صناعة الحرية (54).. الكتابة والتأليف في السجن والحصار

Cover Image for صناعة الحرية (54).. الكتابة والتأليف في السجن والحصار
نشر بتاريخ

الفصل الرابع: الكتابة والتأليف في السجن والحصار

أغلب السجناء يطوي السجن أعمارهم ويسرق منهم أوقاتهم، ويُميت فيهم تقدير الذات، ويقلب تفاؤلهم تشاؤما، ويحولهم إلى كائنات سائلة بلا معنى ولا قيمة ولا رؤية، قبل أن تتحول المراقبة والتحكم في السجن إلى مراقبة وتحكم خارجه، في إطار ما يسميه باومان بـ”المراقبة السائلة” داخل “السجون الرأسمالية المفتوحة” 1. غير أنه مِن السجناء من وجدوا في السجن خلوة لتعميق تفكيرهم في المواقف والمشاريع التي اعتُقلوا من أجلها، وبذلوا مهجهم وأوقاتهم في سبيلها، ففي السجن ألف الشيخ الرئيس ابن سينا كتاب “الهدايات” ورسالة “حي بن يقظان” وكتاب “القولنج” 2، وفي سجن القلعة ألف الإمام ابن تيمية “فتاواه الكبرى”، وخط رسائله التي تؤرخ للتحول الفكري الذي حصل له 3، حتى مُنع من الكتابة، فكتب بعد ذلك بالفحم رؤوس المسائل، ومن قعر الجب بأوزجند أملى الإمام السَّرخسي كتابه “المبسوط” في الفقه وهو في  نحو 15 مجلداً بسبب رسالة/نصيحة إلى الملك الخاقان، حيث كان يملي على تلاميذه من الجُب وهم في أعلاه دون أن يستعين بأي مرجع، وفي السجن كتب صديق غاندي جواهر لال نهرو كتاب “اكتشاف الهند”، الذي ضمَّنه تاريخ الهند وثقافتها، وفي السجن كتب الفيلسوف برتراند راسل “مقدمة إلى فلسفة الرياضيات”، وكتب الشهيد سيد قطب “في ظلال القرآن”، وفي السجن ألَّف الأديب الإسباني ميغيل دي سيرفانتس رواية “دون كيخوته” الشهيرة، وفي السجن كتب المناضل نيلسون مانديلا “الطريق إلى الحرية”، وكتب الرئيس علي عزت بيغوفيتش في سجن فوتشا “هروبي إلى الحرية”، وكتب المفكر توماس بِين كتابه “عصير المنطق”، وكتب الفيلسوف أنطونيو غرامشي في سجون موسوليني “مذكرات السجن”، وفي سجون عبد الناصر كتب العلامة عبد الله بن الصديق “بدع التفاسير”، و”فضائل النبي في القرآن”، و”الأحاديث المختارة” و”خواطر دينية”، و”جواهر البيان في تناسب سور القرآن” وغيرها 4، وكثير من الأدباء والمفكرين والسياسيين والفلاسفة، أنجزوا آلاف الكتب في خلواتهم الاضطرارية.

أما العلَّامة عبد السلام، فبالإضافة إلى هِمته الروحية العالية واعتكافه وفق برنامج تربوي صارم يعمر به يومه وليلته، وتهممه بأمر الجماعة الفتية الناشئة وسط الفتن، والتي شبهها بسفينةٍ تخوض لجج البحار، وأمرِ الأمة المسلمة التي حيكت وتحاك حولها المؤامرات، وتتبعِه لأخبار ما يجري في العالم من أحداث، فقد كان كثير الاطلاع وبلغات مختلفة 5، كما كان قاصدا في تأليفه، حيث ألف بين جدران الزنازين الأسمنتية الباردة المميتة، ورغم منع إدخال الكتب إلى السجن في غالب الأحيان، ما يراه يجيب عن أسئلة زمانه والزمان الذي يليه، في حوالي 20 مؤلفا 6، صنع بها “نظرية” جميعةً حملت كليات مشروعه التغييري، الذي أعاد فيه قراءة التراث والواقع من أجل بناء المستقبل، فصنع بسجنه الحرية التي بها يُصنع التاريخ. وقد تعرضت مؤلفاته أيضا للحصار، لأن السلطة كانت تمنع المطابع من طبعها، وتمنع دور النشر من نشرها، وتمنع المكتبات من بيعها والمعارض من عرضها. ولا تزال كذلك حتى بعد وفاته رحمه الله. وإلى الآن.

هذا المنع الأسود الذي ظل يلاحق اسم عبد السلام ياسين مكتوبا أو منطوقا أو مسموعا كان بسبب الخوف من رأي رجل يتمتع -حسب تعبير راشد الغنوشي- بــ”عمق روحي وسعة ثقافية وزعامة دينية، تُذكر بنمط الزعامة التقليدية المغربية التي تجمع بين شرف النسب وشرف العلم وزعامة السياسة (…) إن الشيخ عبد السلام ياسين من أنشط دعاة الحركة الإسلامية المعاصرة إنتاجا فكريا إن لم يكن أنشطهم، يكتب بأفصح عبارة عربية وفرنسية مبينا عن أدق مسالك الفكر المعاصر وخلجات الروح وسنن التحول الاجتماعي والسياسي في بلده والعالم” 7.

ولا يزال فكر الرجل لم يُعط حقه من الدراسة، والسبب طبعا كما يؤكد صاحبه محمد عبادي: “هو الحصار المضروب على شخصه الكريم وعلى فكره وجماعته أثناء حياته وحتى بعد وفاته، فما طبع من كتبه خارج أسوار المغرب استخرج من بين فرث ودم وبعد اللُتَيَّا والتي، أضف إلى ذلك ما تعرض ويتعرض له هذا الفكر من تشويه وتزييف، ولكن الشمس لا يمكن أن تغطى بالغربال، ولكن أنى للشمس أن تغطى بالغربال، وما ذلك اليوم على الله ببعيد” 8.


[1] انظر: باومان، زيجمونت. المراقبة السائلة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ترجمة حجاج أبو جبر، مصر، ط1، 2017م.
[2] ابن أبي أصيبعة، أحمد. عيون الأنباء في صفات الأطباء، تحقيق نذار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، د.ت، ص 439.
[3] ابن تيمية، أحمد. رسائل في السجن، تقديم محمد العبدة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط4، 1406ه/1986م.
[4] انظر: ابن الصديق، عبد الله. سبيل التوفيق في ترجمة عبد الله بن الصديق، مطبعة دار البيان، مصر، ط1، 1985م، ص 96.
[5] حكى لي الفيلسوف طه عبد الرحمن في لقاء خاص سنة 2018م أن الأستاذ عبد السلام ياسين وهو في السجن أرسل إليه الأستاذ أحمد توفيق (وزير الأوقاف الحالي وقد كان صديقا لهما) يستعير كتبا في الفلسفة ليقرأها في السجن، وحقا أعاره الأستاذ طه مجموعة كتب وبعد فترة وجيزة أرجعها إليه، وذكر لي منها كتاب في الفلسفة الوجودية للفيلسوف الوجودي الفرنسي غابرييل مرسيل، ونسي العناوين الأخرى.
[6] جميع هذه الكتب توجد في موقع سراج (siraj.net)، باستثناء رسالة (Mémoire à Sa Majesté le Roi).
[7] الغنوشي، راشد. الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1993م، ص 266- 267.
[8] عبادي، محمد. “الإمام والجماعة”، ضمن الإمام عبد السلام ياسين بعيون من صحبوه، مرجع سابق، ص 20.