الحمد لله ولي كل نعمة، والصلاة والسلام على نبيه الهادي من كل ضلالة، وآله الأخيار المصطفين الأبرار.
وبعد،
إنّ التفقّه في الدين من أهم الأمور التي لا بدّ فيها للمسلم من علم، فالحكمة من الخلق تكمُن في عبادة الله، والعبادة لا تكون إلا بتفقه، وللفقه أدلته التي يبنى عليها، وأحكامه المتعلّقة به.
في هذه السلسة المباركة سنتطرق بإذن الله لبعض المواضيع الفقهية، أو بعض ما يحتاجه المسلم والمسلمة من أبجديات الفقه.
وفي بدايتها لا بد لنا من مقدمة نبين فيها معنى الفقه وبعض المصطلحات الفقهية.
تعريف الفقه
الفقه في اللغة يعني: العلم بالشيء وفهمهُ.
واصطلاحا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية.
والأحكام الشرعية العملية هي “حكم الشرع المتعلق بصفة فعل المكلّف، من كونه واجباً أو مندوباً أو حراماً أو مكروهاً أو مباحاً” (1).
هذا معنى الفقه الإسلامي. وقد يتساءل سائل: كيف وجدت الأحكام الشرعية: الحلال، والحرام، والمباح، والمكروه، والمندوب؟ وكيف عرف الناس أن هذا حلال وهذا حرام وهذا مباح وهذا مكروه؟ يحيلنا هذا التساؤل إلى الحديث عن المصادر التشريعية أو الأدلة التي استنبطت منها الأحكام الشرعية.
الأدلة التي تستنبط منها الأحكام الشرعية
1- ماثبت بنص قطعي الثبوت والدلالة من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة المتواترة؛ كفرضية الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج..
أ- الإجماع: دليل قطعي، عرفه علماؤنا باتفاق جميع العلماء المجتهدين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر ما على حكم شرعي.
2- أدلة ظنية الدلالة:
أ- ما ثبت بنص غير قطعي الثبوت وقد يكون قطعي الدلالة كالسنة الآحادية.
فالصحيحة تستنبط منها بعض الأحكام بشروط، والضعيفة يؤخذ في فضائل الأعمال فقط.
ب- ماثبت بدليل قطعي يحتمل أكثر من معنى، كالقرء في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسن ثلاثة قروء.
الآية قطعية الثبوت لكنها ظنية الدلالة لأنها تحتمل أكثر من معنى، فالقرء في اللغة يحتمل الحيض ويحتمل الطهر، وبالتالي اختلف الفقهاء هل على المطلقة أن تنتظر ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار.
ج- ما لم يرد فيه نص من القرآن الكريم أو السنة النبوية واجتهد الفقهاء في استنباط حكمه من خلال القياس أو المصالح المرسلة، (كميراث الجد مع الإخوة) على اعتبار أن الشريعة الإسلامية بنيت على مراعاة مصالح الناس وحفظ الكليات الخمس.
وهذه الأدلة الظنية هي محل النظر والاجتهاد المؤدي إلى اختلاف الفقهاء في الأحكام: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا حكم الحاكمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجرانِ، وإذا حكم فاجتهدَ ثم أخطأَ فله أجرٌ” (2).
وسر صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان هو تفصيلها للأمور الثوابت وترك المتغيرات دون تفصيل، ليجتهد العلماء في استنباط أحكامٍ تتناسب مع زمانهم وبيئاتهم وفقا لمقاصد الشريعة (أحكام المعاملات، أحكام العلاقات الدولية، الأحكام السياسية..).
فالفقه الإسلامي منجم يحتوي على معادن ثمينة اجتهدت فيها مذاهب عديدة، نتبع مذهبا واحدا (المذهب المالكي) قصد جمع القلوب والعقول، إلا إن اضطررنا للخروج عنه لمذهب آخر مراعاة للأنسب مع متطلبات الزمان والبيئات والأشخاص.
فالأصل في تقليد المذاهب أن يكون مبنيا على اتباع الدليل، ويكره أن يتبع فيه هوى النفس والجري وراء الأسهل دائما، والتقاط الرخص من هنا وهناك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لوابصة بن عدي: “يا وابصة استفت قلبك، والبر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك” (3).
وبحثا عن الاستفادة التامة من سلسلتنا لا بد لنا في بدايتها من الوقوف على معاني بعض المصطلحات التي سيتم استخدامها.
اصطلاحات فقهية
الفرض: هو ما أمر الشارع بفعله أمراً جازماً، ويترتب على فعله الثواب وعلى تركه العقاب.
المندوب: هو ما رغب الشرع بفعله لكنه لم يطلبه طلباً جازماً، وحكمه: يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، كصلاة النوافل وصيام النوافل، ويسمى المندوب: سنة، ومستحباً، وتطوعاً، ونفلاً.
فرض العين: هو ما يجب على كل مسلم مكلّف أن يفعله كالصلاة والصيام والزكاة..
فرض الكفاية: هو ما يجب أن يفعله مجموع المسلمين لا كلّ واحد منهم، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الآخرين، وإن لم يقم به من يكفي لسدِّ حاجة الأمة وقع الإثم على الآخرين، كتجهيز الميت والصلاة عليه..
الركن: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء ويدخل في حقيقته، كقراءة الفاتحة في الصلاة..
الشرط: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء ولا يدخل في حقيقته، كالوضوء مثلاً فهو شرط لصحة الصلاة غيرُ داخل في حقيقتها.
المباح: هو ما لم يأمر الشرع بفعله ولا بتركه، ولا يترتب على فعله أو تركه ثواب أو عقاب، كالعمل بعد صلاة الجمعة في قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله.
الحرام: هو ما طلب الشرع تركه طلباً جازماً، بحيث يثاب تاركه ويعاقب فاعله، كالقتل وأكل أموال الناس بالباطل. ويسمى الحرام محظوراً، ومعصية، وذنبا.
المكروه: هو ما طلب الشرع تركه طلباً غير جازم، بحيث يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، كصيام يوم عرفة للحاج..
(1) تعريف المختار بن العربي في تفسير أبيات بن عاشر.
(2) الراوي: عمرو بن العاص، صحيح البخاري، 7352. قال الحافظ ابن حجر عند شرح تبويب الإمام البخاري: (باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ) قال: يشير إلى أنه لا يلزم من رد حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم، قال ابن المنذر: وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالما فلا.
(3) عن وابصة بن معبد – رضي الله عنه – قال: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألت عنه، فقال لي: «أُدْنُ يا وابصة»، فدنوت منه؛ حتى مست ركبتي ركبته، فقال لي: «يا وابصة، أخبرك عما جئت تسأل عنه»؟ قلت: يا رسول الله، أخبرني، قال: «جئت تسأل عن البر والإثم»، قلت: نعم، فجمع أصابعه الثلاث، فجعل ينكت بها في صدري، ويقول: «يا وابصة، استفت قلبك، والبر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك». رواه المنذري في “الترغيب والترهيب”. قال ابن رجب: وقد روي هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه متعددة وبعض طرقه جيدة، فرواه الإمام أحمد والدار قطني، وغيرهما. قال الألباني: حسن لغيره.
– يتبع –