إن المتصفح للتاريخ المغربي قلما يجد مصدرا يعير اهتماما للعالمات المغربيات إلا لبعض المحظوظات اللائي عرفن بعلمهن لانتسابهن لزوج عالم أو أب علامة، في حين هناك عالمات وسياسيات وفقيهات وعابدات.. طواهن النسيان وحالت الأعراف والتقاليد الموروثة دون بروزهن بما يليق بمكانتهن إلا من تكلمت منهن من خلف الجدران.
نسبها
هي رقية بنت محمد بن العربي بن إبراهيم بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن يعقوب، ولدت سنة 1301 هجرية، وهي زوجة الشيخ علي الدرقاوي ووالدة العلامة المختار السوسي، توفيت سنة 1342هـ.
عالمة زمانها
من حظها أنها كانت سليلة بيت علم، فقد حرص والدها العربى الأدوزي، علامة منطقة جزولة في عصره، على تعليمها، فأتقنت حفظ كتاب الله، ثم رأى أن يدفع بها إلى الدراسة الواسعة فى ميدان العلوم، لكن حال تزويجها المبكر دون ذلك.
يخبرنا بهذا ابنها العلامة المختار السوسي فى كتابه “المعسول” 3/53 بقوله: “أخبرني أستاذها سيدي أحمد بن عبد الله الإيجلالني المجاطي، قال: استدعاني الأستاذ سيدي محمد بن العربي سنة 1310ھ، من المدرسة الأدوزية، فأمرني أن ألازم داره، وأن أعتكف فيها على تعليم بناته وأولاده، فخرجت إليَّ والدتك في دراعة سوداء، وفي رأس لوحتها: ﴿يوم يفر المرء﴾ [سورة عبس/34] الآية، وقد كانت تتعلم قبل أن أتصل بها عند غيري، ثم دأبت عندي حتى ختمت سبع ختمات، وجوّدت غاية التجويد، فعوّل والدها أن يدخل بها إلى طور العلوم، فإذا بتزويجها جاء بغتة، وذلك عند مراهقتها”.
انقطاع نور علم.. وخيبة أمل
هكذا انقطع حبل نور العلم الذي تلقته هذه الفذة المثابرة بزواجها المبكر، وتحطمت أمنية والدها في استكمال علمها لتختفي بين الجدران ويختفي علمها معها، ومتى كان الزواج عائقا دون التعلم ونهاية لمشواره، وهي داخلة على مشروع كبير؛ مشروع تأسيس أسرة لا نجاح له إلا بالعلم، واستكمال نور العقل، وبه لا بغيره تكون المرأة متحركة بين ساكنين، متوهجة بين باهتين، مشمرة بين مترهلين، حية بين أموات. ولنا فى المعلم الكريم صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة والمثل الأعلى إذ يقول عليه الصلاة والسلام: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد” [رواه البخاري رحمه الله]، وإلى أمهات المومنين تشرئب أعناقنا في الاقتداء والاهتداء، إلى أم المومنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، عائشة الكاملة التي اكتمل علمها بعد زواجها، ولنسمعها رضي الله عنها تقول: “أدخلت على نبي الله وأنا بنت تسع، جاءني نسوة وأنا ألعب على أرجوحة وأنا مجممة فهيأنني وصنعنني ثم أتين بي إليه” [أخرجه أبو داود وإسناده صحيح]، جاءت بها النسوة من فوق الأرجوحة إلى بيت النبوة!! كما أنهن زينّها وقدمنها في زينة العرائس!! وعالمتنا السيدة رقية جيء بها من المدرسة حاملة لوحتها إلى بيت الزوجية!!
وتستمر سيدتنا عائشة رضي الله عنها في لعبها بالعرائس، تقول: “دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب بالبنات فقال: “ما هذا يا عائشة” قلت: خيل سليمان ولها أجنحة، فضحك” [رواه أبو داود والنسائي رحمهما الله]. أضحك الله سنك يا معلم الورى ويا صابرا على الشتلة حتى تصير شجرة. وأشد غيرة على دين الله منك لا يكون، وأعلم منك بروح الشريعة وحكمة الله جل وعلا لا يكون، وقد ابتليت في دعوة الأمة وأرسلت للعالمين رحمة، فبرغم واجبات زوجك الطاهرة عائشة الصديقة رضي الله عنها، ورغم أعباء النهوض بواجهات البيت وأعماله، وحقوق الزواج ومتطلباته لم تقف رضي الله عنها عن مشروع طلب العلم وبذله حتى وصفت بمعلمة الرجال.
