتتلون فيما بينهم لإرضاء أسيادهم الفرس والروم، بل بلغت سفاهتهم ووقاحتهم أن يقتلوا إخوانهم وأبناءهم وعشيرتهم لإرضاء أسيادهم، كما يقع الآن في فلسطين الجريحة، يحكي ابن هشام في السيرة أن الغساسنة قتلوا السفير المبعوث من رسول الله عليه الصلاة والسلام الصحابي الجليل الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه لإرضاء أسيادهم الروم، وكان المعروف لدى الأمم أن الرسل توقر وتحترم ويحرم قتلهم.

2- ميلاد أمة الرسالة الشاهدة

لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يكرم ويشرف هذه الأمة بعث فيها حبيبه وخليله ورسوله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وبمولد الرسول عليه الصلاة والسلام وبعثته ولدت أمة الرسالة الشاهدة والخيرة، فقد كانت الدعوة إلى الله عز وجل هي كل نفس يتنفسها وكل هواء يستنشقه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فوحد الأمة وطهرها من براثين الشرك والوثنية والجهل، فقد كان همه وحدة الأمة المنقسمة المتشتتة المتناحرة، وكانت عينه عليه الصلاة والسلام على قوى الاستكبار الإقليمية الظالمة (انظر سورة الروم) وتحرير الأمة من ظلمها وجبروتها وقهرها.

كانت دعوته عليه الصلاة والسلام لزعماء قريش إلى توحيد الله عز وجل ووحدة الأمة، وهو عليه الصلاة والسلام الذي خبر واقعها المتردي في قاع الشرك والجهل والتفرقة والاستضعاف، وكانت تحزنه عليه الصلاة والسلام الحروب الأهلية بين قبائل الأمة، نستحضر مشاركته عليه الصلاة والسلام في حرب الفِجار الطاحنة مع أعمامه التي دامت 6 سنوات، واندلعت حرب الفجار وكان عمر الرسول عليه الصلاة والسلام 14 سنة وانتهت وعمره عليه الصلاة والسلام 20 سنة، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (قد حضرته -يعني حرب الفجار- مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وما أحب أني لم أكن فعلت)، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحرب لا يصير في فئة إلا هزم من يحاذيها، يقول الإمام الأصفهاني في كتابه الأغاني (ج 19، ص 87) عن مشاركة الرسول عليه الصلاة والسلام في حرب الفجار: “فرمقه زعيما قريش حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان، وكانا يعرفانه ويعلمان شرفه ونسبه وشجاعة جده ووالده وأعمامه، وقد بهرهما إقدامه وحسن حظه وعلو نجمه وصعود سعده، فقالا: ألا ترون إلى هذا الغلام ما يحمل على فئة إلا انهزمت”، قلت سبحان الله زعماء قريش كانوا يعلمون حقيقة رسول الله عليه الصلاة والسلام وشهدوا شجاعته وإقدامه وحسن حظه وصعود سعده وبسالته في ميدان الوغى، وعلموا علم اليقين الذي لاشك فيه أن كل من جاوره يربح وينتصر، ومع ذلك لما دعاهم إلى كلمة واحدة (لا إله إلا الله) يوحدون بها الأمة بعد الشتات والفرقة وتخضع لهم العرب والعجم، ويظهرون على باقي الأمم، ويتسيدون العالم؛ طاردوه واضطهدوه وأخرجوه وحاربوه حتى كادوا يقتلونه لولا معية الله عز وجل.

