نظمت الهيئة العامة للعمل النسائي لجماعة العدل والإحسان، بمشاركة هيئات الجماعة المختلفة وثلة من الفضليات والفاضلين، صباح اليوم السبت 20 جمادى الأولى 1446/ 23 نونبر 2024، حفل تأبين للمشمولة برحمة الله تعالى حبيبة حمداوي، أمينة الهيئة قيد حياتها، تحت شعار قوله صلى الله عليه وسلم: “إن حسن العهد من الإيمان”.
عرف الحفل، الذي ظللته روح الفقيدة، فقرات متنوعة، تشاركت جميعها إحساس الفقد الأليم لأخت جمع الله لها من الصفات الإنسانية والقيادية حظا وافرا، أنبأت عنه الكلمات والعبرات بل وحتى الصمت المعبّر في كثير من الأحيان.
افتتح الحفل بقراءة آيات بينات من سورة الإسراء، وكلمة للمسيرة الأستاذة أمال الوكيلي، التي حيّت الحاضرات والحاضرين، وذكّرت بصفات الفقيدة وبعض عطاءاتها ومناقبها. ثم كان البدء بكلمة الهيئة ألقتها الأستاذة نادية بلغازي، الأمينة العامة الجديدة، أكدت فيها أن الراحلة لم تمر، رحمة الله عليها، من صفحة الوجود “كما يمر الكل الخامل الملتفت، بل وعت سر المرور وغاية العبور، وتشوفت، رغم علة الجسد، إلى مراتب القرب ودرجات السبق على نهج النساء الكاملات، فكانت امرأة استثنائية في زمن استثنائي، ما عقت ولا أبقت ولا فرطت في ثغر من ثغور الدعوة ولا المهنة ولا الأمومة الجامعة، متحققة من التوازن في الحياة بما لا يضيع الحقوق ولا يخل بالواجبات”.
وشددت على أن ألم الفقد فرصة سانحة تُغنم للنظر في الحال والمآل، والتفكر في النبإ العظيم، لتصحيح المسارات، وترتيب الأولويات، ولملمة الجهود لبناء صف متراص يفتل في وحدة أمتنا وصد عدونا، والكد في عمارة الأرض لعمارة السماء بحثا عن لقب عظيم وعنوان كريم في الملإ الأعلى. مستدعية قول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في المنهاج النبوي: “موقفان من الموت عند المؤمن: موقف تخشُّع وتدبر واستعداد، وهذا عام مطلوب من كل المسلمين. وموقف إيجابي هو موقف المتحفز للجهاد، المشتاق إلى لقاء الله، المستميت في سبيله عز وجل”. مؤكدة أن على هذا المعنى نتربى ونربي في جماعة العدل والإحسان، نذكر الموت استعدادا للآخرة … لكن بِعمل يَقرن السلوك الفردي الأنفسي بالفاعلية الجهادية.
ولم تخل كلمتها من ذكر بعض مناقب فقيدتنا؛ بتهمّمها الدائم بأحوال الأمة، وحضورها الوازن في قضايا الشأن العام، وطلبها للعلم النافع خدمة لدين الله تعالى، وتنشئتها البارة الرحيمة لأولادها ولفئات من أبناء الأمة وبناتها، مثالا للمرأة التي تجمع بين العلم والعمل، بين التفكير وحسن التدبير، بين توازن التربية وقوة الفاعلية المجتمعية، بين الرقة القلبية والحكمة العقلية، أنموذج عملي للتربية المنهاجية المتوازنة.
أعقب كلمتها المؤثرة عرض شريط “للا حبيبة سعي قاصد حثيث نحو خطى الكاملات”، حوى شهادات من جمعتهن بها رفقة طويلة في درب الصحبة والدعوة والجهاد؛ عائلتها وأخواتها في الصف، وأيضا زميلاتها السابقات في العمل وأثناء التداوي في المستشفى، وبسط قطوفا من سيرتها الذاتية خلال هذه المسارات المختلفة؛ حيث اتفقت الكلمات كلها على قدرة الفقيدة على القيام بأعمالها الدعوية والأسرية والمهنية كأحسن ما يكون في توازن وتناغم، في قوة وجدارة؛ في البيت وفي الدعوة وفي العمل وفي المستشفى.. فقد كانت رحمها الله تعالى كالغيمة ذهبت وتركت وراءها آثارا عظيمة.
