قال الله تعالى: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [سورة الحج، الآية 41].
استوقفتني هذه الآية الكريمة لما لها من سحر وقوة خطاب، فتأملت في معانيها وأغرقت في مغاويرها، فبقدر ما استبشرت بموعود الله تعالى للمومنين بالنصر والتمكين، بقدر ما أهابني اشتراط ووجوب صفات تؤهلهم لهذا التمكين، إنها ثلاثة واجبات لمن يورثهم الله الأرض ويستخلفهم فيها، هي مهام جسام كالجبال تنتظرنا في مستقبل الإسلام. فهؤلاء الموعودون بالنصر هم الذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الدين؛ كل الدين، بدءا بإقامة وأداء الصلاة على أكمل وجه، ثم الزكاة وكل ما يرتبط بقسمة الأرزاق، إلى الأمر بالمعروف؛ كل المعروف، والنهي عن المنكر؛ كل المنكر.
الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ، أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ؛ جواب الشرط، وهو وجوابه صلة الموصول. فهي علامة من ينصره الله، وبها يعرف، ومن ادعى أنه ينصر الله وينصر دينه، ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب.
كلما أقرأ هذه الآية الكريمة تمتلكني أحاسيس مزدوجة، بين الفرح والسعادة بموعود الله تعالى، والخوف والرهبة مما ينتظر جند الله المرشح لإقامة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، فأقف متأملا في الواجبات الثلاثة التي حثت عليها الآية. وعندما تمعن في هذه الواجبات، تجدها شاملة لغيرها مما يوجبه الإسلام، فإقامة الصلاة في الأمة دليل على الإيمان والطاعة، وإيتاء الزكاة دليل على مجتمع العمران الأخوي والعدالة الاجتماعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على جسم حي للأمة .
واجب إقامة الصَّلَاةَ: الصلاة فرض من رب العالمين، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عماد الدين، وهي باب فلاح المؤمن وصلاح المجتمع، فإذا ضاعت ضاع الدين كله، فلا يقوم الدين إلا بها، والحفاظ عليها دليل على صحة وسلامه العقيدة وصدق ما بالقلب، وهي ركن إظهار العبودية لله سبحانه وتعالى، وهي صلة بين العبد وربه، وفيها تحقيق الأمن والسكينة، والفوز والفلاح. والصلاة هي باب كل أعمال الخير والصلاح، وإقامتها شرط أساسي في بناء مجتمع العمران الأخوي المنشود.
واجب إيتاء الزَّكَاةَ: فرضها الله عز وجل حدا أدنى من التضامن، وشدد في فـرضيته، وجعل أداءها ركنا من أركان الإسلام، أوعد من ضيعه بخزي الآخرة، وأسند إلى القائمين بأمر الأمة واجب مراقبته وأخذه واقتضائه والمعاقبة الشديدة لمن أضاعه أو منعه أو جحده.
فُرضت الزكاة على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ومن واجبات الوارثين المستخلفين القائمين بالأمر إجبار الأغنياء على ذلك إن لم تقم الزكوات بالمحتاجين، فيُقام لهم بالقوت واللبس والمسكن، كحد أدنى للعيش الكريم. روي عن الإمام علي كرم الله وجهه أنه قال: “إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم. فإن جاعوا أو عُروا وجهدوا فبمنع الأغنياء. وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه”.
فإلى جانب وظيفة الزكاة الضمانية التوزيعية، حيث يصيب منها الفقير والمسكين وسائر الأصناف الثمانية المذكورة المفصلة في القرآن، ينبغي أن تقوم الزكاة بوظيفة التوفير والتجميع والاستثمار والتنمية. فقد شرع سبحانه في كل مال زكاة، تفتت الثروة وتوزع الخير.
على الوارثين المستخلفين في الأرض إذن، مهمة التوزيع العادل للثروة وأن لا يكتفوا بأخلاقيات الصدقة والبر، بل يجب أن يصبح التحريض الإلهي على تحرير الإنسان وإطعامه، برنامجا وعنصرا أساسيا في التربية، وهدفا مباشرا لدولة الإسلام المستقبلية. هنا يأتي التحدي الكبير أن نحكم بين الناس إذا حكمنـا بالعدل، ولن نكتفي بالعدل بين المتقاضين في النوازل الشخصية، بل إن نازلة سوء قسمة الأرزاق بين العباد هي محط اهتمام الإسلاميين يوم يصبحون في الحكم.
نعم دين الله لا يقر أن يبيت جارك جائعا وتبيت شبعانا، ويأمر دين الله ببذل الفضول، وينص كتاب الله على أن في أموال المؤمنين حقا للسائل والمحروم، لكن الحالم المتجرد، أو المتبلد الفاسق، يزيح هذا الدين الآمر بالعدل وتسوية القسمة إلى هوامش الفقه الفردي الذي يهم القاضي حين يفصل بين الخصوم، ويهم الواعظ حين يستحث أهل الرخاء على الصدقة، ويهم الكاتب حين يمجد الإسلام في علياء مثاليته. فالجائع لا أذن له ولا سمع ولا استعداد ليسمع نداء مهما كان سامي المصدر عالي المطمح قـبلا من نداء يحدثه عما يقيم أوَده.
واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا يشمل كل معروف وكل منكر شرعا وعقلا، من حقوق الله وحقوق الآدميين. إن واجب جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يختلف معناه يوم تقوم الدولة الإسلامية عن معناه العامي الذي ألفناه، وأعطته قرون فساد الحكم في ضمير المسلمين ركودا من ركودها، وخمولا من خمولها، وتقلصا إلى نشاط هامشي، متروكة فيه المبادرة لبعض ذوي الغيرة، في بعض المواقف، في بعض الأحيان.
حقيقة التمكين في الأرض أن تكون الدولة والسلطان بيد رجال الدعوة الساهرين على الدين، القائمين بالقسط. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالة التمكين تصرف متكامل شامل بيدي القرآن والسلطان، بالترغيب والترهيب، بالتطوع والطاعة.
ختاما؛ ونحن نقف مع هذه الآية الجامعة، نفهم أن تغيير الأوضاع يكلف تعبا ومجهودا دائبا، فلا يمكن أن يجيء الاستخلاف اعتباطا وبلا عمل، وإنما يجيء نتيجة العمل الشاق والجهد المستمر. ولقد وعد الله جل شأنه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض، فلم يجعل الإيمان وحده هو الذي يرشح المؤمنين للاستخلاف، وإنما وعد المؤمنين بالاستخلاف إذا توفرت فيهم الشروط المذكورة أعلاه، وكل ما يصلح شأنهم في الدنيا من الإعداد والاستعداد والتفوق، وما يصلح شأنهم في الآخرة من الطاعة واجتناب المعاصي.
كما أن هذه الآية، تفتح أعيننا على ما سيرثه الإسلاميون غداة وصولهم إلى الحكم، والعيون شاخصة إلى عدل الإسلام عاطشة، ونداء الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان هاجس أمة تعسة بحكـامها. ويبقى الأمل في الله أكبر، فإن كان مع جند الله الطليعة سر تربية الإيمان، وكانوا قد هاجروا تلك الهجرة المعنوية في النيات والجهاد، وأشرفت أرواحهم على مقامات الإحسان، فبوسعهم إقامة القسط والعدل. وسنة الله جل شأنه قضت أن يستخلف ويمكن لمن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وفعلوا الخيرات واجتبوا السيئات، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.