أخرج أهل السير والحديث من روايات مختلفة أنه لما مرض أبو طالب عم رسول الله عليه الصلاة والسلام دخل عليه زعماء وسادة قريش يشتكون له من رسول الله عليه الصلاة والسلام، بأنه يشتم ويسفه آلهتهم، ويفرق بينهم وبين أولادهم وأزواجهم، ويحرض العبيد عليهم، ولفقوا له كثيرا من التهم، فأرسل إليه عمه أبو طالب لينهاه على فعل هذه الأعمال، فلما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيت عمه، وهو عليه الصلاة والسلام حب عمه ومقلة عينيه وكبد قلبه، أراد عليه الصلاة والسلام أن يجلس بجنب عمه على موضع بسريره فسبقه أبو جهل إلى ذلك الموضع، فلم يجد الرسول عليه الصلاة والسلام موضعا يجلس فيه إلا عند باب الدار (عتبة البيت) لأن البيت كان مملوءا عن آخره بزعماء قريش، فقال له عمه أبو طالب: “يا ابن أخي إن قومك يدّعون أنك فعلت كذا وكذا” (قلت: وإنما أرادوا بتلك المناورات السياسية الضغط على رسول الله عليه الصلاة والسلام من جهة عمه الذي تربطه به علاقة أبوية عاطفية وحنو وحب كبير، فهو عمه وكفيله، وهو في حمايته، فلم يجرؤ زعماء قريش على التعرض له أو تصفيته أو اغتياله قط حتى مات عمه). فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “يا عم إنما أدعوهم إلى كلمة واحدة يملكون بها العرب والعجم”، (قلت: يدعوهم عليه الصلاة والسلام إلى الوحدة والظهور والسيادة والرفعة وإمامة الأمم الإقليمية الموجودة على حدودهم من الفرس والروم). فقال أبو جهل ساخرا مستهزئا: “بل نقول عشرا”، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “فقولوا لا إله الا الله”، فقال أبو جهل: “تبا لك ألهذا جمعتنا”. كان لعنه الله يبث الشك والتيئيس والإحباط والهزيمة في وسط الأمة (كما يفعل بنو جلدتنا اليوم)، فخرج الزعماء من دار أبي طالب وهم يرددون: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [سورة ص: 5].

والذي حفرت هذه الكلمة العظيمة النورانية في أعماق قلبه وذهنه وعقله من زعماء قريش، وكان حاضرا في هذه المناورة السياسية، هو أبو سفيان رضي الله عنه، وكان من أعدى أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام والدعوة الإسلامية، نستحضر قوله للرسول عليه الصلاة والسلام يوم أحد متشفيا وهو يهتف: (اعل هبل هاته بتلك يا محمد) (عليه الصلاة والسلام)، فقد شهد أبو سفيان رضي الله عنه وحدة الأمة وانتصار المسلمين على أكبر قوة إقليمية آنذاك امبراطورية الروم في معركة اليرموك، وحينها كان يهتف (لا إله إلا الله والله أكبر.. يا خيل الله اركبي) وهو يدعو إلى الجهاد، حينها استوعب دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لزعماء قريش عندما دعاهم إلى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) وهو في بيت عم الرسول عليه الصلاة والسلام أبو طالب، ولم يكن يخطر على باله أنه سيواجه هرقل عظيم الروم في معركة حاسمة وينتصر عليه، وهو الذي في يوم من أيام الاستضعاف والقهر وقف أمام هرقل ملك الروم صاغرا منبهرا بملكه وعظمته وجبروته (انظر صحيح البخاري وكتب السير والأحاديث عن لقاء أبي سفيان رضي الله عنه مع هرقل عظيم الروم)، قلت: كما وقف حكام المسلمين اليوم صاغرين أمام هرقل هذا الزمان ترامب.

كما نستحضر كيف وحد الرسول عليه الصلاة والسلام بين قوى الأمة المتناحرة والمتصارعة والمتقاتلة فيما بينها على أتفه الأمور، فقد وحد عليه الصلاة والسلام الأمة في المدينة المنورة بتوحيد قبيلتي الأوس والخزرج، التي دارت بينهما حروب طاحنة دامية دامت 150 سنة من التقتيل والعداوة والبغضاء أشهرها حرب بعاث (انظر كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير)، وقد كانت قوى الشر صهاينة اليهود زمن الرسول عليه الصلاة والسلام يتآمرون على الأمة لتقسيمها وتفريقها وتمزيقها وإحياء النعرات الجاهلية فيها وإشعال فتيل الحروب بين قبائلها، ذكر ابن إسحاق في السيرة أن اليهود مروا بمجلس صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام من الأوس والخزرج فساءهم ما هم عليه من الوحدة والاتفاق والمحبة والألفة، فبعثوا يهوديا منهم ليجلس معهم ويشعل نار الحمية والعصبية والحرب بينهم، ففعل فذكرهم بحرب بعاث، فهيجهم وحرضهم وأثار الفتنة بينهم، فقام الصحابة وطلبوا أسلحتهم وثاروا فيما بينهم وتواعدوا على القتال، فبلغ ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام فأتاهم وسكنهم وأخمد نار الحمية والغضب والعصبية والثورة الهائجة لديهم، وأحبط المخطط الماكر لليهود المتآمرين على الأمة ووحدتها، فقال لهم حبيب الحق وطبيب الخلق القائد العظيم رسول الله عليه الصلاة والسلام: “أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم”، وتلا قول الله عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103]، فألقى صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام من الأوس والخزرج السلاح وجاشت أعينهم بالدموع فتعانقوا واصطلحوا (السيرة النبوية لابن إسحاق). كما وحد الرسول عليه الصلاة السلام بين الأنصار والمهاجرين. وهكذا قامت أمة الرسالة الشاهدة على الأمم بعد مخاض عسير.

