في الحاجة إلى ثورة ضد الذهنيات الرعوية

Cover Image for في الحاجة إلى ثورة ضد الذهنيات الرعوية
نشر بتاريخ

تقديـم

أليس في أوطاننا العربية جائع؟ أليس فيها ضائع؟ أليس فيها جاهل أمي تحت التهميش قابع؟ أليس فيها خائف فزع، ومن سياط الزمان والاستبداد هلع؟

أليس فيها متكبر متغطرس للخير مانع؟ أليس فيها تجبر واستبداد وقهر على نطاق واسع؟ أليس فيها شريد طريد، ومغتصَب قتيل، ولاجئ في بلاد الغير بحال دامع؟ أليس فيها شعب تحت وطأة الفرعونية خانع؟

أليس فيها فكر مغيب وضمير مستهجن وقيم مستخف بها وكرامة مهدورة وحقوق مسلوبة وحياة مهمشة ومستقبل مبهم ضبابي سرابي وخراب جامع؟

مع هذا أليست شعوبنا تخرج هاتفة صارخة لا ترحم حناجرها، تهتف لمن صنع لها البؤس وأهدى لها الحرمان، واستولى على المال والبلاد، يحيى وعاش لترجع بعد يوم حافل من طقوس العبودية لتنتشي من البؤس والحرمان والتأمل في غد مجهول؟

بلى، هي نفسها وذاتها. وهذا مما جعلنا نغوص في حالنا لنرى ما السبب الذي أوصلنا إلى هذا الحد، وبأية عقلية صرنا نفكر، فلم أجد إلا ذهنية رعوية إمعية عاجزة عن الفعل والإرادة تحركنا حتى صرنا بهذا الحال.

شعب يتفرج على حكام يمارسون بهلوانية الغوغائية، والدوران على محطات التهريج، شعب مقهور شامت متربص) 1 .

يحرك الفرد عقليته وبنيته التفكيرية والإيمانية، وكلما كان مستوى هذه العقلية سطحياً هامشياً ليس حراًّ في نفسه، عارفاً بما يستحقه كإنسان في مجال الحرية والتفكير والحقوق والواجبات والمشاركة في الوطن وخيراته مع أبناء وطنه، كلما كان قابلا لتسليم رقبته لمن يرعاه ويقوده.

لذا كان النداء الفطري الأزلي أن الناس يولدون أحراراً.

وكان النداء القرآني الذي يهيب بالإنسان أن يقتحم العقبات لتحرير نفسه من كل مستخِفٍّ بها ساع لترويضها استعدادا للركوب عليها.

قال تعالى: فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فكُّ رقبة 2 .

قبل أن تسعى لتفك رقبة غيرك، ما خبر رقبتك؟ أحرة هي أم مستعبدة؟

اعتاد الجبابرة على الاستخفاف بشعوبهم وإدخالها في حالات من التهميش والجهل وقلة الوعي، ومنطقهم يقول: أنت أيها الشعب لا تفكر ولا تقرر ولا تبد رأياً، نحن نفكر عنك ونقرر لك ونقترح عليك الآراء، وإذا أردناك فإننا سنستدعيك بالهرج والمرج والقرع على الطبول ورمي الفتات في الجيوب، لتقول ما نريد، وتصوت وتفوض وترقص وتغني.

فاستخف قومه فأطاعوه. هكذا نطق القرآن، استخف فرعون بقومه حتى ألّهوه، فنزع منهم كل شيء وساقهم عبيداً إليه يخاطبهم: ما أريكم إلا ما ارى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد 3 .

ما أريكم إلا ما أرى

أمام نداء الحق وصوت اليقين وهتاف الدال على الله تعالى يبرز صوت الشيطان المتربص بالإنسان، يقطع الطريق على الدعاة والهداة، من يصلون الناس بالله تعالى ويزرعون فيهم بذرة الخير والبر والتعاون على إفشاء السلام والمحبة والكرامة والعدالة وترسيخ في العقول مبدأ ألا عبودية للبشر، وإنما هي لله تعالى، وكل البشر في هذه العبودية سواسية.