في حين نجدك يا عالمتنا الجليلة السيدة رقية حرمت من استكمال علمك بذريعة انشغال زوجك بإرشاد العباد وتعليمهم بالليل والنهار، كما يقول ابنك العلامة المختار السوسي في كتابه المعسول: “… وركبت ولوحتها معها كرمز لكونها لا تزال تتعلم، وقد كان والدها ذكر ذلك لزوجها، ولكن لا يمكن ذلك له مع ما طوق به من إرشاد العباد ليل نهار”!!!
وتستمر حياة أم المومنين عائشة بصحبتها لزوجها معلمنا ومعلمها صلى الله عليه وسلم لتصبح أعلم نساء الأمة بشهادة علمائها؛ يقول الزهري: “لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل”.
رغم حصار الجدران
ظلم السيدة رقية كباقي عالمات المغرب الانحطاط التاريخي وعزلها وراء الجدران، وحرمها أداء فرضها الكفائي في التعليم، لكن هذا لم يحرمها من أداء فرضها العيني في تربية أبنائها وتعليم غيرها من النساء. ولعل شهادة ابنها المختار السوسي خير دليل على ذلك حيث يقول: “أول ما أعلمه عن والدتي هذه أنها هي التي سمعت منها بادئ ذي بدء تمجيد العلم وأهله، وأكبر تلك الوجهة، وكان كلّ مناها أن تراني يوما ممن تطلعوا من تلك الثنية، وممن يداعبون الأقلام، ويناغون الدفاتر”. هكذا حرصت على تحفيز ابنها لطلب العلم، كما ساعدته بالدعاء متحرية أوقات الاستجابة لترى في ابنها أمنيتها التي حرمت منها وهي التبحر الواسع في ميدان العلوم، ولنسمعه يحكي: “أيقظتني يوما فناولتني كأسا مملوءة ماء، فقالت: أن هذا الماء ماء زمزم الذي هو لما شرب له، وهذا سحر يوم عظيم، وهو مظنة الاستجابة، فاجرع منه وانوي في قلبك أن يرزقك الله العلم الذي أتمناه لك دائما”.
ودأبت السيدة رقية أيضا على تعليم نساء “إلغ” – مدينة بمنطقة سوس – وتهذيب بناتها داخل بيتها، يقول عنها ابنها: “وقد كانت أول معلمة من النساء في “إلغ”، ومهذبة البنات في دار والدي، فبها انتشر ما انتشر من ذلك فيهن”.
حقا سيدتي رقية رحمك الله؛ ما تبعثرت نيتك في طلب العلم وما خبا نور أمنيتك… حشرنا الله وإياك في زمرة الصادقين. آميـن.
أديت واجبك اتجاه أبنائك ومن حولك من النساء رغم حائل الجدران؛ جدران اللبنات وجدران العقليات، ولولاها لسرت حذو أم المومنين عائشة رضي الله عنها، وتعلم على يدك ليس النساء فقط وإنما الرجال أيضا، عائشة التقية النقية أفضل النساء وأكبر العلماء، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: “ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما” [رواه الترمذي بسند صحيح]، فنعمت الأم رضي الله عنها وأرضاها، ونعمت البنت البارة السائرة على الأثر رحمها الله.
وفاتها
توفيت السيدة رقية بنت العربي الأدوزي سنة 1342 هجرية بتزنيت، وبني عليها ضريح لتصبح محلا للتبرك في سوس، تروي العجائز قصصها في زمننا لينام عليها الصبيان. وكان الأحرى أن يهتم بسيرتها لنقتبس منها مادة حية، تحيي بسيرتها قلوبا غفلا، ونفوسا جثمت على ظهرها العادة الجارفة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.