ثمة كلمات تمر على الأذن فتوقظ الحواس؛ ليس لجمال وقعها، بل لما تواريه من خديعة. كلمات ناعمة الملمس، مصقولة كأنها من حرير، لكنها تخفي تحت رقتها شفرة حادة، تتحين الفرص لتذبح فريستها دون هوادة.
ذلك بالضبط ما بدا لي عند مروري بإعلان أنيق التصميم، لزعيمات “محاربات من أجل السلام”؛ بشعار: “المنتدى العالمي للنساء من أجل السلام”.
تناقض جوهري بين مفردتي “الحرب” و”السلام”، اللتين تتنافران في دلالاتهما وسياقهما. وهو لا ريب خطاب يوظف المرأة كوسيلة لنقل هذا التضاد اللغوي والسياسي، ليُلبس الفاعل العنيف رداء المصالحة، وتمنح المستوطِنة قناع التسامح. وبهذا يصبح خطاب “السلام” أشبه بغطاء سياسي يخفي استمرار ممارسات العنف والاحتلال، مستغلا الرمزية النسوية كأداة تخدم أهدافه.
في السياق ذاته، ومنذ مدة ليست بالبعيدة، جذب انتباهي تقرير صحفي يحمل عنوانا استثنائيا لا يقل استفزازا في هدوئه. يعرض التقرير بذكاء كيف تتحول مفردات اللين إلى غطاء فني يخفي وراءه مشروعا استيطانيا معقدا، حيث تستثمر الرمزية النسوية لتجميل واقع الاحتلال وقسوته.
العنوان “فتيات التلال”؛ يبدو في ظاهره أقرب إلى عنوان فيلم وثائقي عن الطفولة البريئة أو الحياة الريفية، لكنه في جوهره تسمية مخاتلة لمراهقات يهوديات يوظفن بذكاء ضمن المشروع الاستيطاني الصهيوني، وتحديدا على تلال الضفة الغربية، حيث ينشئن بؤرا عشوائية تحت شعارات دينية وقومية متطرفة.
هكذا، تبرز “فتيات التلال” و”محاربات من أجل السلام” كنموذجين ناعمين لاختراق صهيوني مدروس، يستخدم المرأة ليس كضحية كما جرت العادة، بل كفاعل سياسي وأداة رمزية، وواجهة مصقولة لتبرير الاحتلال وتجميل جرائمه.
فمن هن “فتيات التلال”؟ ومن هن أولئك “المحاربات” اللواتي يتقدمن صفوف النضال المزعوم؟
أولا: فتيات التلال.. الجبهة الأنثوية للاستيطان
في عمق الضفة الغربية المحتلة، وبين تضاريس الأرض المنهوبة، تنصب مجموعات من الفتيات اليافعات خياما فوق قمم التلال الفلسطينية المصادرة.
مشهد يبدو سلميا لأول وهلة، لكنه في حقيقته واجهة جديدة للاستيطان الإسرائيلي، مدفوعة بعقيدة دينية ترى في كل شبر من فلسطين وعدا إلهيا، وفي كل تلة مصادرة رباطا مقدسا، وهن يشكلن مكونا رمزيا واستراتيجيا في تمدد المشروع الاستيطاني غير الرسمي.
فما يروج كمبادرة فردية عشوائية، هو في واقع الأمر خطة محكمة محملة برسائل سياسية مدروسة، وأدوات جغرافية دقيقة لفرض واقع جديد، يستهدف تمزيق الجغرافيا الفلسطينية، ويجهض فكرة الدولة الفلسطينية تحت خيام مغروسة بعناية في قلب الأرض المسلوبة.
ثانيا: محاربات من أجل السلام.. الإنسانية المزعومة
إذا كانت “فتيات التلال” يستخدمن ميدانيا في ترسيخ الاستيطان، فإن الخطاب الصهيوني لا يكتفي بجبهة واحدة، بل يعيد إنتاج نفسه في قوالب أكثر نعومة، تحت عناوين إنسانية من مثيل “محاربات من أجل السلام”.
بهذه الدرجة من “الذكاء”، تتقن الدعاية الإسرائيلية لعبة التوازنات الرمزية؛ حيث في الميدان، توظف مراهقات ينصبن الخيام ويثبتن الحدود الجديدة، وفي الإعلام والمحافل الدولية، تدفع بناشطات يرفعن شعارات السلام، ويساوين بين القاتل والضحية.
هكذا يعاد إنتاج الاحتلال بلغة نسوية مسالمة، تخفي جوهر العنف تحت ستار من التسامح الزائف.
وفي هذا المشهد الهجين، تُنسى المرأة الفلسطينية المقتلعة من بيتها، المجوعة في خيمتها، المكلومة بجثمان ابنها؛ الوجه الغائب والحقيقي للصراع.
فأي سلام يروج له؟ وأي عدالة تبشر بها، فيما تتساقط الأمهات تحت الأنقاض وتنتزع الأرواح من بين الطرقات والبيوت والخيام؟
وهل يستقيم خطاب “السلام” في واقع لا يعترف إلا بقانون القوة الاستعمارية؟
لا سلام يبنى فوق الركام، ولا أخلاق في خطاب يساوي بين الجلاد ومن يقاوم الاحتلال.
والسلام ليس نهاية الصراع، بل نهايته العادلة تحرير الأرض وزوال الاحتلال، ولا عدالة بغير زواله.