صناعة الحرية (39).. قول بلا فعل

Cover Image for صناعة الحرية (39).. قول بلا فعل
نشر بتاريخ

قول بلا فعل..

استمر الاستفراد بالحكم وتأكد للمتتبعين ضمور الإرادة السياسية الحقيقية عند المالكين لزمام الأمور في الإصلاح عن طريق عقد توافق حقيقي، ينشئ دستورا تعاقديا جديدا، ويضمن إشراك الجميع في التداول الحقيقي على السلطة. فخاب ظن الأغرار وانجرت عربة الطامعين والمستعجِلين مع قاطرة النظام، وتبخر حُلم الوطنيين الصادقين، بإنجاز “كتلة تاريخية” تفي بعهد النضال والتحرير الذي سطرته ملاحم المجاهدين الأبطال في الحركة الوطنية، والذين أيقظوا الشعب من غفوته، بل أيقضوا “الملكية ورموزها من سبات طويل” 1، وقد أجمل القول من قبل الأمير الخطابي 2 في منفاه وهو يتابع خطوات الاستفراد عندما قال: “إن الأمة المغربية ما فتئت بعيدة كل البعد عن المشاركة في إدارة شؤون البلاد” 3.

الأُمة بعيدةٌ عن المشاركة الحقيقية لأنه حيل بينها وبين الحكم، باستصناع نخبة سياسية مزورة، فاقدة للشرعية والثقة، وباستدراج فئات من أنصاف السياسيين إلى مربع الموت، لا هي حافظت على قاعدتها الشعبية ولا هي قدرت على مواجهة رأس الأفعى 4، وأكمل الباقي استغفالُ نخبة صدَّقت أوهام المرحلة وظنت أن السراب ماء حتى إذا جاءته مترهلة لم تجد سوى التحكم بسيفه التقليدي وطاووسيتة الـمُرَيَّشَة بزينة الديمقراطية.

وهل يستلذُّ العاقل يوما معاشرة الأفعى 5؟ بتعبير ابن العربي الحاتمي.

استعجلَت بعض النخب التغيير، وحسبته هيِّنا وسريعا، وفاتها أنه عمل مجتمعي جماعي شامل ومتدرج، لما فاتها أن “مشاكل الأمة متشعبة، ومهمات البناء ثقيلة، ولا ينهض لها إلا الأمة كلها حين تستيقظ وتشارك، حين تحيى من موت الاستسلام، حين تمسك أمرها بيدها” 6، ولا تقدر على تحمل عبئه وعناء مسيره نخبة يقعقع لها بالشنان فتنجر إلى شهادة الزور وقول البهتان.

دروس في المنهجية…

 أما دعوى الانتقال الديمقراطي فقد فشلت في أول اختبار لها على أرض الواقع لما حافظت السلطة على جلادي الأمس في مركز القرار، وأكدت منهجيتها “المخزنية” التي لا عهد لها ولا خلاق، وغضت الطرف عن فضيحة الحصار ومن ورائه إبعاد العلماء عن مركز النفوذ، واستمر “الكذب فضيلة سياسية بل ضرورة سياسية” 7، والكذب هو نفسه أوصل حيلة الانتخابات الانتخابانية 8 (أي الانتخابات من أجل الانتخابات) إلى الباب المسدود لما تبين أن التزوير فوق القانون والقرار فوق الانتخابات وما تفرزه من مؤسسات صورية ضعيفة، ناهيك عن التزوير بالألوان وفي كل مكان، فأمسك أغلب الشعب عن اللعبة بأكملها تسجيلا وتصويتا، وقد أكد ذلك أحد مستشاري الملك بقوله: “ليظهر أن أصحاب البطاقات الملغاة وغير المصوتين وغير المسجلين، هم القوة السياسية الأولى في المغرب” 9.

وضاع الأمل المكبوت في الإصلاح.

يريد المخزن أحزابا على مقاسه: تحتفظ بشعبيتها وتذعن لمنطق الاستبداد في الوقت نفسه، فتبيعه القطيع بالجملة بعدما جمعته بالتقسيط. وتريد الأحزاب أن تحوز صفة النضال لتتوسع شعبيتها، وتكون خادمة للأعتاب لتأكل من موائدها في الوقت نفسه. وهذا مستحيل في منطق التدافع والتغيير… مع الفساد وضده لا يجتمعان…

فهِم الناس اللُّعبة، وهي التسلق في المناصب وتحصيل المكاسب بقدر التملق للحاكم والاحتفال بأعياد ميلاده واستبداده وكَيل المديح لأجداده وأولاده، يقول فولتير: “ألِّفْ بعض القصائد الغنائية في مديح سيدي سوبربوس فادوس، وبعض القصائد الغزلية من أجل عشيقته، واكتب إهداءً على كتاب في الجغرافيا لبوَّابه، تُستقبَل استقبالًا حسنًا. نوِّر البشرية تُعدَم.” 10

