في ليلة من ليالي المدينة، كان الحزن يسري في زوايا المسجد النبوي كما تسري الأرواح في مواطن الذكر. لم تكن ليلة كغيرها، فقد خفَتَت أصوات الصحابة، وبدت وجوههم مثقلةً بما لا يُقال. كان النبي ﷺ قد علم بالغدر؛ غدرٍ ليس كغيره من الغدرات، بل طعنة نكراء في خاصرة الدعوة، حيث أُبيد أصحاب العقيدة وهم يحملون رسالة النور.
بئر معونة؛ تلك الحادثة المنسية عند كثيرين، لكنها محفورة في وجدان النبوة، لا لعدد الشهداء فقط، بل لطبيعة الجريمة: خيانة عهدٍ، ونكثُ أمانٍ، وسفكُ دمٍ زكيّ.
هناك، استُدرج حملة القرآن والدعوة، باسم التعليم والدعوة إلى الله، فإذا بهم يُبادون بلا ذنب، يُطعنون في ظهورهم، ويُقتلون غدراً، على يد رِعل وذكوان وعُصَيّة من قبائل بني سُليم.
فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أيقن أن الدم الزكي لا يُسفك بلا جواب، وأن الغدر لا يُطوى بصمت؛ فلم يرفع سيفًا، ولم يُجهز جيشًا، بل رفع يديه إلى السماء، وقنت شهرًا كاملاً. شهر تتبعه الصلوات الخمس، وفي دُبُر كل صلاة، إذا قال: “سمع الله لمن حمده”، أطلق دعاءه كالسهم: «اللهم عليك برِعل وذكوان وعصية»، ويؤمِّن من خلفه صفّ المؤمنين…
هكذا كان قنوت الغضب النبوي، لا غضب النفس، بل غضبة لله على من غدر بأوليائه. وها نحن اليوم؛ في زمنٍ تتكرر فيه الفجائع، ويتسابق الغدر لنهش شُعَب النور. في غزة؛ حيث الأطفال يتقاسمون الجوع بدل الخبز، والنساء يستظللن بالأنقاض بدل السقف. في غزة؛ حيث الموت ليس واقعة مفاجئة، بل “روتين يومي”، يُعدّ له الصمت العربي وجباته الساخنة.
أيُعقل أن نقرأ القنوت النبوي ونمرّ عليه مرور الغافلين؟
أيُعقل أن نعلم أن رسول الله ﷺ قنت شهرًا كاملاً لأجل الغدر، ونحن لا نرفع أكفّنا في وجه من غدروا ألف مرّة بأمة كاملة، بأرضٍ طاهرة، بشعبٍ قائم بأمر الله ذائد عن حياض الدين؟
إنّ القنوت ليس فعلًا عباديًا فحسب، بل موقفٌ حضاري، وغضبة إيمانية، وصوتٌ لا يُشترى ولا يُسكت.
فيا أهل الإيمان؛ هذا زمن القنوت، زمن العيون الساهرة في الأسحار، والقلوب المتضرّعة، والدموع الشاهدة على أننا لم نصمت، ولم نرضَ، ولم نهادن.
ارفعوا أيديكم كما رفعها رسولكم، وادعوا كما دعا، واغضبوا كما غضب، ولا تتركوهم وحدهم في الميدان، فإن سهام الليل لا تخطئ، وإن دعوة المظلوم لا تُرد، وإنَّ في السماء ربًّا يسمع ويرى.
قنوتٌ في صفر… لا يزال صداه يدوّي في ضمير الأمة، فمن يُجدد العهد؟