المثقفون والحصار…
إذا كان مفهوم المثقف في الأزمنة الحديثة يحيل على كل شخص مطلع على أحداث واقعه ومنخرط بفكره في هموم مجتمعه، يلقي كلمته بحرية ومسؤولية عن القيم النبيلة (الحرية، العدل، الكرامة…) ويُحرض على الخير المشترك، و”ليس شخصاً خارج المجتمع، أو يتعالى على هذا المجتمع، وينْأَى بنفسه عن مشكلاته وقضاياه، بل إنه مُلْزَم بقراءة ما يجري من وقائع وأحداث، كما هو مُلْزَم بالانْخراط في كل أشكال التعبير التي هي من مظاهر الوعي الثقافي” 1، فماذا عن مواقف المثقفين عموما مما يقع للمناضلين والمظلومين من سجن وحصار واضطهاد كما هي حالة الأستاذ ياسين وهي واضحة جلية؟ ولماذا لا يتبَنَّون قضية الرجل وهُم يعرفون أنه مظلوم؟ ألأنه إسلامي؟ وهل ديموقراطية المثقفين لا تسع جميع المواطنين؟ أو قل جميع المظلومين؟ أهي الإديولوجيا؟ أم الخوف؟ أم هما معا؟
الرجل إسلامي لا كالإسلاميين، ومناضل لا كاللائكيين، فهو إسلامي ومناضل في الوقت نفسه، يتبرأ الإسلاميون من راديكالية مواقفه، ويتبرم اللائكيون من مرجعيته. وهو هو في قوله وفعله، لا يتلون ولا يتردد. أما المثقف الذي تخلى عن الإسلام وعن قضية الإسلام لصالح إديولوجية من هنا أو هناك، فيقول عنه الأستاذ ياسين: “للمثقف المغَرَّب دينٌ يمنعه عن التفكير بمفردات الإسلام وتراكيبه، إن كان في نفسه بقية من فطرة فهي من وراء جدار اللاييكية شأن خاص، وعورة لا تُذكر ولا تُكشف. يفقد المثقف المغَرْبَنُ قدرته على التعجب من بُنيانه هو، من أبدعه وبَرَأه وصوره؟ أسئلة وُجودية لا يجوز في ملة الثقافة طرحها إلا مندمجة في الشبكة الفلسفية، مَنْضُودَةً في مُتحفها مع أسئلـةٍ تجاوزها العقل وخلَّفها التطور. عقل المثقف منهمك في معرفة “كيف”، منهمك في فضول شامل، يُستثنَى من فضوله الطلبُ الفطري: من أنا ومن أوجدني ولماذا ومِن أين وإلى أين؟” 2.

الكاتب مع الشيخ محمد زحل رحمه الله بمؤتمر دولي بالدار البيضاء سنة 2016م
وبقي قلة من العلماء والمثقفين من جهروا بمناصرتهم للرجل، أذكر منهم الشيخ محمد زحل رحمه الله (ت2017م) الذي قال مِن على منبر الجمعة لسنة 1984 أو 1985م ومباشرة بعد الخطبة: “وإنني من هذا المنبر أدعو ملك البلاد أن يطلق سراح الشيخ عبد السلام ياسين، فإنه رجلٌ نستمطر به” 3.
وباستقراء وضعنا الثقافي يمكن تقسيم المثقفين عموما إلى ثلاثة أقسام:
المثقف الحُجة: أو بتعبير طه عبد الرحمن “المثقف المرابط” 4، وهو صنف من المثقفين يرابط في ثغر الحقيقة ولا يبرحه، فينتصر للحق بلا تردد، ويتخذ الموقف العدل في اللحظة المناسبة. إذ لا يخلو الزمان من مثقفين -قلُّوا أو كثروا- يَحيون بضمائرهم ويحتفظون باستقلالهم الإيجابي، ويجهرون بمواقفهم التي تفرضها عليهم التزاماتهم الأخلاقية والعلمية. فالمثقف الحي لا يتوانى عن إعلان تعاطفه الفطري مع كل مظلوم أو مستضعف في الأرض، ولا يتردد في مناصرة القضايا العادلة بصفاء فطرته وكرم سريرته، وقد يضطره موقفه إلى الاشتباك أحيانا مع الأوصياء على الحقائق المصنوعة في الظلام، وذلك هو “المثقف العضوي” الذي كتب عنه الفيلسوف الإيطالي أونطنيو غرامشي (ت1937م) في “مذكرات السجن” 5، والذي يرافع عن ضمير البشرية، ولا يُحرف الكلم عن مواضعه، فلا يخون أمانة ولا يكتم شهادة. وبهذه المهمة النبيلة يختلف المثقف النزيه عن عامة الناس في المجتمع، وإن حسبته الدولة كائنا غير مرغوب فيه 6.
