“ذلك الكتاب”، بالإشارة للبعيد وإن كان قريبا حسا منا، تحدث الله تعالى عن وحيه المنزل منجما وبلسان عربي مبين على نبيه الخاتم صلى الله عليه وسلم، للدلالة على علو منزلته ومقامه الأسنى ومكانته العالية التي تجعل منه كتابا معجزا لا تنقضي عجائبه.
لا تملك، وأنت تتلو آيَهُ، إلا أن تقف مشدوها أمام بلاغة البيان وقوة الجرس ودقة النظم وعمق المعنى، كيف لا وهو كلام الله الذي نزل من فوق سبع سماوات على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهيمنا على ما سواه من الرسالات وناسخا لها، ليهدي العالمين إلى طريق الله المستقيم.
والعجب كل العجب في نزوله منجما واصفا الوقائع المستجدة، ومجيبا عن التساؤلات المطروحة، ومواكبا لما استجد من الأحداث في واقع شاع فيه الشرك والتظالم، وكان لابد فيه من حركة تدافعية تغير الوضع الإنساني إلى الأفضل على كل المستويات.
ما كان الإنقاذ هذه المرة بفلتة مروئية عربية عابرة، ولا بحركة من قبيلة فلان أو علان التي اعتادت الكرم وإغاثة اللهفان، قد تعالج إشكالا واحدا وتدع مطبات على طريق الناس، يتهاوون فيها كل لحظة في مستنقعات العبودية الصماء أو الفسق الماجن أو الحروب الطاحنة، كان النداء ربانيا داعيا ابتداء للقراءة حتى تتأسس دعائم الأمة على علم واسع مبتدؤه ومنتهاه العلم بالله، ثم على إقامة عقيدة التوحيد وترك الموبقات بالوقوف على جادة الاستقامة وتحكيم شرع الله المنظم لحياة الإنسان.
وكان لا بد للدولة الفتية من بيئة آمنة محتضنة تترعرع فيها الدعوة وتنمو، وينتشر من خلالها الخير المقصودة به البشرية إلى آخر الدهر، فكان البحث مضنيا بالتلقي للقبائل في موسم الحج وغنم كل لحظات اللقاء للتبشير بأنوار الدين الجديد الخاتم، وكان أن فتح الله ببيعتي العقبة الأولى والثانية اللتين وطأتا للموكب المشهود والرحلة الميمونة الطيبة المباركة.
تأسرني هذه الآية، وكل كلام الله آسر؛ يجذب المشاعر والأحاسيس ويجعل الوجدان يطرب لسماعه، يسحرني ذلك الوصف الدقيق لتلك الصحبة المباركة بين حِبين عظيمين، توافقا على النصرة كما توافقا على الهجرة، كما يسحرني الوعد المجذوذ بالنصر الموعود، كما يسحرني اليقين المستوطن جنبات النفس المطمئنة مهما كثر البأس لم يذب إليها اليأس… يقول جل وعلا في سورة التوبة: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 1.
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا، ورؤيا النبيئين عليهم السلام وحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قد أريت دار هجرتكم، رأيت سبخة 2 ذات نخل بين لابتين 3“، فهاجر من هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة، وتجهز أبو بكر مهاجرا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي، قال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر 4 أربعة أشهر” 5.
استعداد للهجرة وتأمل للظفر بالصحبة المباركة، مهما كثرت المخاطر وتعددت العقبات، رجاء الإسهام في صناعة النصر الموعود.
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ تأكيد لأمر محقق، فالنصر أولا وآخرا من الله، وما سعي المؤمن إلا لتلمس أسبابه التي متى صح فيها القصد وصلح العزم تنزل مدرارا على عباده الصادقين، ليس فقط في بداية الدعوة ومهدها الأول، بل في كل زمان وفي كل مكان.
إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، تدافع بين رواد الحق وزبانية الباطل معركة وجود أو عدم، قد تتعدد صور المكر والحرب والخديعة والأذى والتنكيل، لكن النتيجة الحاسمة في معارك التحرير من سلطان الهوى والاستبداد والتغول، إنما لأهل الإيمان، توقّعها أياديهم الطاهرة ببركة قلوبهم الموصولة بالله، المحبة لأهل الله، فتكون كلمة الله العليا وكلمة الباطل السفلى، ويكون التأييد الإلهي لجنده، قال الإمام البغوي في تفسيره للآية: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته، وقيل: “ألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا” 6.
