ما كان الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله بدعا من الدعاة المجددين والمفكرين الأفذاذ وأصحاب المشاريع التغييرية الكبرى، فقد كانت عنايته بالشباب عناية خاصة جدا دعوة وتربية واحتضانا وتوجيها وتعليما، مقتديا في ذلك بسيرة سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم الذي رفع مقام الشباب وأعلى شعار التشبيب وأوصى بهم خيرا، حيث قال عليه الصلاة والسلام: “أوصيكم بالشباب خيرا، فإنهم أرق أفئدة، إن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فحالفني الشباب، وخالفني الشيوخ” ثم تلا قول الله تعالى: فطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم 1.
والحديث عن هذه العناية والرعاية وذاك الاهتبال والاحتفال يطول تتبعه في حياته رحمه الله تعالى، في كتاباته وأشرطته ومجالسه ووصاياه، فقد راهن رحمه الله على الشباب ووثق به ورعى مبادراته، ثم حمله مسؤولية الجماعة والدعوة والأمة، وجعلها أمانة في أعناقه لا يفرق في ذلك بين ذكر وأنثى، فهما في العطاء وطلب الكمال سواء وشقائق، لذلك سنقتصر على بعض من الأوجه التي برز فيها ذلك الاهتمام بكلياته ومعاقده:
رهان مصيري
اعتبر الإمام رحمه الله الشباب ثروة من أعظم الثروات وكنزا من أنفس الكنوز، لذا كان رهانه عليهم كبيرا في حمل رسالة الإسلام إلى العالمين، فهم خير كله، وهم الرهان الرابح، إن وجدوا من الدعاة الأتقياء الربانيين “من يسعى جهده لتستعيد -فيه- التربية الإيمانية الإحسانية العلمية الجهادية شتاتها على امتداد القرون الفتنوية” 2، فالشباب كما يرى رحمه الله “فالشباب الإسلامي كله خير”، وهو أطوع لكلمة الصدق وتوجيه الربانية وهو مرن مطواع للحق 3، والواجب أن تستنقذه من يد المثقفين المغربين المعادين للدين، قبل أن يشيخ في الإلحاد “حتى يشْرِبَ في قلبهِ الكفْرَ، وحصل في شبكة العنكبوت الثقافية، وامتصت منه الفلسفة والجمالية والفن والإباحية رحيق الفتوة وغَيرة الرجولة وماء الحياء وروح الإسلام” 4، لهذا كان يرى أنهم جند رهان ينبغي تسليحه وتحصينه بالإيمان والعلم، ويقول موصيا في رسالته للطلبة: “وصيتي الأخيرة لكل الطلبة الإسلاميين أن لا يألوا جهدا في الدعوة، وأن يقتحموا عقبات الدراسة بكل همة وإقبال. فإن جند الله لا بد لهم من سلاح ماض، وإن سلاح العلم هو أمضى سلاح بعد سلاح الإيمان 5.
تعزيز الثقة بالثقة
من أكبر مشاكل الأمم المتخلفة تخوفها وقلة ثقتها في شبابها، فهي تشكك في قراراتهم وقدراتهم وتصرفاتهم، وهذا التخوف يدفعها إلى فرض الوصاية عليهم، وعدم تشجيعهم على المبادرة وتحمل المسؤولية واتخاذ القرارات وعدم منحهم الفرصة والحق في الخطأ للتعلم والتصويب والتجريب، ولهذا كان الشباب في مراكز المسؤولية والقرار قلة قليلين، وإن وجدوا فهم عاجزون أو تابعون، بخلاف الغرب الذين نجد فيه نسب القيادة والزعامة والمسؤولية في الشباب كثيرة، فنرى الإمام رحمه الله وهو الداعية الرفيق والمربي الشفيق والبيداغوجي المتمكن، وثق في الشباب ومنحهم ثقته وأشركهم في المسؤولية واتخاد القرار، وائتمنهم على بشارة رسول الله للأمة أي الخلافة الثانية على منهاج النبوة “جاء الله تعالت حكمته بهذا الشباب من جهات شتى ومن حروث شتى على زرع الله. فهل تستطيع هذه الأجيال الشابة أن تحمل عبء التهييء للخلافة الثانية؟” 6، نعم تستطيع ولأنه رحمه الله يراهن عليهم، كان السؤال من باب الحظ والتحريض، سرعان ما يأتي الجواب عليه “في الشباب خير كثير، نرجو من كرم الملك الوهاب سبحانه أن يقيض في الجيل الحاضر طليعة تتلقى الربانية من أهل الربانية، وتتلقى العلم من أهل العلم، والحكمة من أهل الحكمة، والهمة الجهادية من أهل الهمة، حتى تكون رَسول الأجيال النيرة من سلفنا الصالح إلى أجيال القومة والوحدة والخلافة على منهاج النبوة” 7.