المثقف الزائف: في كل مجتمع تجد حفنة من المثقفين بلا ضمائر، يؤدون مهمات الدعاية الرسمية للسلطة، سماهم ابن خلدون بـ”أهل الخضوع والتملُّق” 7، الذين ينتفعون بريع السلطان وينبتون في ظل شجرته السامة، فلا يأتي منهم إلا نباتات ضارة بتعبير الفارابي. منهم كهنة وأكاديميون وفنانون وإعلاميون وموظفون يحترفون النفاق عُملة وتخلُّقا، مردوا على الكذب والتزوير، أولئك “الخونة” بتعبير جوليان بندا 8 الذين يتخلون عن رسالتهم وسلطتهم المعنوية ويفضلون العيش في أبراج عاجية، يُستدعون بين الفينة والأخرى لتزيين المنكر، إنهم “أعوان الظَّلَمة” 9 الذين طُمست بصيرتهم وباعوا ضمائرهم للسلطة، يدورون مع صاحب السلطة حيث دار، ويتكيفون مع شعاراته ويتعرضون لأعطياته، ولا يزالون على حالهم حتى يُطبع على قلوبهم ويصيبهم العمى في بصائرهم، فيستحيلوا مرتزقة بألبسة أنيقة، ومثلهم أيضا مثقفو “القبيلة” الذين يفكرون من قمقم الانتماءات المغلقة لا من فسحة الواجب الأخلاقي المبدئي. و”النفاق والصراحة، والجبن والبطولة، والخوف والشجاعة، والكذب والصدق، كلها صفات لا تنقسم إلى أجزاء، إنها توجد أو لا توجد. والإنسان إما أن يكون صادقا مع الجميع.. أو منافقا مع الجميع. إنه لن يكون منافقا مع السلطة.. صادقا مع ضميره، أو منافقا في الصباح.. ليصبح صادقا في المساء” 10.
وحيثما وُجد المبير وُجد الكذَّاب.
المثقف الوصولي: من المثقفين كثرة تُظهر الحياد السلبي في جميع المعارك، مِن بعيد يُصدعون رؤوس الناس بالأحاديث الرنانة الطنانة عن القيم الأخلاقية والحقوقية والقانونية التي تتغنى بشعارات تكريم الإنسان، كل إنسان، وتنشد العدل والحرية والمساواة، في كل مكان، لكنهم يبتلعون ألسنتهم في الواقع عندما يُسلخ الحق سلخا وتُذبح الحقوق ذبحا، يصمتون صمتا مطبقا ويتحولون إلى كائنات رخوة وسابتة.
أحيانا، يظهر بعض المثقفين الحياد في معركةٍ لا يجوز فيها الحياد، وهؤلاء في الحقيقة كما عبر علي عزت بيغوفيتش (ت2003م) “أصيبوا بضمورٍ شديد في حاسَّة الانتماء الفطري، فصنعوا لأنفسهم هويةً زائفة وانتماءاتٍ أنانيةً من صُنْع أوهامهم وضلالاتهم” 11، رغم أن لهم حججهم وعقلانيتهم أو “لا عقلانيتهم” 12 بتعبير محمد عزيز الحبابي التي تمنعهم من إنصاف الآخر، وخاصة إذا كان إسلاميا.
