العروي: ياسين قائد إسلامي
ما كان للمؤرخ والروائي والمثقف الكبير عبد الله العروي أن يتجاهل الحديث عن أكبر معارض لنظامٍ سياسي يُذيب المعارضين ويعيد صناعتهم، إذ وصفه بـ”القائد الإسلامي” 1، وهو نفس الوصف الذي أطلقه فرنسوا بورجا على الرجل 2 قبل ذلك، اعترافا بزعامة الأستاذ وكاريزميته وسط تنامي قوة الحركة الإسلامية في العالم، فصاحب “مفهوم الحرية” يعي جيدا بأن المغاربة ليسوا في حاجة إلى الخُطب من أجل تربيتهم سياسيا، “لأن الخُطب أبعدت الناس، والشباب خاصة، عن الأحزاب وعن السياسة. هم الآن في حاجة إلى قائد” 3.
فهل القائد هو الخطيب السوفسطائي الذي يملأ الدنيا متشدقا ومتفيهقا أمام الضعفاء العاجزين، ويبتلع لسانه منتكسا ومرتكسا أمام الأسياد والسلاطين؟ أم إن القائد هو القدوة الذي يصنع المثال بدمه ومثاله ونضاله وإنجازه؟
وقد أشار العروي إلى ياسين من وراء السطور في كثير من كتبه، عندما تناول موضوعات المثقفين والمعارضة السياسية والإسلام السياسي وإمارة المؤمنين، والحركة الوطنية والحركة الإسلامية ومستقبل الإسلام… وهو يعرض بين الفينة والأخرى مواقفه وامتداداتها في المجتمع والثقافة، والتي أصبحت بها الدعاية الإسلامية “جمهورية في العمق”، من حيث لم تفلح الدعايات الحزبية سوى في إتمام طقوس الاستسلام للمخزن. والإسلاميون بطبيعتهم معارضون إذا لم تسمع لهم الدولة، وإذا سمعت لهم تحولوا إلى أوفياء 4.
وذكره بالاسم غير ما مرة، منها ما أورده عنه في “خواطر الصباح” التي كان ينتقي فيها أحداثا وأخبارا جزئية، ويدونها ويعلق عليها، وخاصة ما يتعلق بمناسبتين:
أولا: بمناسبة رسالة “الإسلام أو الطوفان”، حيث تحدث عن الأستاذ في البداية بوصفه أحد أطر وزارة التربية وكلية الآداب الذين انخرطوا في الطريقة البوتشيشية، حيث قال: “أحد الموظفين السابقين يدعى عبد السلام ياسين الذي ألَّف، فيما قيل، كتابا يدعو فيه إلى إقامة نظام إسلامي ويتمنى أن يكون رابع الشهداء، بعد محمد الكتاني وحسن البنا وعبد القادر عودة حتى يكون خصمه ومخاطبه رابع الجبابرة (عبد الحفيظ وفاروق وعبد الناصر) الذين أخذوا على حين غرة” 5.
فالعروي كغيره من المثقفين والمغاربة لم يخطر بباله وقتذاك أن ينبعث مثقفٌ مغربي وإسلامي لا هو من حزب الاستقلال ولا هو من فروعه، ويكتب للملك بتلك القوة وذلك الأسلوب وفي ذلك الوقت. فلا هو يتملق إلى الحاكم ليقربه كما يفعل “الوصوليون”، ولا هو يتملق إلى الشعب ليحمي ظهره كما يفعل “الشعبويون”. وإنما يتعلق الأمر برجل تربية وتعليم ألقى “قنبلة سياسية” من فناء الزاوية إلى وسط القصر. ولما كانت الثقافة الطرقية في نظر العروي تتسم بالضحالة والماضوية وقصر النظر، فأنى لها تكون ملاذا لأمثال هذا الجريء؟
وهل نطق الرجل بهذه الجرأة من تلقاء ذاته؟ لا حزب! لا نقابة! لا جماعة! لا داخل ولا خارج!