ولكن عندما يستشري الفساد فإنه لا حدود له ينتهي فيه، متى نما الفساد في ناحية تجده يكبر ويكبر حتى يصير الإله المعبود المطلق، القاهر الجبار المستعلي المتكبر على العباد.

يصنع الناس طواغيتهم وينحتونها بأيديهم ويطقِّسُون لها الطُّقُوس بأفكارهم ويُشَرِّعون لها الشرائع ويضفون عليها هالة من التقديس والتبجيل والفناء. قالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إلهَاً كَمَا لهمُ آلهةَ قال إنكم قوم تجْهَلُون 4 .

حتى إذا نما هذا المعبود البشري بخَلطة الفساد تألَّهَ عليهم واستَخَفَّ بهم وأذاقهم مرارة ما صنعوا وما قدَّسُوا.

فيرى فكره أعلى فكر، ورأيه أحسن رأي، وتدبيره أسمى تدبير، وتوجيهاته وقراراته وأوامره لا تخضع للمناقشة ولا للأخذ والردِّ، ولا يجوز أن يرد عليها إلا بمنطق سمعنا وأطعنا.

إنَّ وراء كل فاسد فاسدين، ووراء كل خائن خائنين، ووراء كل لص لصوصا، ووراءهم رعية مُسْتخَفّا بها مضحوك عليها، قطيعا مهمشا يساق يميناً وشمالا، مستضعفا في الأرض، يحشر كلما رغب المُؤلَّهُ في الأرض أن يستعرض زينته أو أن يخلق طقساً جديداً من طقوس فرعون وقارون وهامان.

كاذب من قال أنه يؤسس لشعبه الحرية والوحدة والاستقرار والكرامة والعدالة تحت منطق ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.

كيف تكون حضارة وكرامة وعدالة، والحقوق مهضومة والحرية منزوعة محرمة على الرعية.

أنتم مجردون من حريتكم مجردون من كرامتكم ورأيي هو الذي يتقدم بكم إلى الأمام ويقودكم إلى المجد.

بعد أن جعل عموم ما يقول وما يرى هو الصواب، وجعل عموم إرشاداته وتوجيهاته محصورا ومقصورا عليها الرشاد والتوفيق، وفيها الحق الحقيق، بمعنى أن ما سوى رأيه وهديه باطل ومرفوض وغير صواب، ليحصر المستبد الصواب والحق فيما يقول ويرى وكفى، وهذا عين الفساد وقمة الاستبداد، حيث يعتقد الفاسد أن رأيه وقوله وأمره سامٍ لا يناقش، وأوامره على الإثر تنفذ وطلباته على الفور تجاب.

والأدهى والأمر في استشراء الفساد في الأمة أن تكون الأمة قد تجذرت هذه العقلية فيها فصارت ترى فعلا أنه لا رأي فوق رأي الزعيم المفدى، ولا قول بعد قوله، رفعت الأقلام وجفت الصحف.

فلا ضير إن رأينا المُعَمَّمَ يشرع للاستبداد الإمام، ويكون أول من يركع ليركع بركوعه الراكعون ويسجد بسجوده الساجدون.

وما درت الأمة أنها بقبولها مبدأ: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، أنها تودع الحرية وتعدم الكرامة ويقبر العدالة، وإنها في طريقها إلى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.

الفساد يطمس العقول ويعمي الأبصار

أولا: يطمس عقل وبصيرة المفسد المستبد حتى يرديه فساده إلى الدمار والهلاك.

ثانياً: يعمي الرعية التابعة بلا قيد ولا شرط فتُغَيِّبُ فكرها ورأيها وتنقاد وراء الفاسد ومعه فساده حتى تجد نفسها قائلة: إنا أطعنا ساداتنا وكبرائنا فأضلُّونا السبيلا 5 .

فحتى لا يجد المستبد لاستبداده طريقاً وعلى فساده موافقاً، يجب رفض هذه العقلية الاستسلامية والانطلاق نحو إيمان بالله وثيق، داع إلى الفكر والحرية وإرساء الكرامة الآدمية والعدالة الاجتماعية، نجر لها المستبد جراً، وبدل ما أريكم إلا ما أرى قوله تعالى: فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر 6 . وقوله: وأمرهم شورى بينهم 7 .