3- قومة وقوة

بعد استضعاف، ولما وحد رسولنا العظيم عليه الصلاة والسلام الأمة، قامت تدعو إلى الله على بصيرة ونصرة للمستضعفين في الأرض ولتحريرهم من جور الأمم الإقليمية الاستكبارية الظالمة، خصوصا تلك المتواجدة على الحدود مع الأمة الإسلامية: الروم والفرس. فأرسل لهم الرسول عليه الصلاة والسلام رسلا وخطابا واضحا وقويا. هؤلاء الجبابرة المستكبرون في الأرض كانوا يعتقدون أن المستضعفين في الجوار الإقليمية هم رعاياهم وعبيدهم، فلم يكن يخطر على بالهم قومتهم في وجوههم. لما تلقى كسرى عظيم الإمبراطورية الفارسية رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، مزقها ورد مستكبرا: (عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي) (انظر سيرة ابن هشام). فنحن أمة الرسالة الشاهدة على الناس ندعو الأمم المستكبرة الظالمة بعون الله ومدده إلى عبادة رب العباد، ونخرج المستضعفين المقهورين من عبادتهم وتبعيتهم وجورهم، ونحرر أراضيهم من استعمارهم وسطوتهم ونهبهم لخيراتهم، إلى طلب وجه الله تعالى ورحمة الإسلام وعدله وإحسانه وسعة الدنيا والآخرة.

وفي خطاب فيه حكمة وقوة ومهابة، قال ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم عظيم الفرس، وهو واقف أمامه شامخ الهامة كالأسد: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام). فقامت أمة الرسالة الشاهدة على الأمم قومة عظيمة اقتلعت قوى الاستكبار من جذور الأرض، فمنها من انكمش وتراجع (امبراطورية الروم)، ومنها من كبكب في مزبلة التاريخ (الفرس)، بعدما كانوا قوى عظمى يصولون ويجولون في الأرض دون رادع، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8].

4- قيامة الأمة الموعودة بالخلافة

لقد أكرم الله تعالى هذه الأمة وخصها بالخيرية والشهادة على الأمم، قال الله تعالى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج: 78]. أمة شاهدة على ظلم الأمم المستكبرة لأنبيائهم وللمستضعفين في الأرض، (قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما معنى قوله تعالى (لتكونوا شهداء على الناس)؟ قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على من يترك الحق من الناس أجمعين). الحق أن تكون الأمم عادلة رحيمة بعباد الله، والباطل أن تكون جبارة في الأرض قاهرة لعباد الله المستضعفين. والأحاديث مستفيضة في شهادة أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام يوم القيامة حين يكذب الرسل فيدعون إلى الشهادة على الأمم، عن أبي سعيد الخدري قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: يُجاءُ بنُوحٍ يَومَ القِيامَةِ، فيُقالُ له: هلْ بَلَّغْتَ؟ فيَقولُ: نَعَمْ، يا رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هلْ بَلَّغَكُمْ؟ فيَقولونَ: ما جاءَنا مِن نَذِيرٍ، فيَقولُ: مَن شُهُودُكَ؟ فيَقولُ: مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ، فيُجاءُ بكُمْ، فَتَشْهَدُونَ، ثُمَّ قَرَأَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَكَذلكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وسَطًا [البقرة: 143] قالَ: عَدْلًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ علَى النَّاسِ، ويَكونَ الرَّسُولُ علَيْكُم شَهِيدًا [البقرة: 143]” (رواه البخاري).

