صناعة الحرية (48).. الجابري فاضل ديموقراطي

Cover Image for صناعة الحرية (48).. الجابري فاضل ديموقراطي
نشر بتاريخ

الجابري فاضل ديموقراطي

كان الأستاذ محمد عابد الجابري يقرأ لعبد السلام ياسين ويحاوره من وراء حجاب، كانت الساحة الثقافية المغربية في النصف الأول من القرن العشرين تعمرها الحركة الوطنية وهي حركة إسلامية بمبادئها وخطابها وجهادها ونضالها، ثم كاد اليسار الاشتراكي أن ينفرد بمجد النضال في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وهاهم الإسلاميون يجددون الصلة بأسلافهم 1 ويتقدمون الصف، ويُعلون الصوت، في الوقت الذي انكسر فيه الاتحاديون باسم الواقعية التي أذابت المبادئ في منتصف السبعينيات، فهل تخلى رفاق المهدي بنبركة (ت1965م) وإخوان عبد الرحمن اليوسفي (ت2020م) عن مكانهم الطبيعي ليعمره الإسلاميون؟

وهل أحرقت الأحزاب جميع أوراقها وهرولت إلى بيت الطاعة بلا إديولوجيا ولا مشروع؟ ولماذا توسع الإسلاميون وبقي اليسار “حفنة” بتعبيره؟

سؤال لا بد أن يطرحه الجابري وهو يقلب النظر في تجربة استقال منها مضطرا ليكتب عن مشكلة العقل العربي التي تختزل كل المشكلات…

أتذكر يوما كنا في حصة دراسية مع الأستاذ الجابري في السنة الأخيرة من الإجازة في شعبة الفلسفة خلال الموسوم الجامعي (1996-1997م)، وكان اليوم يوم جمعة، وذُكر حديث “الخلافة على منهاج النبوة”، فوجد الفرصة سانحة لمناقشة عبد السلام ياسين، ولم يذكر الاسم ولكنه أومأ إلى موقفه، ومما ذكره أن الحديث ضعيف وأن بعض الناس (يقصد ياسين) يرونه يحمل ذما للملك العاض والملك الجبري وبشارة في المستقبل بعودة الخلافة، وذلك لا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء مبشرا بالخير وليس بالملك العاض والملك الجبري…، فدخلنا مع أستاذنا في نقاش شاركتُ فيه شخصيا حول متعلقات صحة الحديث عند أهل الحديث ومعانيه عند المؤرخين ومراميه عند المعاصرين (ياسين)… وكان الحوار أكاديميا. وكان الجابري أستاذا ناجحا في محاضراته.

كما أتذكر جوابه رحمه الله عن سؤال أحد الطلبة في ندوة فكرية نظمها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء سنة 1994، في موضوع “المجتمع المدني” يقول السؤال: ما موقفك من الأستاذ عبد السلام ياسين؟ فكان الجواب (أحكيه من الذاكرة): يجب أن يكون عبد السلام ياسين حرا طليقا ويجلس معنا هنا لكي نناقشه، فصفق الجمهور لتعاطفه مع الرجل المحاصر.

كما ناقش الكثير من القضايا التي تثيرها الحركة الإسلامية اليوم من قبيل: الدين والدولة، وتطبيق الشريعة، والشورى والديموقراطية، والإسلام والحداثة، الإسلام والغرب، المرأة والحجاب، وغيرها من الموضوعات، وكتب في محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، ولكنه لم يكتب في حصار عبد السلام ياسين… (لنا عودة للموضوع في كتاب آخر إن شاء الله)، وفي ذلك نجده يلتقي مع الأستاذ ياسين في فراغ التراث من البحث والتأليف في قضية الدولة ومسألة العدل وتدبير الحكم، كما يقع الحافر على الحافر في كثير من الاستنتاجات. وفي مقابل ذلك يختلف معه في مسائل أخرى من قبيل موقفه الإطلاقي من التصوف. ولا زلتُ أعثر بين الفينة والأخرى في كتب صاحب نقد العقل العربي على حوارات ضمنية بينه وبين الأستاذ، كما هو الأمر عند الأستاذ أيضا.