تشجيع المبادرة
من أكبر ما يعانيه الشباب عدم التشجيع وقتل روح المبادرة في الشباب بل تبكيتهم وتحبيطهم وتحنيطهم وقتل الإحساس بالإبداع والمبادرة والمغامرة لديهم، فينشأ منزوع الثقة في قدراته شاكا في قراراته، وهذا أمر مرده إلى ظروف التنشئة الاجتماعية والتربية التي تلقاها الشباب في مجتمعاتنا، وهي خاصة بحسب اختيار الأسر، وعامة مرتبطة بطبيعة اختيار الدول والنموذج الذي تتبناه وتسوق له. لذا “ينبغي النظر في برامج التعليم للسنوات التسع الأولى من حياة الأطفال لتندرج كلها في كنف القرآن، وتستشهد به، وتستند إليه. بدل هذه المحفوظات المتصابية التي تحدث الطفل عن سعاد كيف احتضنت دميتها، وعن سعد كيف لعب مع قطته” 8.
لهذا كان يرحمه الله يهتبل بكل مبادرة مهما بدت صغيرة وبكل رأي مهما كان سن صاحبه حدثا، فيربيه كما يربي أحدنا فلوه، ويرشده ويحفز ويحرض ويرعى حتى تشتد الزرعة وتقوى، فإذا هي إلى قوة ورجولة. والحكايات في ذلك لا تعد ولا تحصى، ومع سعة صدره ورحابة فكره فقد كان يرى أن الشباب ينبغي أن يشجع حتى يكون هو الحل لمشاكل الشباب، ويعتبر ذلك مسؤولية “مسؤوليتنا أن يصبح الشباب دواء لمشكلة الشباب. مسؤوليتنا أن نجند الشباب لمعركة العلم، وأن نسترجع أدمغتنا من بلاد الجاهلية، ونحبك شبكة علمية نجمع فيها الخبرات المتاحة، لنبدأ عملية تأثيل التكنولوجيا في بلادنا، وتوطينها، وتغذيتها، وإشاعتها، وتصنيعها”، وقد كان ابن شهاب الزهري يقول لتلاميذه: «لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المفصل، دعا الفتيان، واستشارهم يبتغي حدة عقولهم”.
تحميل المسؤولية
“معنى المسؤولية” حين يلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفهمها العقول وتعيها القلوب التي تقرأ القرآن هي “الوقوف بين يدي الله عز وجل غدا يوم القيامة”، فليست هي كما هو دارج: الشعور بالتبعة، والخوف من المحاسبة، والبحث عن راحة الضمير، أو الاعتزاز بإظهار الكفاءة على حمل الأعباء وإنجاز المهمات، كما يقول الإمام رحمه الله تعالى 9.
فالمسؤولية بكل هذه المعاني هي مدرسة، يراكم من خلالها الإنسان التجارب والخبرات، فتسرع نضج قدراته العقلية، وتصهر شخصيته وتصقل مواهبه وأخلاقه، وتبرز مكامن القوة والضعف فيها، وبقدر ما تكون المسؤولية كبيرة يكون النضج أكبر، وعلامات النجابة تظهر أبكر، لهذا رحمه الله رسم للشباب أفقا استراتيجيا وأخرجه من ضيق أنانيته النفسية والاجتماعية، وحمله مسؤولية الأمة والدعوة والإنسانية، مسؤولية عابرة للأزمان وللإمكان وللإنسان، تجمع الدنيا والآخرة، وتجمع مطلبي العدل والإحسان، وتبني الإنسان والعمران.
لقد أكرم الله تعالى الإمام رحمة الله عليه بأن جمع حوله خيرة الشباب فجعل أفئدتهم تهوي إليه، فوقروا في قلبه وملك قلوبهم، احتضانا وإشراكا واستشارة وتفويضا وتصويبا، فعاشوا وعملوا لما علموا وتعلموا منه ويبقى مشعله ومشعل العدل والإحسان بعده من جيل إلى جيل؛ من شباب حول الإمام إلى شباب يحب الإمام بإذن الكريم الحكيم العلام.
[2] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 260.
[3] نفسه.
[4] عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ص 520.
[5] عبد السلام ياسين، رسالة إلى الطالب والطالبة، ص 42..
[6] سنة الله، ص 261.
[7] نفسه، ص 260.
[8] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص 156.
[9] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 352.