فقه المرحلة الانتقالية في مدرسة المنهاج النبوي

Cover Image for فقه المرحلة الانتقالية في مدرسة المنهاج النبوي
نشر بتاريخ

تقديم: الفقه المغيب

في وقت مبكر من تاريخ المسلمين انحرف قطار الحكم عن سكته، ووقعت السلطة، وهي كانت الكريمة في بيت أهلها، رهينة في قبضة ملوك العض والجبر، فساموا الأمة الخسف ومنعوها النصف. وسلَّم السواد الأعظم من الأمة تسليما كليا بإخبار من لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم، بانتقاض عروة الحكم، وقعدت الأمة وقعد معظم علمائها، بعد قومات آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النهوض لطلب الحكم وإصلاحه وأطر الحكام على الحق أطرا. واستمرأت الأمة بعدُ السكوتَ عن هذا الخرم، وتداعى الفقهاء رحمهم الله، بدعوى الحفاظ على وحدة الأمة، إلى الاجتهاد الفقهي في تبرير هذا الفصام النكد، وتقعيد عدم جواز الخروج على الظلمة.

وفي العصور المتأخرة سد الفقهاء باب الاجتهاد في وجه كل قائم ضد “دين الانقياد”، وانتصب حراس الباب، المحكم الإقفال، في وجه “المتمردين” و”المناوئين” وهم يمتطون صهوة جياد اللعنة، ويمتشقون حسامها البتار، متترسين بعبارات من قبيل “الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها” و”لعن الله ساس يسوس”…

وسلكت الأمة هذا السبيل قرونا ذوات العدد، وتلبَّس بها هذا الاختيار القعودي المائت، فنشأت العقول على ذهنية القعود والانتظار، وتربت الإرادات على السلوك الفردي الغثائي، وأصبح التدين الخامل دينا تدين به الأمةُ اللهَ تعالى، واعتقادا تلقاه به. يوضح الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله الأمر فيقول: من موقف أئمة الفقه الذين قرأنا كيف كانوا متحفزين لإصلاح الحكم تطور الأمر إلى موقف لأتباع مذاهبهم بنى على قاعدة الأمر الواقع، معترفين بما هو قائم. وما انتهى القرن الرابع حتى كانت قضية الاعتراف بحكم السيف الغالب مسألة فقهية مفروغا منها، وضرورة لا محيد عنها) 1 .

ألقى كل هذا المخاض التاريخي الذي غيب عن وعي الأمة الاهتمام بأمور الحكم وشؤونه، وكل هذا الإرث الفقهي الذي حجب عن بصر الأمة النظر في تفاصيله وحيثياته، بظلال كثيفة على حصيلة الأمة من هذا الفقه المصيري الذي لم يشغل سوى مساحة صغيرة من حيز اهتماماتها. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: لا تجد من أبواب الفقه في كتب سلفنا الصالح رضي الله عنهم نصف المساحة التي تشغلها الطهارة مخصصة لنظام الحكم، ولا عشر المساحة، ولا جزءا من مائة جزء، ولا تقل أهمية الشورى في حياة الأمة عن أهمية الطهارة في حياة المسلم) 2 .

لم تعان الأمة كثيرا طيلة تاريخ المسلمين من مشاق النهوض لطلب الحكم، ولم تخبر دروبه الوعرة ولا تناوشتها سهامه القاتلة، كما أنها لم تستوعب كل تعقيداته ولم تسع لحل معضلاته، لذلك لم تؤثل معرفة مسبقة بهذا الشأن، ولم تترك إرثا نظريا وحكمة عملية للخلف ينظرون في أسسها ومبادئها، ويجتهدون في تنزيل مقتضياتها بما يتوافق مع خصائص زمانهم وتحديات واقعهم.

لم تترك إرثا ينظر في فقه الحكم عموما، هذا الفقه المغيب، وفي كل توابعه ولواحقه، ومن أهمها على الإطلاق فقه المرحلة الانتقالية بلسان العصر الحديث.

المرحلة الانتقالية و”القِران الدُّوَلي”