لكن أمة الرسالة الشاهدة على الأمم أصابها المرض والوهن، فتداعت عليها الأمم المستكبرة كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها فنهشتها كما تنهش السباع فريستها، لقد تعجب واستغرب قادة الأمة الصحابة الكرام رضي الله عنهم حين أخبرهم الذي لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام أن أمة الرسالة الشاهدة ستغزوها أمم استكبارية جبارة، وتسيطر على الأمة بعد احتلالها وتسومها أصنافا من القهر والعذاب والعداوة الدموية، وتقسمها إلى دويلات وتشعل نار الفتنة والحروب بينها، وتصبح الأمة كما كانت قبل البعثة النبوية مقسمة إلى قبائل متناحرة. أخرج الإمام أحمد، عن سيدنا ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يوشِكُ الأُمَمُ أنْ تَداعَى عليكم؛ كما تَداعَى الأَكَلةُ إلى قَصْعتِها. فقال قائلٌ: ومِن قِلَّةٍ نحنُ يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، ولَينْزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدُوِّكم المهابةَ منكم، وليَقذِفنَّ اللهُ في قلوبِكم الوَهَنَ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ، وما الوَهَنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا، وكراهيةُ الموتِ” (أخرجه أبو داود). نستحضر غزو أمة المغول بقيادة الطاغية هولاكو الذي دمر وأحرق مدنا بكاملها وارتكب إبادة جماعية ومذابح بشعة في هذه الأمة. وكذا الحملات الصليبية الدامية على القدس، حيث ذبحوا أهلها عن بكرة أبيهم وخلفوا بحرا من دم المسلمين، وجعلوا من مسجد الصخرة كنيسة، وحولوا مسجد الأقصى إلى إسطبل للخيول ومستودع لأسلحتهم، وارتكبوا مجازر وإبادات جماعية فظيعة. وأيضا الاستعمار الاستكباري الغربي المتوحش على الأمة؛ الذي خلف ملايين من الشهداء وارتكب أبشع جرائم الحروب والإبادات الجماعية.

هذه التداعيات لهذه الأمم الجبارة المستكبرة وما خلفته من إبادات جماعية بشعة وجرائم إنسانية فظيعة في حق أمتنا، ظلت ومازالت محفورة في أعماق ذاكرتها ووجدانها، ومازالت الأمة تعاني من تكالب الأمم عليها، وما وقع في فلسطين وما يقع في غزة العزة من إبادة جماعية ومجازر بشعة وفظيعة ومروعة يرتكبها العدو الصهيوني تقشعر منها الأبدان وترعب بني الإنسان.

لكن أمة الرسالة الشاهدة تمرض ولا تموت أبدا، يبعث الله عز وجل لها على رأس كل قرن من ينهضها من سباتها وغفوتها، ويشفي أمراضها ويزرع في قلبها حب الله عزوجل ورسوله عليه الصلاة والسلام، وينفخ في روحها حتى تقوم بحمد الله وعونه برسالتها الاستخلافية في الأرض، وشهادتها على الأمم. أخرج أبو داود رحمه الله عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، وهذا ما يخشاه أعداء الأمة؛ أن يستيقظ هذا المارد الراقد، فيصبح كالبركان المنفجر وكالزلزال المزلزل وكالتسونامي المدمر. يقول اليهودي الصهيوني ابن غوريون: (نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثورات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نخش الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلا وبدأ يتململ). لقد استيقظت الأمة وبدأت تتحرك وتخطو نحو موعود الله بالخلافة الثانية على منهاج النبوة، وما تباشير النصر في غزة العزة إلا إشارات ومبشرات واضحة نحو قيامة الأمة الموعودة بالخلافة، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في كتابه إمامة الأمة (ص 45): “من هذا الغثاء يأذن الله سبحانه وتعالى أن تنبعث أمة الخلافة الموعودة، ومن تلك الأنفس المنهزمة وعد الله ورسوله أن تتخلق أسد العرين وحماة الدين”.