قمع الملتقى 17 في الجامعة المغربية.. التنزيل العملي للنموذج الجديد للتنمية الموعودة

Cover Image for قمع الملتقى 17 في الجامعة المغربية.. التنزيل العملي للنموذج الجديد للتنمية الموعودة
نشر بتاريخ

ليس بالمستغرب أن تمنع الدولة المغربية الطلبة من عقد ملتقاهم الطلابي السنوي، بل إن المستغرب أن لا تفعل؛ لسبب واضح جلي لمن يفقه جوهر الدولة الاستبدادية القائمة بِنْيَتُها على العض والجبر، ولأن الاستبداد في عمقه وأصله الجيني التكويني يكره العلم والعلماء لأن العلم والاستبداد كما يقول الحكيم الكواكبي ضدان متغالبان. وإن زدنا إلى هذا التاريخَ النضالي العريق للطلبة في المغرب ودورَهم في التمكين لقيم العلم والحرية والعدل والكرامة داخل أسوار الجامعة، زدنا فهما للغيظ الذي يخنق أنفاس الاستبداد ويوجه خبطه الأعمى العشوائي نحو نهج القمع والمنع والضرب والسحل والحصر والاعتقال والتفنن في ضروب الإذاية النفسية والجسدية ضد طلبة عزل، جرمهم الوحيد أنهم يريدون الولوج إلى جامعتهم التي أُعدت أصلا لهم، ويفترض أن تكون هي موطنهم وملاذهم الآمن. بهذا نعي جيدا ونفهم جيدا أن ما يقع بالجامعة المغربية اليوم ليس بالشيء الجديد، ولا بالسلوك المبتدع في عرف حُكْمٍ تاريخه والجمر والرصاص سواء.

 ليس باستطاعة المخزن المغربي أن ينسى المواقف النضالية للطلبة من داخل مدرسة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، سواء في التاريخ البعيد، أو التاريخ النضالي القريب خاصة مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات؛ إذ كيف لنظام جُبِل على الحقد والمكر أن ينسى أن الطلبة عَرَّوا سوءة الدولة وفضحوا وجهها الكالح في مجال حقوق الإنسان، في وقت كانت الدولة تستجدي الغرب لتلميع صورتها البشعة التي أبانت عنها تسريبات الحدائق السرية لتازمامارت وجِنان ورود قلاع مكونة؟ وكيف للنظام المخزني أن يمحو من ذاكرته أن الطلبة كانوا ممن اتهموا بعرقلة الترتيبات الخلفية لنقل السلطة للعهد الجديد والتي أُلْبِست آنذاك لبوس التفاوض حول التناوب والانتقال الديموقراطي، بينما لم تكن في الأصل إلا تناوبا على اغتصاب حق الشعب، وتواطؤا على الوقوف في وجه مد التيار الإسلامي المعارض الذي كان المثال البارز لكذب الدولة وبهتان ادعاءاتها في شعاراتها الجوفاء عن الديموقراطية والحرية والحقوق؟ ثم كيف للنظام المخزني أن يغض الطرف أن الطلبة كانوا الحجرة القوية التي تتعثر عليها محاولاته للتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاشم؟ وأن الجامعة المغربية كانت الصوت الرّنّان لنصرة القضية الفلسطينية؟ وأن الطلبة كانوا الذراع القوي للتيار المجتمعي الأصيل الرافض لبيع القضية؟ واسْتَقْصِ المسيرات المليونية لِتَرَ الحضور المشهود للطلبة! وبعد، كيف لنظام مخزني عتيد في القمع والمنع أن يرى رؤوس الطلبة هامات سامقات مرتفعة في سماء الرجولة والإباء في زمن سكت فيه الكل، وصمت فيه الكل، ودخل فيه الكل جُبّة الإجماع المخزنية المقدسة الآمنة؟ وفي زمن يجتهد فيه المخزن لتجفيف أيّة منابع تشم فيها رائحة الحرية الحقيقية لصالح الانبطاح التام على أعتاب السقوف المتدنية للآمال المتاحة في حدود الدوائر المرسومة للعبة السياسية؟ وأخيرا هل بوسع دولة مخزنية فاشلة في تدبيرها العام للبلاد سياسة واقتصادا، تعليما وثقافة، تنمية وصحة، إعلاما وفنا، أن تمنح مساحة ولو ضيقة مسيجة للأصوات المعارضة المزعجة لتقول كلمتها في إدارة الدولة لشؤون البلاد والعباد؟ هنا نعي جيدا أن المسألة هي أكبر من منع ملتقى جامعي طلابي كان يمكن أن يمر من دون أن ينتبه إليه أحد؛ إنما الأمر متعلق باستهداف مقصود لأي قوة مجتمعية ممانعة رافضة لقواعد اللعبة المحددة سلفا والتي مدارها على الانقياد السلس إلى قاعة الطاعة حيث الخضوع التام للإجماع المزعوم.