و”المثقفون المحايدون دائماً فوقَ شيء ما، خارجَ شيء ما” 13، يصنعون الثرثرة ويُزمرون لأناشيد البؤس في حِجر السلطان. فوق الواقع كما هو في وقوعه، وخارج التاريخ الذي تصنعه الإرادات الفاضلة والعزائم الماضية والسواعد الفاعلة، لا النفوس الهابطة والأقلام المستأجرة والذمم الرخيصة، و”مائة أرنب لا تصنع حصانا، ومائة شُبهة لا تصنع برهانا” 14 كما يقول المثل الإنجليزي.
أقول هذا وأنا على وعي بأن المثقف هو مجرد إنسان يصيبه ما يصيب أي إنسان، يخاف ويطمع، يتحزب وينحاز، يصيب ويخطئ، وقد يجهل أحيانا فحوى الخطاب ومقصده، وقد يصاب بالعمى نتيجة استفحال الطغيان فلا يرى الحقيقة، فـ”في الأرض التي يحكم فيها الطاغوت يكون الجميع تقريبًا عميانًا” 15، لكنه لا يُعذر بتاتا بتواطؤه مع الباطل وتحيزه إلى الظلم. وقد يُلتمس له العذر عندما يسكت خوفا على نفسه من الأذى المحتمل، خاصة في ظل سياسة تكميم الأفواه، غير أنه لا يُقبل منه قلب الحقائق، والإمعان في جلد المظلوم وتبرئة الظالم. لذلك كان القصد في التقسيم السابق هو تمييز المثقف الحي الراسخ، أو قل “المثقف الثقيل” الذي لا يميل عما يراه باكتشافه وتحققه أنه الرأي الصائب، من المثقف المذبذب الوسخ، أو قل “المثقف الخفيف” الذي يُستمال فيميل عن الحق إلى إرضاء الغالب. وليس قصدي أن يتعاطف الجميع مع الأستاذ ياسين ويرون رأيه بالضرورة ليكونوا مناضلين.
[2] ياسين، عبد السلام. العدل، الإسلاميون والحكم، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 2000م، ص 560-561.
[3] من حوار الكاتب مع الأستاذ عبد الصمد الرضى.
[4] طه، عبد الرحمن. ثغور المرابطة، مطبعة أمين كراف، سلا، ط2، 1440هـ/2019م، ص 200.
[5] Gramsci, Antonio. The Prison Notebooks: Selections, trans. Quintin Hoare and Geoffrey Nowell-Smith, New York, International Publishers, 1971, p 9
[6] انظر بخصوص فك ارتباط المثقف بالدولة: محسن، محمد حسين. المثقف اللامنتمي في التراث الإسلامي.. دراسة عن قمع الدولة للفكر الآخر، دار الزمان، بغداد، ط1، 2016م.
[7] ابن خلدون، عبد الرحمن. ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، تحقيق خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1408ه/1988م، 1/488.
[8] Benda, Julian. The treason of the Intellectuals, trans. Richard Aldington, New York, 1 st trad, 1969, p43
[9] يُروى عن الإمام أحمد بن حنبل حينما كان مسجوناً في محنة “خلق القرآن” سأله السجان عن الأحاديث التي وردت في أعوان الظلمة، فقال له: الأحاديث صحيحة، فقال له: هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال له: لا، لست من أعوان الظلمة، إنما أعوان الظلمة من يخيط لك ثوبك، من يطهو لك طعامك، من يساعدك في كذا، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم!
[10] عوض، محمود. متمردون لوجه الله، دار الشروق، بيروت، ط2، 1986م، ص 84.
[11] بيغوفيتش، علي عزت. مذكرات علي عزت بيغوفيتش، ترجمة محمد يوسف عدس، مطبعة كتاب المختار، القاهرة، ط1، 2004م، ص 118.
[12] الحبابي، محمد عزيز. من المنغلق إلى المنفتح، مرجع سابق، ص200.
[13] بيغوفيتش، علي عزت. مذكرات علي عزت بيغوفيتش، مرجع سابق، ص 119.
[14] دوستويفسكي، فيودور. الجريمة والعقاب، ترجمة سامي، الدروبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 2010م، 2/275.
[15] فولتير، فرانسوا ماري آروويه. قاموس فولتير الفلسفي، ترجمة يوسف نبيل، مؤسسة هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، د.ط، 2017م، ص 221.