ومما شددت عليه شهادات الشريط: كان المؤمنون والمؤمنات يجدون عندها الإكرام والرعاية والصدر الرحب، كانت تحرص على الانسجام بين مؤسستها وبين المؤسسات الأخرى في خلق رحيم ودون ذوبان. قاومت المرض بقوة وثبات وصبر ويقين بأن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وأنه في سبيل الله، ذلك أن من خصالها أنها لم تكن تشتكي أبدا من المرض، وكانت تمد المرضى معها بالعزيمة، وتنفخ فيهم روحا جديدة وتخرجهم من اليأس التام إلى الأمل، بل كانت تتخذ مرضها بابا من أبواب السلوك إلى الله. ورضيت رحمها الله تعالى بتأدية ضريبة واجب القيام بهذه الدعوة عندما تم سجن زوجها؛ فصبرت وصابرت وقادت السفينة مدعومة بإخوتها وأخواتها في الجماعة..
من جهتها عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح الأستاذة إيمان نعاينيعة، اعتبرت، في كلمة ألقتها في الحضور، أن الراحلة “ملك للحركة الإسلامية جميعا”، ورأت أن مثل هذا الحفل والتأبين يشعرها أن “من نعم الله علينا انخراطنا في سلك الدعوة إلى الله” فمن كان “حظه من هذا الانخراط فقط أن يكون له بعد مماته مثل هذا المقام ويذكر فيه بالخير والإحسان، لكان فضلا كبيرا من رحمة الله تعالى، ولكن لطفه أشمل وأعم”. واسترسلت قائلة: “وأنا أتأمل الشهادات في أخت هي رمز من رموز الدعوة في هذا البلد.. شهادات من مختلف المجالات تدل بالفعل أنها كانت امرأة دعوة حقيقية، امرأة رسالية”. مؤكدة أنه “حُق لهم أن يستشفوا هذه الصفات النبيلة والراقية ويحبونها هذا الحب الجم”.
وأضافت “قلت كيف لي وأنا التقيتها مرات قليلة لقاءات يغلب عليها طابع النقاش أن أقدم شهادتي فيها؟ فوجدت نفسي أتشارك مع الإخوة والأخوات إحساسهم، فلا تحتاج كثير مجالسة لها لتعرفها، فمما حباها الله به أنها تتسلل إلى قلبك بهدوء. نحسب أن أختنا ممن أحبهم الله فوضع لهم القبول في الأرض، وأن سريرتها كانت نقية فجعل الله سريرتها كظاهرها”، منوهة إلى أن الحركة الإسلامية داخل المغرب تخرّج نساء ورجالا حق للمغرب أن يفتخر بهم، خاتمة بالتشديد على أن الأخت حبيبة فقيدة الحركة الإسلامية والوطن بأكمله والأمة الإسلامية.
بدورها الأستاذة سامية الخمري، النائب بالمجلس الشعبي الوطني الجزائري، قالت -في كلمة مسجلة- إن ذاكرة القلب أقوى من ذاكرة العقل، إذ تمضي الرجال والنساء ويبقى الأثر، وأثرها (حبيبة حمداوي) يُشكر ويؤجر ويبقى بإذن الله، وأضافت “نحسبها كانت الأمينة على مشروع بناء نساء الغد.. الأمينة والحريصة على ربط العلاقات بين أخواتها في باقي ديار المسلمين.. الأمينة سند قضية القدس وفلسطين عبر الوسائط المتعددة”، لتسترسل في رثائها “أُكبِر في أختي حبيبة مواقف عديدة ومتعددة: منها موقفا لم يمح من ذاكرتي، عاد بي الزمن -حين سمعت بخبر ارتقائها- إلى لقاءنا الأخير الذي ترك بصمة مؤثرة في قلبي وقلب الحاضرات، حين كانت لنا دعوة كريمة منها ومن أخوات العدل والإحسان وكانت هي في المستشفى لتلقي العلاج، لكنها أصرت على استقبالنا والجلوس معنا، كانت جلسة طيبة ومؤثرة”. لتختم كلمتها بالقول: “من النساء من يصنعهن التاريخ ومنهن من يشاركن في صنع التاريخ، ونحسب أختنا حبيبة من هؤلاء، نحسب أن أختنا حبيبة أدت رسالتها بأمانة وعدل وإحسان. فرحمة الله عليك أختي حبيبة”.
