صناعة الحرية (31).. من برنامجه اليومي

Cover Image for صناعة الحرية (31).. من برنامجه اليومي
نشر بتاريخ

من برنامجه اليومي..

وحيث “في الحصار، تكونُ الحياةُ هِيَ الوقتُ” 1 كما يقول محمود درويش، نتساءل كيف سيكون برنامج الإمام اليومي؟ وقد خبرناه في المرحلتين السابقتين (سجن مراكش وسجن الرباط) مستثمرا لميزانية وقته بدقة متناهية، كما حكى عنه أصدقاؤه أنه قضى فترات السجن كلها معتكفا في محراب العبودية لا يلتفت إلى مغريات الحياة ولا إلى معاناتها، ومدونا لأفكاره بدمه ولحمه وزفرات روحه، منشغلا بربه لا يبالي بأذى الخلق ومكرهم.

ومع ما توفر لدينا من معلومات يصعب علينا أن نتتبع أنشطته بالتفصيل، إلا أن نعود إلى أهل بيته فهم أعلم من غيرهم وأقرب، أو إلى بعض حواراته المتوفرة حاليا، وحديث زوجه “للا خديجة” عن برنامجه اليومي بعد عشرية الحصار.

أمضى رحمه الله فترة الحصار كلها صائما متفرغا للقراءة والذِّكر والقيام والكتابة، حيث قال: “صمتُ عشر سنوات متتالية بدون انقطاع، وهذا من فضل الله عز وجل” 2. وسمعتُ غير مرة من المقربين إليه أنه كان يستيقظ في الثانية عشر والنصف صباحا ليبدأ برنامجه اليومي باكرا، كما كان يحافظ على حصة يومية من الرياضة. وغير هذا لا علم لي به…

 وتقول السيدة خديجة رحمها الله عن برنامجه بعد الحصار، وهو مما يفيد في معرفة عمل الأستاذ في بيته:

الأستاذ وزوجه للا خديجة رحمهما الله

“فيما يخص برنامج سيدي عبد السلام فقد كان ينام بعد صلاة العشاء ويقوم ثلاث ساعات ونصف قبل صلاة الصبح ليقوم الليل ويذكر الله تعالى ويقرأ القرآن الكريم، وينام بعد الشروق ويستيقظ ساعتين قبل صلاة الظهر، يتوضأ ويصلي ثم يخرج للمشي على سطح المنزل أو في الحديقة حتى الثانية عشر ظهرا، يصلي بعدها ويتغذى، إن لم يكن صائما، وكان كثير الصيام، حيث صام العامين التي اعتقل فيها مجلس الإرشاد، وكان يصوم الاثنين والخميس والأيام البيض وشعبان وكل مواسم الخير، بعد الغذاء كان يقرأ كتبا متنوعة أو يكتب، وبعد صلاة العصر يستقبل الزوار ويخصص لنا وقتا في حديقة المنزل إلى صلاة المغرب، وحين يسمع الأذان يلبي نداء الله فورا، وبعد الصلاة قد يستقبل أبناءه في مكتبه أو ينزل إليهم حتى صلاة العشاء، والحمد لله كنا نصلي معه جميع الصلوات ما عدا التي يصليها مع زائريه من الإخوان. خصوصية بيت سيدي عبد السلام أنه بيت دعوة، بيت عامر بالمؤمنين، بيت عامر بذكر الله عز وجل” 3[/ref]. وقد يختلف هذا البرنامج بحسب الظروف، فزمن الحصار ليس هو غيره.

يعطي كل ذي حق حقه..

لم تشغل الرجل أوراده ولا مهمّته التنظيمية ولا اهتماماته العلمية والفكرية والسياسية عن رعاية بيته وتدبير شؤون أسرته، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتؤكد ذلك ابنته آسية بقولها: “كان والدي الحبيب يعطي لكل ذي حق حقه، لم تمنعه انشغالاته من لقاءات وكتابة كتب من تخصيص الوقت الكافي لنا. كان يحرص كل الحرص على احترام الوقت وكان يومه منظما، وضمن برنامجه اليومي حصص لأهله وأولاده وأحفاده. كان يسأل عن أحوالنا ويحمل همومنا. يتابعنا في كل صغيرة وكبيرة. حتى وهو في السجن كان يبعث لنا كل أسبوع برسالة يضعها في سلة الطعام يتفقد فيها أحوالنا فردا فردا. كان يلعب مع أطفالنا ويقول: “وإنما أطفالنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض”، لا يمكن الجلوس معه دون أخذ فائدة لغوية أو شعرية أو علمية أو تربوية. كنا نلجأ إليه في كل أمر وكان مستمعا جيدا. نرتاح بالحديث معه ونأنس بوجوده.

كان يحرص ألا تكون بينه وبين أبنائه وبناته جميعهم حواجز أو مسافات أو حتى أسرار. وكان يعطي لكل مُقبل عليه الأمان ويغمره بالترحاب ويشيع في الحضور البهجة والفرح. فلا تملك وأنت بين يديه ألا تشاركه كل ما يخالج صدرك ويشغل بالك. فنجد فيه الدعم والتشجيع والقوة على تخطي كل الصعاب؛ كل ذلك بالتذكير بلزوم باب الله وعدم الإذعان للنفس والهوى (…) يرغبنا في قراءة القرآن ويحكي لنا قصص الأنبياء عليهم السلام ويجعلنا نتنافس على الصلاة معه. يوقظنا لصلاة الصبح ويعلمنا سيد الاستغفار قبيل صلاة الفجر. يشحذ هممنا دائما للتطلع إلى أعلى المقامات وهي النظر إلى وجه الله تعالى ومجاورة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. كل ذلك بتلميحات بسيطة دون أن يشعرنا بالخجل من تقصيرنا.

كان شعاره في التربية والتعليم على الدوام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما كان الرفق في شيء إلا زانه”. وكلنا نذكر كيف كان دائماً يعلمنا الرفق ابتداء بأضعف الحشرات كان دوما يتحرى ألا تمس نملة بسوء؛ وإن تسربت لغرفته حشرة فيوصي بإخراجها دون إذايتها. وأكثر ما كان يوصي بالرفق عند سن المراهقة، وفي تعامل الرجال مع زوجاتهم، ولا يمل يكرر الحديث “لا يكرمهن إلا كريم” الحديث. كان لا يمل من سؤالنا عن القرآن هل تحفظ؟ أين وصلت في حفظ القرآن؟ وكان يفرح كثيرا إذا حفظ الواحد منا سورا من القرآن الكريم (…) كان يترك لكل واحد منا حرية اختيار طريقه. يحترم الرأي ويشجع المبادرة ولا يجبر أحدا منا على فعل شيء بل يوجه بشكل لطيف. كانت حياة والدي كلها مع الله، قراءة قرآن، استماع لتلاوة القرآن، تدبر في آيات من القرآن، حديث في معاني القرآن، كانت حياته يغمرها القرآن؛ فكيف بالله عليك تؤثر الحوادث والأحداث فيه؟” 4.


[1] درويش، محمود. حالة حصار، مطابع رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط2، 2002م، ص 12.
[2] انظر: الجزء الثاني من حوار مع الإمام في برنامج مراجعات (الحلقة الرابعة)، مرجع سابق، الدقيقة الأولى.
[3]5الإمام زوجا وأبا”، مرجع سابق، ص 13-14.
[4] حوار مع نجلة الإمام السيدة آسية ياسين، بعنوان “حوار من قلب بيت الإمام رحمه الله”، منشور في موقع مومنات (mouminate.net)، يوم 12 دجنبر 2014م، وشوهد في 7 ماي 2020م.