قال تعالى: فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِینَ * وَلَا صَدِیقٍ حَمِیمٍ [سورة الشعراء، 100-101].
وقال سبحانه: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ [غافر، 18].
الشافع: هو المتوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة. والشفيع من الأعداد ما كان زوجا، يقال: كان وترا فشفعته.
والشفاعة مصدر من فعل شفع، والشفع يأتي بمعنيين:
الأول: بمعنى الزوج، خلاف الوتر، يقال كان وترا فشفعته شفعا، أي صيرته زوجا.
الثاني: بمعنى الشفاعة في الخير والشر، أو الإعانة للمرء أو عليه.
والشفاعة نوعان: شفاعة في الدنيا، وشفاعة في الآخرة.
الشفاعة في الدنيا قال الله تعالى فيها: مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا ۖ وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا [النساء، 85].
فتبين لنا أن الشفاعة كسائر الأعمال فيه الخير والشر، فيحسن بالمرء أن يحرص كيف يستثمر شفاعته بين الناس وألا يصرفها في طرق الحرام.
وأما الشفاعة في الآخرة؛ فقد أجمع العلماء على ثبوتها، ودلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على ذلك.
شروط الشفاعة
أولا: الإسلام؛ فلا شفاعة لمشرك أو كافر، قال تعالى: مَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ حَمِيمٍۢ وَلَا شَفِيعٍۢ يُطَاعُ (غافر، 18).
ثانيا: رضا الله تعالى؛ قال تعالى: وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ [النجم، 26]. وقال سبحانه وتعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء، 28].
ثالثا: الإذن الإلهي، قال تعالى: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة، من الآية 255].
من خلال هذا نعلم أن الشفاعة عمل عظيم وخصلة من الخير كبيرة تؤكد روابط الأخوة والصداقة، فإذا كان الصديق يشفع ويتوسط لصديقه في أمور الخير في الدنيا، فإن هذه العلاقة تمتد إلى الآخرة ليكون المؤمنون شفعاء في بعضهم البعض، فإن وفاء الأخوة الإيمانية يأبى إلا أن يوفي الصديق لصديقه حقه، وهو الذي شاركه الصلاة والذكر ومجالس الإيمان ودروب الدعوة في كل مسالكها.
نعم ميز الله علاقة المؤمنين مع بعضهم البعض عن علاقة الكافرين، فهذه ممتدة موصولة غير مقطوعة في الدنيا والآخرة. قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف، 67].
عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي كرم الله وجهه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ قال:
“خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة فذكر خليله فقال: اللهم إن فلانا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، وينبئني أني ملاقيك، اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وترضى عنه كما رضيت عني. فيقال له: اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرا ولبكيت قليلا. قال ثم يموت الآخر، فتجتمع أرواحهما فيقال: ليثن أحدكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل.
وإذا مات أحد الكافرين وبشر بالنار ذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وتسخط عليه مثل ما سخطت علي، قال: فيموت الكافر الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه. فيقول كل واحد منهما لصاحبه: بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل” [رواه ابن أبي حاتم].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو أن رجلين تحابا في الله، أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، لجمع الله بينهما يوم القيامة يقول: هذا الذي أحببته في”.
قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية الكريمة:
“وإن الأخلاء يومئذ أي: يوم القيامة، المتخالين على الكفر والتكذيب ومعصية الله، {بعضهم لبعض عدو} لأن خلتهم ومحبتهم في الدنيا لغير الله فانقلبت يوم القيامة عداوة. {إلا المتقين} للشرك والمعاصي، فإن محبتهم تدوم وتتصل، بدوام من كانت المحبة لأجله”.
أما علاقة غير المومنين فهي علاقة دنيوية موقوتة مبنية على المصالح وتحقيق المكاسب، مكاسب متعددة تجمع بين متع الدنيا وشهواتها وبين تحقيق المكاسب والأغراض الشخصية، فهي علاقة لا ترقى أن تنفع صاحبها إيمانيا ولا روحيا، ولا تسمو به مع صاحبه إلى بر اليقين والتعاون على البر والتقوى.
علاقة مظروفة موقوتة محجوبة عن المعالي، فلا ضير أن يتنكر كل منهما من صاحبه، بل أكثر من ذلك أن يتبرأ منه وأن يعاديه.