وشاركت أيضا الناشطة الإسلامية في العمل الاجتماعي والمدني الأستاذة رشيدة البيوض بكلمة عند بعد، افتتحتها بقصة تعرّفها على الراحلة حبيبة حمداوي خلال تأبينيات الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله. وذكرت بأن “إيماننا يدفعنا في لحظات الفقد إلى تذكر الله في عليائه، ويعيد فينا مراجعة النفس للقائه ويحيي فينا المسارعة لمضاعفة الزاد لنلقاه وهو راض عنا”، مشيرة إلى أن “هذا ما كانت تقوم به حبيبتنا جدد الله عليها الرحمات، إذ كانت تتوجه مباشرة من المستشفى فتستقبلنا ببشاشة وفرح، وآلامها بادية على وجهها، فتحاور وتناقش وتنشد بكل هدوء، مستبشرة بغد أجمل”. وأضافت: “لقد غيب الموت حبيبتنا الغالية، لكنها ستظل في قلوبنا وستظل بأعمالها ومآثرها نبراسا. نعدك على أننا على العهد باقون وللحق ناصرون إلى أن نلحق بك”. ودعت في ختام كلمتها العلي القدير أن يشملها برحمته ويتقبلها في الصالحين.
وباسم أسرة أوراغ وأسرة زوجته، وفي لحظات مؤثرة، جاءت كلمة الأستاذ محمد أوراغ الذي انطلق من قول سيدنا جبريل عليه السلام لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه..”، موجها الشكر الجزيل للجماعة وللهيئة العامة للعمل النسائي على تنظيم هذا الحفل، وهو ما عدّه دليلا على معاني المحبة العميقة التي جمعتهن بللا حبيبة.. وعلى الوفاء لها.
ثم ليحكي للحاضرين القصة منذ البداية؛ في هذا المكان كان أول لقاء لحبيبة مع سيدي عبد السلام، وحدّثها الحديث الذي شافاها وجعلها تنطلق، فكان اللقاء وكان ما بعده.. ليواصل قائلا: حبيبة امرأة عظيمة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فرغم بساطتها وتواضعها التام ولكن الله تعالى أعطاها الشيء الكثير والحمد لله… امرأة لم تحمل في قلبها إلا المحبة، حتى من آذاها، لا ترد إلا بالتي هي أحسن، حتى قالت لي إحدى الزميلات وهي تعزيني: والله كلما قرأت كلام الله وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وقفت أمامي حبيبة.
وكشف أوراغ بعض التفاصيل، فقد كان أقرب إليها وأعرف بها: “كانت تنفق حتى من صحتها وراحتها. أعطت وقتها لله كله، ولم يمنعها المرض من أن تقوم بكل واجباتها وزيادة. وحتى في السفر والتعب عندما كنت أراجعها بعد حصص تصفية الدم كانت تقول: ننظر في الصباح كيف يكون الحال، فكانت عندما يطلع النهار تُظهر أنها في كامل قواها كي تسافر”. ومن أفعال الخير التي شهدنا عليها ومما بلغنا بعد موتها، يقول زوجها، كانت هناك الكثير من الأعمال التي تفاجأنا بها، منها من جاء يرد المال الكثير الذي أقرضته إياه، فقد كانت كثيرا ما تنشد لنا: هل لك سر عند الله، بينك أنت وبين الله.. وكانت تعمل بتوازن غريب، كنت أنهض في جوف الليل أجدها قد صلت وقرأت القرآن وتتهيأ للمطلوب منها مع أخواتها..
