صلاة الاستسقاء وسؤال احتكار دين الأمة

Cover Image for صلاة الاستسقاء وسؤال احتكار دين الأمة
نشر بتاريخ

يقول الحق سبحانه في سورة: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ…(البقرة:154).

من سنن الله تعالى اختبارُ عباده بالرخاء والمحن تمحيصا لمعدن الصدق ورسوخ الإيمان في النفوس؛ اختبارٌ هو في عمقه تربية رحيمة، فيرسخ إيمان الصادقين ويرتقون في مدارج القرب منه سبحانه، ويتزعزع ضعاف الإيمان وينتبهون لما يغمرهم به سبحانه من النعم، وتتهيأ لهم فرص التوبة، وتتبدل سيئاتهم حسنات؛ وصنف ثالث يتمادى في غيه ويحق عليه القول، إلا أن تتداركه رحمة وسعت كل شيء. والابتلاء قد يكون فرديا، وقد يكون جماعيا، ومنه انحباس الغيث فيتهدد حياة الناس العطش والجوع، فسُنت لذلك صلاة الاستسقاء إعلانا للافتقار إلى رحمته سبحانه؛ صلاة استسقاء أثبت القرآن الكريم مشروعيتها بقوله جل جلاله: وإذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بعَصَاكَ الْحَجَرَ  فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (البقرة: 59)، وبينت السنة النبوية كيفيتها وشروطها وآدابها.

وإذا كان انحباس الغيث تمحيصا للعباد وتنبيها لطيفا على الجحود بالنعم وما تستوجب من استقامة شكرا واستدامة لها، يستوجب مسارعة للانكسار والتذلل بين يدي القهار الجبار التماسا لغيث ينشر الرحمة والحياة للعباد والبلاد، فإن الأمة ابتليت بحكم مكّن لبلايا زعزعت إيمانها، ومكنت للفواحش، وطبّعت مع الرذائل، وانقلبت الموازين، فصار الحياء والعفة تزمتا وتشددا، وأضحت الفاحشة انفتاحا وتحضرا، وسُخرت مقدرات الشعب ومؤسسات الدولة لتنشئة أجيال مسلوبة الشخصية، فوُئِدت كل فضيلة، فلا عجب يشتد على الأمة البلاء، بل وتضاعف البلاء أن حرمَ حكمُ الاستبداد الأمة من ممارسة دينها بكل عفوية، فاحتكر الدين ووظفه بانتقائية لشرعنة هيمنته وتحكمه في مفاصل حياة الناس، إلى درجة لا يُسمح معها في كثير من الأحيان بأداء صلاة الاستسقاء حتى تؤكد توقعاتُ الأحوال الجوية اقتراب تساقطات مطرية في تحايل مكشوف لاكتساب شرعية دينية تزين بشاعة فرعونية مستخفة بذكاء الشعب.

داء الأمة القروني حكم صادر الإرادة الشعبية، وبدد مقدراتها، وأهدر فرصا سانحة للتحرر والانعتاق من نير التبعية والذيلية؛ داءٌ يهدد الأمة في بقائها، يفرض اليوم -وأكثر من أي وقت مضى- هبة شعبية واعية تتصدى لنزيف نال من كرامتها أكثر من أسباب عيشها. يقول الحق سبحانه: ولولا دفاعُ اللهِ الناسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (البقرة:38). تدافعٌ جعله الله سنة سارية لتمحيص الإرادات فردية وجماعية إحقاقا للحق، وإزهاقا للباطل؛ تدافعٌ هو عنوان حياة الأمم ومعيارٌ لحياتها تصحيحا لمسار مسيرتها التاريخية. انحباس الغيث كان وسيبقى، قبل أن يكون ظاهرة طبيعية، إشارة ربانية للزيغ عن الجادة أو امتحانا للصبر، شُرعت لدفعه صلاة الاستسقاء بما هي افتقار وتذلل وإعلان لتوبة فردية وجماعية استمطارا لكرم الله تعالى ونعمه؛ توبة جماعية يُصطلح فيها مع الله الكريم الوهاب استقامة سلوكية وإقامة لدينه؛ توبة عُبر عنها في آداب صلاة الاستسقاء بقلب الثياب في إشارة لطيفة لتغيير الأحوال من غفلة إلى يقظة، ومن زيغ إلى هداية، ومن معصية إلى طاعة.

إن واقع الأمة وما بلغته في أكثر من مجال يقتضي صلواتِ استسقاءٍ قد يكون انحباس الغيث تحصيل حاصل لها. فاللهم اسقنا غيثا ماديا ومعنويا يحيي القلوب، ويوقظ الهمم، ويشحذ الإرادات؛ غيث استثنائي يؤهلنا لمعانقة الوعد الإلهي والبشارة النبوية بالنصر والتمكين والاستخلاف لعباده ودينه.