يجيب الأستاذ العروي: “لا أستبعد أن تكون يد أجنبية، إسلامية أو لا، وراء كل هذا” 6، قبل أن يعبر عن تخوفه من توسع الزاوية، وانضمام أطر أكاديمية 7 مثقفة من تخصصات مختلفة (منها الفلسفة) إليها، وكان لا يزال يظن أن ياسين آنذاك لا يزال أحد أطرها، بقوله: “المهم هو أن هذه التطورات تدل على تقهقر فكري مخيف.” 8
وثانيا: بمناسبة إصدار “مذكرة إلى من يهمه الأمر”، حيث قال في الجزء الرابع من خواطره الصباحية، معلقا على الرسالة ومضمونها: “رسالة منشورة في الأنترنيت بثلاث لغات حررها قائد إسلامي ووجَّهها إلى من يهمه الأمر. كيف يصح الكلام على الإسلام عامة والعالم الاسلامي، كما نراه، في غاية التمزق والتباين؟ من عدم المسؤولية أن يفوه المرء بحكم وهو يعلم أن المغرضين سيطبقونه على مجموع المسلمين. غرض صاحب الرسالة أن يتكلم على المغرب؟ ليفعل ويعرض عن الإسلام. يتكلم على الإسلام لأنه يمثل الوسيلة الوحيدة التي تمكنه من مخاطبة صاحب الأمر مباشرة خارج القنوات الدستورية. كما لو قال: الدستور لا يجدي. أنا أخاطب أمير المؤمنين، ولكي يتأتى لي ذلك، لابد من أن أعتمد مرجعية إسلامية. الموقف الصحيح هو إذن أن تعتبر الرسالة إجراء فردياً، لا تهم الحكومة أو الأحزاب أو المثقفين. إلا أن الجميع يتحاشون ذلك حتى لا يقال إنهم يدفعون الملك إلى الواجهة، في حين أنه يحتاج إلى ستر وحماية. يجب معارضة المبدأ لا مناقشة التفاصيل.” 9
غمغم الأستاذ العروي هنا ولم يبن. ولكن التفاصيل تقريبا يتفق فيها مع ياسين، غير أنه أعرض عنها كي لا يتفق معه، وكي لا يثير حفيظة “اللوبي الثقافي الفرنكفوني في المغرب” 10 بتعبير عميد المسرح المغربي عبد القادر البدوي، والذي يزعجه كل شيء أصيل، حيث “تحاول اللوبيات الفرنكوفونية المنتشرة في مختلف مؤسساتنا الوطنية أن تجرد أبناءنا من لغتهم وثقافتهم الوطنية الأصيلة لتحكم السيطرة على مستقبل وطننا” 11.
أما المبدأ الذي ينبغي أن يعارض فربما هو “أن ينكفئ الإسلاميون من ميادين الفكر المتفاعل في ميدان الصراع الثقافي إلى منظومات أفكار مبرمجة متوقفة عن النمو. ذلك الانكفاء الفكري يضمن استمرار الحركة الإسلامية في هامشية الحركية السرية” 12، أي إبعاد الإسلاميين عن السياسة، وإبقاء ما كان على ما كان.
الأستاذ عبد الله العروي
أما عبد السلام ياسين فلا تُقنعه تاريخانية العروي، ولعله يصنفه ضمن طائفة “الـمُغرَّبين” الذين قصَدهم بحواراته منذ الثمانينات بمحاضرة دار الثقافة بالرباط، وبالسلسلة الحوارية التي طبعت في منتصف التسعينات، وأستسمح القارئ هنا لأورد أحد نصوصه التي أزعم أنه يقصد بها نقد منهج القطيعة مع التراث التي اشتهر به عبد الله العروي، إذ يقول في فقرة بعنوان “الانقطاع المعرفي”:
“اعتذاري للقارئ الذي بقي على أصله لم يبتل بمجادلة أجيال تلوك الكلام المترجم. إنها طوائف مما يسمى بالمثقفين نحب أن يجدوا هنا يوم تنقشع عن أعينهم الغفلة، أو بعضُ سُحُبِها، أسبابا للحوار عسى يفيئون إلى الله ويرجعون عن أفيون الفكر المادي.