ما الذي تعنيه عبارة “القِران الدُّوَلي”؟

ورد ذكر هذه العبارة في كتاب الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله “حوار الماضي والمستقبل”، في إطار عرضه لتجربة المجاهد المغربي “محمد بن عبد الكريم الخطابي” رحمه الله في دفع الاستعمار الإسباني والفرنسي مطلع القرن العشرين. فبعد أن جلى بوضوح أن حسن توزين العامل الذاتي في نواة صلبة يجمعها “الإيمان، والإيمان وحده”، كان هو نقطة الارتكاز الباعثة على تسطير كل تلك البطولات المجيدة والإنجازات الأسطورية، وبعد أن دقق النظر في كل حيثيات التجربة وتفاصيلها، خلص إلى أن انتقال حركة المقاومة من مرحلة الجهاد المسلح إلى مرحلة المطالبة السياسية بالاستقلال، كان مرتبطا بوضع دولي جديد بدأ يلوح في الأفق. فقد تمخض القرن التاسع عشَر بتأريخ النصارى عن معاهداتٍ اقتسمت بمقتضاها أوربا المُصنعة أطرافاً شاسعةً من المعمور. وتمخض عن منافَسات قومية ولدَتْ الحرب العالمية الأولى… أحداث جسام صاغت العالم صياغة جديدة، وأنضجت الظروف الموضوعية لمطالبة الشعوب باستقلالها بوسائِل الضغط السياسي، والمرافعة أمام الأمم المتحدة الحديثَةِ العهد، ومناشدة الضمير العالمي. كانت الشعوب المستعمرةُ تقدمتْ خطواتٍ في الوعي بحقوقها. خطواتٍ أمامَ الغَضْبةِ الريفية التي كان لَها العُمْقُ والقوة، ولَم يكن معها مُساعَفَةُ القِران الدُّوَلي) 3 .

نعم. كان لثورة أسد الريف ضد الغزو الأجنبي العمق والقوة، ولم يكن معها مساعفة القران الدولي.

قبل القرن التاسع عشر، لم تكن الثورات الكبرى تعطي كبير أهمية للمعطى الدولي الذي لم يكن له تأثير يذكر، بل كان نجاحها يتوقف على قوة الجبهة الداخلية وعمق تماسكها. كانت هذه الأخيرة لوحدها كفيلة بحسم معركة التحول والانتقال من نظام حكم فاسد إلى نظام حكم راشد.

مع اشتداد وتيرة الحملات الاستعمارية، قسم الوضع الجديد العالم إلى قسمين. دول مستعمِرة يوحد بينها هدف التوسع الجغرافي، والأطماع الاقتصادية، والبحث عن أسواق جديدة تشبع نزوتها التملكية، ودول مستعمَرة يجمعها السعي بكل الوسائل للمطالبة بالاستقلال ومعانقة الحرية. وهكذا بدأت بوادر تشكل نظام دولي جديد، ما لبثت معالمه أن صارت أكثر وضوحا مع نهاية الحرب العالمية الثانية. ثم استقر على صيغته الحالية بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط صنم التقاطبات مع انهيار المعسكر الشيوعي.

في أتون هذا المخاض العالمي الذي تشابكت فيه المصالح، وتداخلت القوى المؤثرة موزعة تارة ومركزة تارة أخرى، يكون حساب المعادلة قد تغير كليا. وصارت احتمالات نجاح الثورات الكبرى والتحولات المصيرية تتوقف بشكل حاسم على قدر مساعفة القِران الدُّوَلي. وعليه أصبح تذليل صعوبات المرحلة الانتقالية، باعتبارها جسرا يربط بين مرحلتي سقوط النظام السابق وبناء النظام البديل، متيسرا على قدر مراعاة تعقيدات الوضع الدولي الذي يظللها.

صحيح أن تحديات المرحلة الانتقالية تختلف من مجتمع لآخر بسبب اختلاف منظومة القيم الحاكمة، وطبيعة العلاقات الاجتماعية الناظمة، وقابلية البنية السياسية والفكرية والمجتمعية لاستيعاب مقتضيات التحول، لكنها تختلف كذلك من جيل إلى جيل في علاقته بالوضع الدولي الذي يظللها.

والمقصود بالجيل هنا جيل التحولات الكبرى، وجيل الثورات الشعبية، وليس الجيل البشري. وقد صنفت الثورات الشعبية فيما اصطلح عليه بالربيع العربي، ضمن الجيل الرابع من موجة التحولات الكبرى.

تمريض المرحلة الانتقالية

المرحلة الانتقالية في حياة الأمم الثائرة هي بطبيعتها مرحلة يلفها الكثير من الغموض بسبب تبعات الوضع الجديد، ومخلفات الصراع مع الوضع السابق. وهي في الوقت نفسه مرحلة اختلال ميزان القوى في المجتمع، بسبب انهيار المنظومة السابقة بعد أن تطفو إلى السطح قوى جديدة. إنها بطبيعتها مرحلة مشحونة بسبب الجو المعبأ بالشك والقلق والتذبذب والانفعالات والخوف التلقائي. فبمجرد ما تدق طبول الانعتاق حتى تنفجر كل الأمراض الاجتماعية والأوبئة النفسية التي تركتها مرحلة الحكم التسلطي في جسم الأمة. وهي على ضربين. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: الارتجال في الفكر والعمل، والغليان بعد الفتور، وما يتبع ذلك من تسلسل الإضطراب أمراض ساخنة يقابلها الأمراض الباردة كاحتكار الفكر والمبادرة، ومنع نقد الحكام، وتنشئة الناس على تأليه السلطان) 4 .