أي إن صحبة لا يكون رابطها الله تعالى ومقصدها التعاون على طاعة الله تعالى تكون علاقة مبتورة ليس فيها صلة ولا محبة ولا رحمة، حتى ولو كانت من رحم ونسب، فهنا ترقى الصحبة الإيمانية عن الارتباط الطيني.
المؤمنون يستغفرون لبعضهم البعض، ويدعون مع بعضهم البعض، ويشفعون لبعضهم البعض، وهذا في الدنيا والآخرة.
الصديق هو من صدقك الود، وهو الصاحب الصادق الود، وقد يستعمل للواحد والجمع والمؤنث تقول: هو صديق، وهم صديق، وهي صديق، وهن صديق.
والحميم هو القريب ومن يبالغ في الصداقة ويحنو عليك. وعلاقة حميمة: أي متينة وقوية.
ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى عن الحسن البصري رضي الله عنه: “ما ينتفع به المومن من صديق مومن يكون له شفيعا يوم القيامة فيقول: إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ولم يجدوا أصحابهم الذين كانوا معهم على خير في الدنيا فإنهم يسألون عنهم رب العزة ويقولون: يا رب لنا إخوان كانوا يصلون معنا ويصومون معنا لم نرهم… فيقول الله عز وجل: “اذهبوا للنار وأخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان”.
عن الإمام الحسن البصري رضي الله عنه قال: “استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة”.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب: “يا علي استكثر من المعارف من المؤمنين، فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة”. فمضى علي فأقام حينا لا يلقى أحداً إلا اتخذه للآخرة. ثم جاء بعد ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما فعلت فيما أمرتك به؟ قال: قد فعلت يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “اذهب فابل أخبارهم” فذهب ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو منكس رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبتسم: “ما أحسب يا علي ثبت معك إلا أبناء الآخرة”. فقال له علي: لا والذي بعثك بالحق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “الأخلاء بعضهم لبعض عدو إلا المتقين”.
استكثار المعارف من المؤمنين فيه خير وصلاح وفلاح، ويرجع خيره في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فبتحقيق المنافع والتعاون على البر والتقوى، والتعاون على تبليغ دعوة الله تعالى والنصح للمومنيين، وكذلك التعاون على التربية الإيمانية الإحسانية.
وهاته الأخوة تتقوى بقوة الإيمان والمحبة فيما بينهم، والتعاون على تبليغ دعوة الله تعالى للناس أجمعين.
أما في الآخرة فهي خير وبركة وشفاعة ونصرة.
فالمؤمن الذي صاحبته في الدنيا على طاعة الله لن ينسى أخوتك له في الصلاة والذكر والدعوة ومواقف النصرة والجهاد في الآخرة. بينما يتبرأ كل دعي إمعي من صاحبه في الآخرة.
قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة، 166].
يعلق الإمام ابن الجوزي رحمه الله على حديث الحسن البصري قائلا لتلامذته: “إن لم تجدوني في الجنة بينكم فاسألوا عني فقولوا: يا ربنا عبدك فلان كان يذكرنا بك، ثم بكى رحمه الله تعالى”.
إن أخوة الإيمان لا تحبسها برازخ الموت، وهي ممتدة متصلة إلى يوم الدين، فأصحاب في الدنيا أصحاب في الآخرة، وكم من صديق رؤي في المنام لصديقه إما مخبرا له عن حاله، أو ناصحا له، أو طالبا منه الدعاء أو شاكرا له.
يروى أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى رؤي في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بصلاة صليتها على النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الرسالة وهي: “اللهم صل على محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون”.