إن القارئ لكتب الأستاذ ياسين يجده مرابطا في موقفه لا يبرحه، يتفاعل مع أحداث عصره، ويناقش أطروحات كبار العلماء والمفكرين والفلاسفة في العالم، قديما وحديثا، من موقعه هو بلا تقليد ولا تبعية، ويقول في ذلك: “إن تفاعلنا مع العالم، وتعلمنا منه، وانفتاحنا عليه ونحن نحنُ لا مسخا مُقلدا تابعا خانعا لمن علائم نُضجنا. وما تتخبط فيه الإنسانية من مشاكل، وما تحمله من هموم سوء القسمة بين الشمال والجنوب، وهموم الخطر النووي، وهموم الانفجار السكاني، وهموم العدل والغذاء، علينا أن نحمله مع الحاملين، وأن نغشى المحافل الدولية، والاستادات الرياضية، والمؤتمرات العلمية، والدهاليز الدبلوماسية، والوسائل الإعلامية، والشوارع، والصالونات، ونحن من نحن لا عبيدا مقلدين خانعين لزيهم وقيمهم” 2.

 وممن تفاعل معهم من الكُتاب المشتهرين في العالم العربي والإسلامي الأستاذ حسن حنفي الذي خصه بنقد لاذع وصريح في كتاب “نظرات في الفقه والتاريخ” 3، وفي كتاب “العدل، الإسلاميون والحكم” 4، وفي كتاب “الإسلام والقومية العلمانية” 5، كما خص أشهر المثقفين المغاربة بنقاش خاص، تجده مبثوثا في ثنايا كتبه ومحاضراته ورسائله 6.

 وبخصوص مواقف الجابري فقد كان يتفاعل معها الأستاذ ياسين بدقة دون ذكر اسم صاحبها (قد نرجع إليها بالتفصيل في غير هذا الموضع)، وأحيانا ينتقد استنتاجاته واستدلالاته، مثل انتقاد “عقلانيته” و”رُشديته” في كتاب “محنة العقل المسلم”، حيث قال: “يبحث الفلاسفة العرب المعاصرون عن سلف لهم في اللاييكية، فينادون شبح ابن رشد. ويلتمسون عند المعتزلة آباء أصلاء للعقلانية الجريئة. وما لنا نشرح الجثث الهامدة! ماتت الفلسفة الأرسطية وشبعت موتا. وماتت بعدها فلسفات نقضها تقدم العلوم الكونية، كلما اكتشف العقل العلومي أفقا جديدا للمعرفة انغلق على العقل الفلسفي أفقه الأول. وكلما أسست الكشوفات الكونية قارة جديدة للعلوم تداعى بنيان الفلسفة، وحاولت الاستنجاد بشقيقها العقل العلومي لتنشئ لنفسها بنيانا جديدا” 7، ومنها تعقيبه على اختيار الجابري لمفهوم العقلانية لتأدية معنى العلمانية 8، بقوله: “ويقترح فاضل ديمقراطي أن لا نتحدث -إن تحدثنا- عن لاييكية لادينية، وإنما نتحدثُ عن عقْلانية وديمقراطية وكُتلة تاريخية 9.


[1] انظر بخصوص امتداد الحركة الإسلامية للحركة الوطنية: فرنسوا، بورجا. الإسلام الساسي.. صوت الجنوب، مرجع سابق، ص 8.
[2] ياسين، عبد السلام. سنة الله، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط1، 2005م، ص 328.
[3] ياسين، عبد السلام. نظرات في الفقه والتاريخ، دار الخطابي للطبع والنشر، الدار البيضاء، ط1، 1989م، ص 78-81.
[4] ياسين، عبد السلام. العدل، مرجع سابق، ص 415 وما بعدها.
[5] ياسين، عبد السلام. الإسلام والقومية العلمانية، مرجع سابق، ص 36 -37.
[6] انظر: ياسين، عبد السلام. الرسالة العلمية، مطبوعات الهلال، وجدة، ط 1، 2001م، ص 58-70.
[7] ياسين، عبد السلام. محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، مؤسسة التغليف للطباعة والنشر للشمال، المغرب، ط1، 1994م، ص93.
[8] الجابري، محمد عابد. وجهة نظر، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1992م، ص 116-111.
[9] “ياسين، عبد السلام. الشورى والديموقراطية، مرجع سابق، ص 341.