رُفع الحصار.. تجدَّد الحصار..

الأساتذة: محمد الصبري وعبد اللطيف حاتمي وعبد العزيز بناني وخالد السفياني، والصحفي مصطفى العلوي، في زيارة الأستاذ ياسين بعد سماعهم رفع الحصار سنة 1995م.
في منتصف مدة الحصار انتشر خبر رفع الإقامة الإجبارية عن الأستاذ والمعارض السياسي عبد السلام ياسين (هكذا سمعتُ الخبر في الجامعة)، فحجَّ جمعٌ غفير من الناس للتأكد من الخبر، ولم تكن آنذاك وسائل التواصل الاجتماعي ولا وسائل الإعلام التقليدية على ما هي عليه الآن من سرعة ودقة في نشر الخبر، ومن بين الزوار يومها عدد لا بأس به من الحقوقيين والسياسيين والمحبين.
وكان اليوم يوم جمعة (22 رجب 1416ه/ 15 دجنبر 1995م) صلى فيه الأستاذ ومن جاء لزيارته الجمعة بمسجد بنسعيد بالحي نفسه، وألقى كلمة بعد انتهاء الصلاة اعتذر فيها للإمام ولرواد المسجد عن الازدحام الذي سببه خبر رفع الحصار، وذكَّر بأصل الدعوة ومضمونها، قبل أن يفاجئنا -وقد كنت

كلمة الأستاذ في مسجد بنسعيد بحي السلام يوم الجمعة 15 دجنبر 1995م
يومذاك ضمن الحضور- في نهايتها بإخبار السلطة له في المسجد بأن الحصار لم يرفع! فضجَّ المسجد بالتكبير والحسبلة والحوقلة، قبل أن ينبه رحمه الله الحضور إلى ضرورة التزام الهدوء في حرمة المسجد.
وسأعيد نشر الكلمة التي ألقاها بالمسجد بعد الانتهاء من الصلاة كاملة لارتباطها بالموضوع ضمن ملاحق الفصل الأخير.
وبعد الصلاة عاد الرجل من المسجد إلى بيته والحي مُطوق بمختلف أنواع الشُّرَط والحرس والعسس، واستمر الحصار سنوات أُخر، واستأنف الرجل برنامجه اليومي والسنوي والعُمري، وهو يعي تمام الوعي بأن الحصار فرصة نادرة للمسارعة في طاعة الله تعالى والإقبال عليه بالفرض والنفل، فيزداد بإقباله فتحا إلى فتح وبخلوته نورا على نور.
فرصة أخرى للتعسيل، بالاعتكاف على الذكر والفكر والكتابة، وفتوحات السجن لها عمقها وأثرها فيما بعده، فقد ذكَّر الأستاذ بما وقع لابن تيمية رحمه الله من فتح في السجن بما لا قِبل له به من قَبل، إذ قال عنه: “هذا الرجل المظلوم حيا وميتا منحه الله عز وجل في آخر عمره، بين يدي موته، فقد مات في السجن، فتحا مبينا ومعارف كملت له مطلبَه من ربه عز وجل (…) من السجن كتب ابن تيمية رحمه الله رسائل تفيض رقة وفرحا بالله عز وجل وحلاوة وعَسَلِيَّةً. كتبها نفس القلم الذي كان أرْقَماً على الخصوم، وأملاها نفس الفكر الذي كان عليهم عَلْقَما. تعسل هذا وذاك في رحمة الله الكريم الوهاب. داخل السجن، وسط الفتنة والمحنة، قال رحمه الله في رسالة لأصحابه من السجن: “وأما بنعمة ربك فحدث. والذي أعرِّفُ به الجماعة أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة وأتم عليهم نعمته الظاهرة والباطنة: فإني، والله العظيم الذي لا إله إلا هو، في نعم من الله ما رأيت مثلها في عُمْري كله. وقد فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن بالبال، ولا يدور في الخيال، وما يصل الطَّرْف إليها. ييسرها الله تعالى حتى صارت مقاعدَ (قلت الصوفية يقولون: مقامات). وهذا يعرف بعضها بالذوق من له نصيب من معرفة الله وتوحيده وحقائق الإيمان وما هو مطلوب الأولين والآخرين مع العلم والإيمان..” 1 كما أضاف: “وكان رحمه الله ممَّن لا يعلمون كثيرا من أسرار الله في أوليائه قبل فَتْحِه الأخير في السجن و”تعسيلته”، وقبل أن يظهر له أن بُعْدَ ما بين العاميِّ من المؤمنين وخاصِّ الخاص منهم كبُعْدِ ما بين البهيمة والملائكة” 2. فالسجن في ظاهره عقاب وحصار وفي باطنه قد يكون محرابا للتبتل ومصنعا للحرية وموطنا للتعسيل 3.
في هذه المرحلة الثانية من الحصار (بين 1996 و1998م) ألَّف الأستاذ سلسلة من الكتب الحوارية المتميزة التي تتناول إبداء الرأي ومناقشة قضايا ثقافية وسياسية واقتصادية وعلمية تهم حاضر الأمة ومستقبلها، وهي تستحضر مخاضات العالم وإكراهاته، وتقترح مداخل التغيير المشترك الممكن. وتلك الكتب هي: (الشورى والديموقراطية- حوار الماضي والمستقبل- حوار مع صديق أمازيغي-المنظومة الوعظية- الرسالة العلمية- الإسلام والحداثة)، يجهر بقوله حتى لا يُقوِّله المتقوِّلون ما لم يقل، ويوصل كلمته حتى لا يلفق له عناكب الظلام تُهما هو منها بريء. يقول رحمه الله “ما ينبغي لنا أن نسكت ويغتنم الأعداء سكوتنا ليتهمونا بالغموض والتخلف الفكري وينسبوا لنا ما شاؤوا من تهم الإرهاب والتآمر. وما ينبغي لنا أن نخاف من تبعات الكلمة الصريحة المسؤولة فإنما ذل المسلمون من غياب هذه الكلمة” 4.