غاب الصدق وضمر النضال وانتكست الإرادة وانقلب الخطاب السياسي -في عمومه- نفاقا، وانتظر الجيل الجديد صورة الخطاب الجميل حية في الواقع الذي يعيشه ويعانيه؛ خبزا ورخاء وشغلا وتطبيبا وكرامة وعدلا وحقوقا وتنمية، غير أنه اكتشف زخرف القول، وكلام الليل يمحوه النهار، ففَقد الثقة في نخبةٍ باعت الدين بالتين، وساهمت في تزييف الوعي وإجهاض الأحلام، ولم يعد الشعب يفرق بين اليميني واليساري، ولا بين الاشتراكي والإسلامي، ولا بين المناضل والمخاتل، وتشابهت الوجوه وشاهت، وضاق المناضل القح بنضاليته، وجرت المياه من تحت قدميه، وأمست “الاشتراكية هي أكبر كذبة”، والمذهبية “الاشتراكية مُجرد وَهْم” 11. وانتعشت المخزنية مع الجيل الجديد متلونة بألوانه، فهي تارة اشتراكية إسلامية وتارة اشتراكية حسنية وأخرى ديموقراطية حسنية ورابعة عبقرية حسنية… جعجعة ولا طحن.

فعن أيِّ تناوبٍ أو دمقرطةٍ أو أية شعارات أخرى براقة أطلقها شعراء “العهد الجديد” ومجرد رأي سلمي يقترح اقتراحا إيجابيا يـُمنع ويُقمع ويُستهدف شخصه وفكره وأهله؟ وحتى الصحافة ُمُنعت من تداول موضوع حصاره!


[1] حمودي، عبد الله. الشيخ والمريد، مرجع سابق، ص 39.
[2] وللتاريخ نذكر أن أول ندوة فكرية عن محمد بن عبد الكريم الخطابي نظمت في بيت الأستاذ عبد السلام ياسين بسلا، يوم الأحد 23 فبراير 2003م، سيرها الأستاذ محمد حمداوي وشارك فيها كل من الأستاذ سعيد الخطابي ابن الأمير برسالة تلاها الأستاذ عبد السلام الغازي من جامعة الجزائر، والأستاذ محمد العبادي، والفقيه البصري، والأستاذ علي الإدريسي، والأستاذ زكي مبارك، والأستاذ عمر أمكاسو. راجع تقرير الندوة بعنوان “احتفاء بمرور40  سنة على وفاته: البعد المغاربي في شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي”، منشور بموقع (aljamaa.net)، بتاريخ 25 يونيو 2003م. وقد تحدث عن ذلك المؤرخ علي الإدريسي في تصريح له بعنوان “أول ما احتُفل بالمجاهد عبد الكريم الخطابي كان في بيت الإمام عبد السلام ياسين”، منشور يوم 15 يناير 2013م في موقع (yassine.tv)، وشوهد في 12 ماي 2020م.
[3] الخطابي، محمد بن عبد الكريم. تقديم “ترجمة الشيخ الشهيد محمد الكتاني المسماة أشرف الأماني”، تحقيق نور الهدى عبد الرحمن الكتاني، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1426ه/2005م، ص 54.
[4] تشبيه المخزن بأفعى سامة استعمله عبد الله العروي في مذكراته، واستعمله عبد السلام ياسين في برنامج مراجعات (مرجع سابق).
[5] انظر: ابن العربي، محيي الدين. شجون المسجون وفنون المفتون، تحقيق علي إبراهيم كردي، دار سعد الدين للطباعة والنشر، دمشق، ط 1، 1419ه/1999م، ص 51.
[6] ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، مرجع سابق، ص408.
[7] سبيلا، محمد. حوار في جريدة المساء المغربية، عدد 3670، نقلا عن موقع لكم على الرابط (https://lakome2.com/opinion/84048)، منشور يوم 2-10-2018م، وشوهد في 8 ماي 2020م.
[8] انظر: العسري، خالد. تحت السلطة: أزمة التمثيلية الانتخابية في المغرب، مطابع أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 2020م، ومنار، محمد. الانتخابات بالمغرب: ثبات في الوظائف وتغير في السمات، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ط1، 2011م.
[9] أوريد، حسن. السياسة والدين في المغرب، مرجع سابق، ص 106.
[10] فولتير، فرانسوا ماري آروويه. قاموس فولتير الفلسفي، ترجمة يوسف نبيل، مؤسسة هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، د.ط، 2017م، ص 222.
[11] سبيلا، محمد. حوار في جريدة المساء، مرجع سابق.