إن ما وقع للطلبة المواطنين المغاربة -على الأقل كما تقول ذلك بطائقهم الوطنية وبطائقهم الطلابية- من منع وضرب واعتداء جسدي ونفسي، إن كان يفضح جوهر الدولة البوليسية، ويَبِينُ عن الموقف الاستراتيجي لهذه الدولة من حق الشعب في الحرية التامة، إنما يكشف في السياق الدولي العام والوطني الخاص عن جوهر النموذج الجديد للتنمية الموعودة المأمولة التي صيغت تحت أعين المخزن وعلى يد الخدام الأوفياء ممن صفحاتهم مسودة بمداد الخزي والعار في سجل حماية حقوق الإنسان. كما أن ذلك إنما يفضح ويعرّي الطموحات التي رفعها نموذجهم التنموي الجديد عن “مشروع ثورة أو نهضة تربوية مغربية” وعن ربح “رهان المعرفة والتميز” في الجامعة المغربية، ويضع الشعب المغربي أمام حقائق “خارطة الطريق” المزعومة للنهوض بالتربية والتعليم بالمغرب، ومعنى “الابتكار” الملصق باسم الوزارة الجديدة المكلفة بالتعليم العالي والبحث العلمي. ولو أن في القوم ذرة حياء، ومقدار حبة خرذل مواطنة، لمضوا في جهد الكد وبذل الوسع لإيجاد الحلول الناجعة لما سطرته أياديهم من الإقرار بكون 40 % من الطلبة يغادرون الجامعة دون دبلوم، ومن أن نسبة مساهمة الإنتاج العلمي للمغرب هو 1,5‰ من الإنتاج العالمي، ومن أن خمــس جامعــات مغربيــة فقــط -تم ولله الحمد-تصنيفها فــي مراتـب أدنـى مـن 1000 ضمــن التصنيــف المعيــاري الدولــي فيمــا يخــص البحــث العلمــي، وكذا من أن 400 ألف من الشباب يلجون سوق الشغل دون بكالوريا. هذا ناهيك عن جملة الأوصاف الكيفية السلبية التي رسمها النموذج التنموي الجديد لوضعية الجامعة المغربية والجامعة لكل نقيصة من تقادم المحتوى المعرفي، وارتفاع معدلات الانقطاع والرسوب، ومشاكل الحكامة والتمويل، والفجوة بين العرض والطلب في مستوى المهارات، ووضعية الموارد البشرية في الجامعة كما وتوظيفا واستقلالية حقيقية، والتصور السلبي للتكوين المهني والنظرة الدونية له ولقدرته الإدماجية في سوق الشغل. وغير ذلك من التعثرات البنيوية التي كانت أجدر بالاهتمام من التربص بالطلبة والانتقام البشع منهم وكأنهم هم المسؤولون عن كوارث التعليم التي ذاعت مخازيها على كل لسان.

ولربما دلّ ما وقع للطلبة من تنكيل ممنهج بهم، عن حقيقة الخارطة المعروضة للبحث عن كنز التعليم المفقود؛ إذ الخارطة في اللغة دائرة معانيها على الكذب، والانتزاع والاجتذاب والتقشير، والإسهال والتهور، والتقطيع وإعادة التشكيل، وكل ذلك حاصل في السلوك القمعي للدولة تجاه الطلبة بكذبها وإسهالها و”خروطها” المعلوم والمفهوم، وانتزاعها للشباب والشابات من المدرّجات الجامعية واجتذابها وتقشيرها لجلودهم، وتهورها وتقطيعها لأجسامهم وسعيها لإعادة تشكيلها لأجسادهم ووعيهم وعقولهم. ولربما صدقت النهضة المأمولة والثورة التربوية المزعومة بنهوض السلطة لقمع وقهر الطلبة، وثورتها (من الثور هنا) للتربية “العصوية” للخارجين عن الطاعة، ولربما أيضا كان الابتكار المقصود ذلكم الذي جَلَّتْهُ الصور الناطقة بحجم البوار والعار لأجهزة الدولة تدنس الحرم الجامعي وتطأ مجالس العلم بالأحذية الثقال، ورؤوس المتعلمين بالعصي الغليظة. ونعمت الأقلام هي!

والخلاصة أن ما يقع الآن، وما سيقع غدا أو بعد غد، وما كان قد وقع سابقا في المغرب، إنما يظهر أن مفاهيم العهد الجديد كلها، وشعارات النماذج التنموية المتشابهة أبقارها عتيقها وجديدها، وادعاءات الدمقرطة والحداثة والشفافية والعدالة الاجتماعية كذبة بلقاء ووصمة شنعاء. أما أنتم معاشر الطلاب والطالبات، ومعاشر كل الأحياء في زمن الموتى، الواقفين ضد محو الزمان وحفر الأيام، المؤدين عنا -نحن القاعدين على الآرائك المؤثرين السلامة المؤدى ثمنها من دم المستضعفين- ضريبة كلمة الحق في وجه الجور فأبشروا بأن الدولة بضربها لكم إنما تضرب على ظهرها، وليست بنائلة منكم إلا الشيء اليسير الذي تجدونه عند الله ثوابا جزيلا وعند الأمة ثناء جميلا. فامضوا إنما تصنعون مستقبل الغد الآزف فجرَ حرية، وصبحَ عدالة، وغداةَ كرامة، ومستقبلَ تمكين. وتيقنوا أن “الله لا يصلح عمل المفسدين” وأنه سبحانه إن كان يحب “الصابرين” و”المتوكلين” و”المحسنين” و”المقسطين”، فإنه عزت قوته لا يحب “الظالمين” ولا “المعتدين” ولا “الفرحين” ولا “المفسدين”. وأنه جلّت حكمته “غالب على أمره” مهما ادلهمت الخطوب وتوالت العطوب.