إن تدبير مرحلة بهذه السمات دفع الأدبيات الماركسية إلى الحديث عن الحاجة إلى “ديكتاتورية البروليتاريا”، فهي المخرج الوحيد لتأمين المرحلة الانتقالية بين هزيمة الرأسمالية وانتصار الاشتراكية، وهي التي سيقع علي عاتقها تحطيم كافة الطبقات وإقامة مجتمع لا طبقي. ولا تنطق العبارة سوى بالعنف أداة إكراه، وبالإرهاب أداة إقناع.

أما مدرسة المنهاج النبوي، فقد حطت رحالها، بعد نظر عميق ومتفحص، عند بساط “التجربة النبوية” تستقي منها التوجيه المعياري والنموذج السلوكي. ثم قلبت صفحات كتاب العالم المفتوح، فتوقفت عند “التجربة الصينية” تستقي منها الحكمة العملية والتجربة الإنسانية. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: إن نظام الصين وثورته الثقافية “لحظة” تحول غريبة، هي أهم ما يعرضه علينا كتاب العالم حين نفتحه لنتدبره بعيون مجلوة بنور الإيمان وقلوب خافقة بمحبة الله ورسوله والمؤمنين. وهي لحظة تعلمية، قابليتها للتعلم أهم صفاتها) 5 .

وقابلية التعلم لدى مدرسة المنهاج النبوي يتساوق تساوقا تاما مع النظرة الفطرية لجماعة الدعوة إلى الله عز وجل، فهي تنظر إلى الأمة بعين الطبيب للمريض. وهذا ما دفعها إلى اعتبار المرحلة الانتقالية مرحلة تمريض حسا ومعنى، وحكمة الطبيب ورفقه أهم ما تحتاج إليه. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: لا مناص لنا ولكم معشر الديمقراطيين من تمريض هذه المرحلة الانتقالية بحكمة) 6 .

ما تمريض المرحلة الانتقالية إلا معالجة لأدواء النسيج المجتمعي، وتضميد لجروجه المتقيحة، حتى تقوى الجبهة الداخلية على تحمل آلام التغيير، ومخاض الولادة الجديدة. وليس تمريض المرحلة الانتقالية، كما قد يفهم من ذلك، رخاوة مفرطة تزل بها الأقدام، ولا هي عاطفة مجنحة تذهب معها الآمال أدراج الرياح. بل هي رفق وحزم وتؤدة وعزم، فالطبيب يجبر المريض في أحيان كثيرة على تجرع الدواء المر لأن فيه الشفاء.

ومن جملة القواعد الهامة لتمريض المرحلة الانتقالية، ما ساقه مؤسس مدرسة المنهاج النبوي الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، أكتفي بذكرها دون التعليق عليها:

سنة العفو

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: بعد القومة وأثناء التصفية ورد المظالم، لا يفتح جند الله باب إراقة الدماء، بل يعالجون ماضي الفتنة بما ينبغي من العفو الشامل… ليس من العنف ولا منافيا للعفو أن يطرد من الساحة العامة سدنة الفساد من سياسيين، وموظفين، مهرجين) 7 .

شريعة التدرج

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: لواقع التشابك بين المسلمين وغيرهم في تبادل المصالح، ولضرورة قبول المسلمين طوعا أو كرها قانون السوق العالمية إلى حين، لا يمكن عزل الحلال عن الحرام في لحظة واحدة وبضربة واحدة. نقرأ هنا مرة أخرى شريعة التدرج وضرورة التدرج) 8 .

فضيلة التوافق

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: الانتقال من مجتمع متمزق الأطراف إلى مجتمع متصالح مع ذاته يتطلب توافقا يلتف حوله الشعب المسلم بأكمله) 9 .

فريضة التعاون

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: من المغامرة أن يزعم زاعم أن مكونا وحيدا من مكونات الشعب يستطيع مهما بلغ من قوة عَددية وعُددية أن يحمل على كتفيه أوزار الماضي وكوارث الحاضر وآمال المستقبل) 10 .

حكمة التناسي

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: من الحكمة أن نتظاهر بنسيان خلافات الحاضر مهما بلغ عمقها لتأمين المستقبل. ومن الحكمة أن نرتب الصعوبات ونترك المجال للزمن ليفعل فعله) 11 .


[1] “العدل، الإسلاميون والحكم” ص 84.\
[2] “محنة العقل المسلم” ص 40.\
[3] “حوار الماضي والمستقبل” ص 64.\
[4] “المنهاج النبوي” ص 254.\
[5] “الإسلام غدا” ص 355.\
[6] “العدل، الإسلاميون والحكم” ص 585.\
[7] “المنهاج النبوي” ص 309.\
[8] “تنوير المؤمنات” ج 1 ص 255.\
[9] “الإسلام والحداثة” ص 249.\
[10] “العدل، الإسلاميون والحكم” ص 576.\
[11] “الإسلام والحداثة” ص 319.\