في مولد الذكرى لإخوانه البشرى

Cover Image for في مولد الذكرى لإخوانه البشرى
نشر بتاريخ

في ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف من يوفقه الله ليفكر فيم سيقدمه برهان صدق ووفاء وطمعا في مزيد قرب ومحبة ووفاء. ويتساءل هل في مقدور أي رمز في الدنيا أن يلخص معنى العشق والشوق لرسول الله؟ أم هل في استطاعة أي شخص أن يوفي حق النعمة، النعمة المهداة من لدن المعطي المنعم؟

منة عظمى ونعمة كبرى تستوجب عظيم الشكر لله أن أرسل لنا رسولا نبيا هاديا مبشرا ونذيرا، كامل الأوصاف خَلقا وخُلقا، أدبه ربه فأحسن تأديبه، فاتسمت روحه الزكية بعظيم الشمائل والخصال، وكريم الصفات والأفعال. جميل في عفوه، جميل في صبره، جميل في صفحه، جميل في تأديبه، جميل في هجره، جميل في إقباله، جميل في إعراضه.. سيد الخلق وحبيب الحق، قال عنه جل وعلا: لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٞ مِّنَ اَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُومِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞۖ (التوبة، 129)؛ هو رسول الله يعز عليه ما يجد المؤمنون من عنت، حريص على مشاعرهم، بعث رحمة للعالمين، رأفته ورحمته تعدتا من رأوه وآمنوا به إلى من آمنوا به ولم يروه، فضمد جراح قلوبهم المشتاقة له وطيب خاطرهم، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين كيف ستكون لوعة من أحبه ولم تكتحل عيناه بالنظر في وجهه المضيء، ولم يشنف سمعه بحديثه، ولم يحظ بلحظة أنس معه، فترك رسالته إليهم خاصة يبشرهم بمكانتهم عنده، إنهم إخوان رسول الله. عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ودِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي، قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، أَلَسْنا إِخْوَانَكَ؟ قال: أنْتُمْ أَصْحابي، وإخوانِي قومٌ يجيئونَ من بَعْدِي، يُؤْمِنُونَ بي ولمْ يَرَوْنِي) (أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (54/ 172)).

هدأ روعهم بحنو أنهم إن لم يروه في حياته فهم يمكنهم أن يروه بعد مماته، علم صلى الله عليه وسلم احتياج المؤمن في عهد يبعد عن عهد النبوة إلى ما يثبته على الطريق حتى لا يزيغ عنها، ويحفزه على العمل فلا يعجز، فبشر إخوانه الذين اتبعوه وحرموا من رؤيته بإمكان ذلك مناما فقال صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنامِ فقد رآني فإنَّ الشَّيطانَ لا يتمثَّلُ بي) (حلية الأولياء، 7/290)

وأخبرهم أن أعمالهم تعرض عليه؛ فيحمد الله إن كانت خيرا ويستغفر لهم الله إن كانت غير ذلك، عن سيدنا عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حياتي خيرٌ لَكم تُحدِثونَ ويَحدُثُ لَكُم ووَفاتي خيرٌ لَكُم تعرَضُ عليَّ أعمالُكم فما رأيتُ من خيرٍ حَمِدتُ اللَّهَ عليهِ وما رأيتُ من شرٍّ استغفرتُ اللَّهَ لَكم) (طرح التثريب، 3/297).

وتصلهم صلاتهم عليه فيرد الله له روحه فيرد السلام، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِن أحَدٍ يُسَلِّمُ علَيَّ إلَّا رَدَّ اللهُ عليَّ رُوحي حتى أرُدَّ عليه السَّلامَ) (الفتوحات الربانية، 5/31).

وبشرهم بالفوز العظيم؛ إنه الفوز بمعيته الدائمة في جنات العلى. عن أَنسٍ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ أَعرابيًّا قَالَ لرسول اللَّه ﷺ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: “مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟” قَالَ: حُبُّ اللَّهِ ورسولِهِ، قَالَ: “أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ” (متفقٌ عَلَيهِ، وهذا لفظ مسلمٍ). وفي روايةٍ لهما: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَوْمٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ.

ترى بما استأهلوا درجة الأخوة وقد نهلوا درجة الصحبة؟ فازوا بالخير كله أخوة وصحبة ومعية دائمة.

فازوا بفضل الأخوة لما آمنوا به غيبا فاتبعوه واتبعوا النور الذي أنزل معه، لما جعلوه أحب إليهم من النفس والأهل والولد، لما استقوا من النبع نفسه واهتدوا بالهدي عينه. يقتفون أثره ويتأسون به. أمعنوا في سيرته المطهرة وأدركوا أن الله قد جمع أصول الآداب وقواعدها في حبيبه صلى الله عليه وسلم فازدادوا له حبا واتباعا.

فازوا بالصحبة لما تمسكوا بأثر أصحاب رسول الله وصحبة من صحب أصحاب رسول الله، تأدبوا بآدابه ظاهرا وباطنا، ونزلوا عند حكمه ظاهرا وباطنا، يقفون حيث وقف بهم ويسيرون حيث سار بهم، وأحبوه حبا باعثا على العمل، رافعا للهمم، مقرونا بالإرادة والعزم على أن يظهر الله هذا الدين على الدين كله.

وأخيرا أقول: من لم يمعن النظر في سيرته أنى له أن يعرفه، ومن لم يعرفه أنى له أن يتبعه، ومن لم يتبعه أنى له أن يتذوق طعم الإيمان، ومن لم يذق طعم الإيمان في الدنيا أنى له أن يتلذذ بنعيم الآخرة، ومن لم تتلذذ بنعيم الآخرة فليعلم أنه الخسران المبين والحسرة المقيتة.

هي كلمات عساها تحرك في القلب معاني طمست معالم حروفها في الأعماق غفلة، فتبعث من جديد نورا يعم الكون، كون المؤمن، فيسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار، بالغدو والآصال، قائما وقاعدا وعلى جنبه وفي كل الأحوال، كلمات نأمل أن تكون من الأعمال التي يحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليها حين تعرض عليه، وصدق بن عطاء الله السكندري حيث قال : (لولا جميل ستره، لم يكن عمل أهلا للقبول).

رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه، وصل اللهم وسلم على رسول الله صلاة وسلاما تامين كاملين دائمين إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.