لا تكن إمعة

هناك عقليات حاربها الدين ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة فترات دعوته يحاربها.

الإمعة: والإمعة هو الشخص الذي لا رأي له، هو متقلب مع جميع الاتجاهات يتلون كالحرباء، كاذب منافق مصلحته فوق كل شيء، يساير كل الناس، شجرة مجتثة من فوق الأرض ما لها قرار. متبع خانع. مثل هؤلاء من يصنعون الطغاة وأبطالا من ورق.

قال صلى الله عليه وسلم: “لا تكونوا إمعة تقولون إن احسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا” 8 .

ومن أقوال سيدنا علي كرم الله وجهه: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع اتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق).

هذا عقلية تابع لا تفكر ولا تقرر، ولا تسعى للنهوض وليس لها هم الاقتحام ولا البذل والتضحية. وأكبر مشكلة ستواجه المصلحين هذه الطبقة التي ألفت مدَّ يدها وألفت الدعة والسكون ولو على فقر وضيم، إن أزحت عنهم همَّ وغم الاستبداد، عسكروا أمامك مطالبين بالغنائم والأموال ورفاهة العيش كأنهم ورثوا من الفاسدين أوطاناً من ذهب.

العاطلون تحت الفتنة يريدون من الإسلام عملا، الجائعون يريدون خبزاً، المحرومون يريدون إنصافاً، الشباب يريدون تعليماً ومستقبلاً، الضاحون (وهم من لا سكن لهم) يريدون بيوتاً، الفلاحون يريدون أرضاً. الكل يطالب) 9 .

خطورة هذه العقلية أنها في كل واد تهيم، وليس لها قرار، هي مع من غلب، وقد يتطور الأمر لتصير مع من دفع.

انعزالية انكماشية لا تسعى للبناء وتهتف مع كل هتاف، وبهذه الذهنية لا تتحدث عن بناء فرد حر يدافع عن حقوقه وحقوق وطنه وأجياله.

الذهنية الرعوية: ذهنية النفوس القاعدة التي تنتظر أن يفعل بها ولا تفعل، وأن يدبر غيرها لها وهي لا تقدر أن تدبر.

إلى هؤلاء يأتي فاسد عليم اللسان ومنافق محنك التجربة خبير في الطباع، ودكتاتور بالسلطة فيجر خيوط هذه العقليات بالمال والغناء والرقص وتزيين الشعارات بالكلمات الجوفاء فتفضل هذه العقليات هذا المشهد على الاقتحام ، وهي تجهل على من تنتخب وتسلمه مقاليد الحكم لتضيع البلاد والعباد.

أكبر مشهد خزي في تاريخ أمتنا مهزلة التفويض للسيسي وكيف خرجت الناس ليوم الزينة للتفويض للقتل والاستعباد.

تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار

وهذه عقلية أخرى اتسخت بها ربوع أوطاننا وعانت منها شعوبنا واستغلها المستكبرون ليزيدوا من استكبارهم واستبدادهم.

ذمم تباع وتشترى لتهتف لك وتحيي إسمك وتقوي نفوذك وتخرج في مسيرات ناعقة صارخة خاشعة باكية مستعرة بقدر ما ملئت يدها من مال.

عقلية مثل هاته تتحول إلى عقليات فتصور لو صار المجتمع بهذه العقلية المصلحية الفردية إما إمعة جاهل مستكين جبان، أو عبد القطيفة وعبد الدرهم.

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تَعِسَ بْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أَعْطَى رَضِيَ وَإِنْ مَنَعَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثُ رَأْسُهُ مُغْبَرَةٌّ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَتِ السِّيَاقَةُ كَانَ فِي السِّيَاقَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْحِرَاسَةُ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشْفَعْ، طُوبَى لَهُ وَطُوبَى لَهُ” 10 .

عندنا ثلاث عقبات تقف أمام بناء مستقبلنا الدنيوي والأخروي، تتربع الذهنية الرعوية على أولى المراتب.

1. الذهنية الرعوية وقد عرفناها.