جاء في سنن ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا خلَّصَ اللَّهُ المؤمنينَ منَ النَّارِ وأمنوا فما مجادلةُ أحدِكم لصاحبِه في الحقِّ يَكونُ لَه في الدُّنيا أشدَّ مجادلةً منَ المؤمنينَ لربِّهم في إخوانِهمُ الَّذينَ أدخلوا النَّارَ، قالَ: يقولونَ ربَّنا إخوانُنا كانوا يصلُّونَ معنا ويصومونَ معنا ويحجُّونَ معنا فأدخلتَهمُ النَّارَ، فيقولُ: اذهبوا فأخرجوا من عرفتُم منهم فيأتونَهم فيعرفونَهم بصورِهم، لا تأكلُ النَّارُ صورَهم، فمنهم من أخذتهُ النَّارُ إلى أنصافِ ساقيهِ، ومنهم من أخذتهُ إلى كعبيهِ، فيخرجونَهم فيقولونَ: ربَّنا أخرجنا من قد أمرتَنا، ثمَّ يقولُ: أخرجوا من كانَ في قلبِه وزنُ دينارٍ منَ الإيمانِ ثمَّ من كانَ في قلبِه وزنُ نصفِ دينارٍ ثمَّ من كانَ في قلبِه مثقالُ حبَّةٍ من خردلٍ. قالَ أبو سعيدٍ: فمن لم يصدِّق هذا فليقرأ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرًا عَظِيمًا“ [النساء، 40]. (هذا الحديث أخرجه البخاري بمعناه في حديث طويل وأخرجه مسلم وأحمد والنسائي في كتاب الإيمان).
وهذا الحديث يتجلى فيه:
– عدل الله وحكمته في الحساب، فحتى الصالح إن كثرت زلاته وسقطاته ليس مستثنى من العذاب.
لا أحد في مأمن من نفسه حتى يستيقن، فهنا إذا خلص الله المؤمنين وأمنوا، بعد ذلك يقومون بعملية الشفاعة.
– روح الصحبة الإيمانية لا تنقطع يوم القيامة، ورابطة الصحبة الإيمانية أقوى من رابطة النسب حيث يتبرأ بعضهم من بعض قال تعالى: فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، بينما أهل الصحبة الإيمانية يجادلون ربهم في أصحابهم ويناشدونه سبحانه.
– الصحبة الإيمانية ليست معصومة، وليست تجمعا ملائكيا لا يعصون الله ما أمرهم، ولكنها صحبة أخوة ومحبة وسلوك وتربية، ومن يخل بأمر يجني فيه على نفسه، وهناك معوقات سلوكية واختلالات لا تجبرها حسن النية ولا صدق الهمة.
– الانجماع على الله تعالى في الذكر والدعاء والصلاة وباقي العبادات وكذلك المعاملات وحمل هم الأمة والدعوة، أمور لا تفنى ولا تنسى وتلحق صاحبها بعد الموت لتخلصه مما هو فيه، وتكون عاملا على نجاته يوم القيامة، فلولاها ما استحق شفاعة الأصحاب.
– لا تأكل النار من صورهم كرامة لهم وتقديرا، فيعرفهم أصحابهم من صورهم وسيمات وجوههم. ولا سيما أثر السجود.
قال صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين: “حرم الله تعالى على النار أن تأكل أثر السجود”.
هذا العذاب يكون على حسب تلك المعاصي المرتكبة التي لم يتوبوا منها ولم تغتفر وتكفر بالمكفرات، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه. بخلاف الكفرة فإن النار تأخذهم من جميع الجهات والعياذ بالله تعالى.
زاد البخاري في روايته: “فيشفع النبيون والملائكة والمومنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له ماء الحياة..”.
وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم“.
عن زكرياء بن زائدة عن عطية عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن من أمتي من يشفع للفئام من الناس، ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة” [أخرجه الترمذي].
قال الإمام السفاريني: “الحاصل أنه يجب أن يعتقد أن غير النبي صلى الله عليه وسلم من سائر الرسل والأنبياء والملائكة والصحابة والشهداء والصديقين والأولياء على اختلاف مراتبهم ومقاماتهم عند ربهم يشفعون، وبقدر جاههم ووجاهتهم يشفعون لثبوت الأخبار بذلك وتواتر الآثار على ذلك، وهو أمر جائز غير مستحيل، فيجب تصديقه والقول بموجبه، لثبوت الدليل”.
هذا ونسأل الله تعالى أن يجعلنا في صحبة المؤمنين وألا يحرمنا من بركة دعواتهم وأن يكونوا شفعاء لنا يوم القيامة إن قصر بنا العمل وتباطأت بنا الطريق، فالصاحب في الدنيا ينفع، وفي الآخرة يشفع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.