الأستاذ يقرأ القرآن الكريم ويتتبع الآيات بسبَّابة يمناه
وأرادوا حصار كلمته فكسرت الكلمةُ الحصار وكتب الله لها الانتشار والانتصار والاستمرار، فطُبعت الكتب خلسة، ووصلت إلى أكثر ممن كان يُتوقع أن تصل إليهم. وصارت ذكرى الحصار يوما للحوار لما اتخذت الجماعة ابتداء من تاريخ 10 يناير 1998م ذكرى الحصار مناسبة سنوية للحوار والتواصل مع مختلف القوى السياسية والفكرية داخل المجتمع المغربي، في شكل ملتقى فكري مفتوح. كما عُرضت كتب الأستاذ ولأول مرة للعموم في المعرض الدولي للكتاب يوم 5 نونبر 1998م، بمدينة الدار البيضاء برواق “مطبوعات الأفق”، وحظيت بإقبال كبير وتعاطف أكبر من زوار المعرض مع صاحب القلم المحاصَر. وهي أول وآخر مرة تُعرض كتب الأستاذ بالمعرض 5. وفي يونيو من نفس السنة (1998م) نظمت الجماعة حفل تقديم كتاب “Islamiser la modernité” وباللغة الفرنسية، بقصر القباج بالرباط.
[2] المرجع نفسه، 2/206.
[3] في الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ” قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ؟ قَالَ: “يَفْتَحُ اللَّهُ عز وجل لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ”. ابن حنبل، أحمد. مسند أحمد، مسند الشاميين، رقم 17784.
[4] ياسين، عبد السلام. مجلة الجماعة، العدد 8، ط1، فاتح شعبان 1401ه/يونيو 1981م، ص 5.
[5] بعد ذلك منعت إدارة المعرض الدولي بالدار البيضاء (من 4 إلى 10 نونبر 2000م) عرض كتب الأستاذ، وإلى يومنا هذا.