نصر لا يخضع لموازين القلة ولا الكثرة، فقد تحقق للصاحبين الأوحدين وهما في الغار، فكيف لا يتحقق وقد كثر العدد وزاد المدد وكثر الأنصار وتعدد الجنود، تذكير كان لا بد منه استدعاه السياق الشريف وهو يقرع آذان المتخلفين عن الجهاد المتقاعسين عن النصرة الخالدين إلى الدعة والراحة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ 38 إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 39 إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّه 7.
أما اليقين فيما عند الله تعالى وفي عطائه الذي لا انقطاع له، فسمة الطائفة من أهل المحجة اللاحبة والسلوك القويم، “لا تحزن إن الله معنا”، توجيه لدفع الحزن الذي لم يكن عن جبانة وخوف بل عن حرص وإشفاق؛ يؤكده قول الصديق رضي الله عنه: “إن أُقتل فأنا رجل واحد وإن قتلت هلكت الأمة” 8، كما يؤكده مشيه تارة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارة خلفه، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: “مالك يا أبا بكر؟ قال: أذكر الطلب 9 فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد 10 فأمشي بين يديك” 11 خوف على موت دعوة إن هلك صاحبها.
كما يؤكده ثالثا حرصه على سلامة الغار قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إليه: “فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار، فدخل فاستبرأه ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل، فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر” 12.
إن الله معنا: استبشار من رحم الضيق والعناء، من قلب الغار داخل صحراء قاحلة محاطة بكل أسباب الضياع، كيف يتسلل الحزن إلى قلب تعلق بالله، وأيقن في نصره، ومن كان الله معه كيف يخشى الضيعة والهوان، كيف يخشى تربص قريش المقتفية للأثر الراغبة في الثأر لآلهتها المزعومة وأربابها المصنوعة من حجر أو تمر ظلما وسفها. في حديث أبي بكر قال: “كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما” 13.
جنب الله ملاذ الحيارى وبابه موقف للمضطهدين، وعدله مطلب كل مظلوم، حتى إذا ما تنزل النصر بعد استجماع أسبابه، أعلى الله لواءه ونصر جنده وأكرم حزبه الغالبين، مهما اشتدت الصعاب وذاق المؤمنون لأواء الشدة والضيق.
كان ثاني اثنين على لسان العرب أي أحد الاثنين، رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تعاهدت العرب على قتله وتفريق دمه على القبائل من خلال انتداب رجل من كل قبيلة حتى لا يطالب أهله عليه الصلاة والسلام بالقَوَد 14، ومعه صاحبه أبو بكر المحبب المقرب الصديق المصدق.
صاحبه في رحلة الدعوة إلى الله تعالى وإقامة دولة الإسلام، كما صحبه في الغار ثلاثا بعد أن نكل به قومه، فاستحق الثناء من الله تعالى وقد عده صاحبا، كما استحق الثناء من رسوله صلى الله عليه وسلم حينما بشر بالصحبة الموصولة بالآخرة: عن جميع بن عمير قال: أتيت ابن عمر رضي الله عنهما فسمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: “أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض” 15، كما استحق المحمدة من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال عليه الصلاة والسلام: “ما لأحد عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن صاحبكم خليل الله” 16.
تلك كانت رحلة ميمونة مع آية عظيمة سحرتني، منها يتعلم المؤمن أن النصر قادم مهما تنوعت الخطوب، وأن بالصبر واليقين يتحقق النصر المبين، وأن الرابطة القلبية أساس نجاح الدعوة وبناء الجماعة المؤمنة، وأن الصحبة في الله، المؤدية إلى الجماعة في الله هي لب الحركة ومبدؤها ومنتهاها، وأن بالقائد المتبصر ومن يحيطون به من الصادقين تبنى الدولة وتنجح الدعوة…
[2] تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر.
[3] مفردها لابة، وهي الحرة؛ أرض بها حجارة سود.
[4] الورق الساقط من الشجر ويستعمل علفا للدواب لتتقوى به الراحلتين على السفر.
[5] أخرجه الإمام البخاري، رقم 2297.
[6] الإمام البغوي، معالم التنزيل، 4 /53.
[7] سورة التوبة، الآيتان 38، 39.
[8] السهيلي: الروض الأنف، 4/135.
[9] من يسيرون خلفه يطلبون دمه.
[10] من يترصدون له في الطريق لقتله.
[11] الإمام البيهقي، السنن، 2/476.
[12] نفس المرجع.
[13] أخرجه الإمام البخاري، رقم 4663، والإمام مسلم، رقم 2381.
[14] القصاص.
[15] أحرجه الإمام الترمذي في السنن، رقم 3670.
[16] صحيح الجامع، رقم 5661.