سيطرت الحضارة الجاهلية المحتلة على أرض المسلمين واقتصادهم وثقافتهم، فانقطع في تصور الذراري المغربين ما كان موصولا في تاريخنا. فإذا بهم يقفون أساتذة، نوابا وخلفاء للمستعمر، يلقون في جرائدهم ومجلاتهم وكتبهم وفي جامعاتنا ومدارسنا الدعوة للنمط الجاهلي، يستندون إلى هيبة الحضارة الميكانيكية في نفوس المغلوبين. يغمرون الجو الثقافي بفلسفة المدارس الجاهلية التي ينوبون عنها بين ظهرانينا. ويشوهون للأجيال الصاعدة صورة الإسلام وتاريخ الإسلام، ويبثون منهاج اللاييكية والتاريخانية والتراثية القومية.
مِن هؤلاء، وفي طليعة الغزو الفكري، دعاة لما يسمونه «الانقطاع الإبستمولوجي». وتعني الكلمة والدعوة أن نفصل بيننا وبين القرآن والإيمان والألوهية والربوبية والنبوة والوحي فصلا نهائيا. وذلك عندهم شرط أساس لنهضة «الأمة» العربية. يا حسرتا على عروبة تخرب الإسلام ولم تكن العروبة شيئا يذكر لولا الإسلام! عندهم ماثلا في العقول والضمائر تاريخ أوربا، فلا يتصورون سبيلا للخلاص التاريخي إلا بمحاكاة ذلك التاريخ. فكما انقطعت شعوب أوربا عن الكنيسة واعتمدت مصدرا للمعرفة الفكرَ الحرَّ البشري الذي كانت تضطهده وتقاتله الكنيسة، يجب أن ننقطع نحن عن الدين السماوي، ونُهديَ كياننا قربانا للعبقرية الأوربية، علها تقبلنا وتعترف بأننا من بني الإنسان. ولا بأس بعد ذلك أن نحتفظ بالتراث في متحف الأمجاد القومية.” 13
انتهى كلام الأستاذ. وليس في كلامه ما يحتاج إلى مزيد بيان.
[2] انظر: فرنسوا، بورجا. الإسلام الساسي…صوت الجنوب، مرجع سابق، ص 36، وقد زار بورجا الأستاذ سنة 1986م، وأجرى معه حوارا مطولا تجد مضامينه في فصول الكتاب، كما تجد في أطروحة الملك محمد السادس (La coopération entre l’union européenne et les pays du maghreb) وخاصة في الفصل الذي أجاب فيه عن سؤال: هل الإسلاميون عائقا أمام الاندماج؟ رجوعا إلى نفس المضامين الموجودة في الكتاب…
[3] العروي، عبد الله. مرجع سابق، ص 713.
[4] انظر: المرجع نفسه، ص 707.
[5] المرجع نفسه، ص 245.
[6] المرجع نفسه، ص 245.
[7] منهم الفيلسوف طه عبد الرحمن والوزير أحمد توفيق والأستاذ المصطفى عزام وغيرهم.
[8] العروي، عبد الله. ذكريات الصباح، مرجع سابق، ص 245.
[9] المرجع نفسه، ص 710.
[10] البدوي، عبد القادر. “رسالة بمناسبة اليوم الوطني للفن المسرحي”، القدس العربي، (www.alquds.co.uk) منشور يوم 14 ماي 2015، وشوهد في 03 يونيو 2020م.
[11] المرجع نفسه.
[12] ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، مرجع سابق، ص 5.
[13] ياسين، عبد السلام. مقدمات لمستقبل الإسلام، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط 1، 2005م، ص 15-16.