ليختم بأبيات للشاعر سامي محمود البارودي:
يا دَهْرُ فِيمَ فَجَعْتَنِي بِحَلِيلَةٍ
كَانَتْ خُلاصَةَ عُدَّتِي وَعَتَادِي
سر يا نسيم فبلغ القبر الذي
بحمى الإمام تحيتي وودادي
من أثنى عليك فإنما أثنى على فضل الله عليك، بهذه الكلمة الدّالة، افتتح فضيلة الأمين العام الأستاذ محمد عبادي كلمته، منوها إلى أن هذا “مجلس ذكر بامتياز”، ومؤكدا “نحن نتذاكر في فضل الله سبحانه وتعالى على أختنا وعلى من سبقنا إلى الدار الآخرة، وفضائله لا تعد ولا تحصى “وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ””. وزيادة في بيان هذا المعنى، أشار الأمين العام للجماعة إلى أن “الأولياء من خلق الله الذين يُذْكرون بذكره ويُذكر بذكرهم، فإذا ذكرناهم ذكرنا الله عز وجل، ذكرنا من كان سببا لنا في ذكر الله، من كان مرافقا لنا في سيرنا إلى الله، ذكرنا من أحسن إلينا فدلنا على الله، فنحن نذكر الله عندما نذكر أولياءه وأصفياءه”.
أختنا حبيبة، يقول فضيلته، كانت من هذا الصنف. سيدنا إبراهيم من دعائه المعروف، وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ولذا فجميع من جاء بعده يثني على سيدنا إبراهيم: اليهود والنصارى والمسلمين، والكل يحاول أن ينسبه إلى نفسه والله يرد: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا. ابتلاه الله سبحانه ونجح في هذا الابتلاء، فخلد الله ذكره واستجاب الله دعاءه وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، نسأل الله عز وجل أن يجعل إخواننا الذين سبقونا لسان صدق في المؤمنين والمؤمنات.
وفي نفس السياق، تساءل: كل إنسان يحب الخلود في الأرض، لكن كيف يكون هذا الخلود؟ ليجيب دالا: عن طريق ما يخلّفه وراءه؛ أولاده إن كانوا من الصالحين، فكل ما يقومون به من أعمال يكتبه الله عز وجل في صحيفة الوالدين، وبهذه الطريقة نضمن الخلود لآبائنا، فهم أحياء.. وواصل: علاقتنا بأختنا لم تبدأ هنا في الدنيا، بدأت في الآخرة، لما كنّا أرواحا عند الله سبحانه وتعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ. فالأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها في ذلك العهد عند الله، تعارف في هذه الدنيا، وما تناكر في ذلك الوقت، تناكر في هذه الحياة الدنيا.
وختم الأستاذ عبادي كلمته قائلا: نحمد الله أن اصطفانا لدين الإسلام وجاء بنا في هذا العصر لتغيير الواقع الفاسد وإعادة الأمور إلى نصابها.. الكل في غير وضعه، من يعيد ترتيبه من جديد؟ المعول عليه هو هذه الفئة من المؤمنين والمؤمنات لإعادة ترتيب البيت الإنساني على مستوياته المختلفة، بإذن الله وبشارة رسول الله أن المستقبل للإسلام، فهو يقين يجب أن نؤمن به: المستقبل لهذا الدين. رحم الله الإمام عبد السلام ياسين الذي ألّف كتابا سماه: الإسلام غدا. الإسلام آت لا محالة، والأمل معقود على حملة المشروع الإسلامي، ويجب أن نستعد للنصر بإعداد العدّة الإيمانية والتنظيمية والعلمية والتكنولوجية من أجل النهوض بهذه الأمة ومناهضة الكفر والقضاء على الظلم والفساد.