2. الأنانية المستعلية: وهي ذهنية أنانية مستكبرة يدها ممتلئة تخشى على مصالحها وجاهها ومكانتها وتطمع في المزيد، وغالبا ما تعمل هذه الفئة على وجهين: إما تكون مستبدة ومتجبرة ناهبة متحكمة، أو تجدها وسيلة للمستبدين للتأثير على الباقين ممن يساقون كالقطيع بالمال أو بكل ما هو مغر.

حكام الباطل ينفقون أموال المسلمين بالباطل، ويسرقون ويرتشون، ويدفعون للمهرج والمغنية الفاسقين اضعاف ما يعطون للمعلم. مسارح وسينمات لعرض البلاء. ميزانية ضخمة لتلفزيون العهارة. وكل هذا يؤثل ثروات، ويوسع شبكة الفساد، ويخلف في النفوس عادات، وعلى أرض الواقع كتلا بشرية تقاوم الإصلاح، وقوى اقتصادية لها وزن الكابوس على صدر الشعب. وكل هذا الفساد المجسد المحارب للخير بالظفر والناب يرثه المسلمون غداة القومة) 11 .

3. العادات الجارفة لمجتمعاتنا المسلمة في تيار التبعية للوضع السائد، ومنطق الجميع المغيب للعقل والفعل والإرادة: وجدنا آباءنا كذالك يفعلون ويخنعون ويركعون ويسجدون للسلطان ويضفون عليه الهالات ويضعون حوله الطابوهات، وإياك أن تخرج على هذا الموروث والتقليد.

وإن مثل هذه العقليات إذا اجتمعت تشكل مجتمعاً غثائياً لا حول له ولا قوة، يتسول ما يأكل وما يلبس وما يقرأ، ولا خير في أمة لا تنتج ما تأكل، وتنسج ما تلبس، ولا تكتب ما تقرأ.

في حديث جامع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها! قالوا: أومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم،وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قالوا وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت”.

حب الدنيا في مقابل كراهية الموت، صفات للفرد الغثائي والمجتمع الغثائي، ومن كان مصابا بهذا الداء متى يحدث نفسه بالتغيير والدفاع عن حقه وحرية بلده وحضارة أمته وإن ركع وسجد وملأ المساجد.

إذن كيف نروم تغييرا ونهوضا بالأمة بهذه الشريحة من هذه الذهنية الرعوية التي يتحكم فيها الأناني والإعلامي وصاحب نفوذ ومال.

رأينا إبان الثورات الربيعية العربية كيف تحول المشهد في مصر بفعل تأثير المستبدين على أصحاب هذه الذهنيات وكيف ساقوهم طوابير للتصويت والتفويض والضحك على الذقون.

أول عقبة للمصلحين هو كيف يتواصلون مع هذه العقليات ومحاربتها وإزاحة ما علق فيها من وهن واستكانة، ولا محيد عن الخطاب الفطري الإيماني، فمن يريد أن يبني دولة قبل بناء إنسان واهم ولا يبنى الإنسان إلا بسلامة قلبه وفكره.

إذن أمامنا عقبة كؤود قبل التفكير بأي شيء.

ثلاث تغييرات ضروري أن يحدثها الدعاة بتربيتهم وتنظيمهم في الجو الفكري والنفسي والعملي في الأمة) 12 .

لأن من يريد تغيير واقع الفتنة لا بد أن يحسب حساب الواقع، ليربي الرجال والنساء وينظم الصف القادر على إمساك الواقع المرذول بقوة وحكمة) 13 .

المستبدون راحلون عنا بعجزهم، ومشكلتنا هي كيف نعالج إرثهم الخسيس.


[1] المنهاج النبوي ص: 243.\
[2] سورة البلد 10.\
[3] سورة غافر 28.\
[4] سورة الأعراف 137.\
[5] سورة الاحزاب 66.\
[6] سورة آل عمران 158.\
[7] سورة الشورى 37.\
[8] أخرجه الترمذي.\
[9] عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى / المنهاج النبوي / ص222.\
[10] أخرجه البخاري في صحيحه.\
[11] عبد السلام ياسين / المنهاج النبوي / ص232.\
[12] عبد السلام ياسين/ المنهاج النبوي/ ص 19.\
[13] عبد السلام ياسين / المنهاج النبوي / ص 20.\