سجن دكار.. مخزن يستنزف الوطن وإرادة تقاوم التسلط

Cover Image for سجن دكار.. مخزن يستنزف الوطن وإرادة تقاوم التسلط
نشر بتاريخ

1. اعتقال دكار.. صوت المواطن الغيور على بلدته ووطنه وأمته

لم يكن مصطفى يتخيل أن مجرد رفعه الصوت الجهور، وهو ينافح عن مدينته الصغيرة أزمور المهمشة كسائر حواضر وبلدات الوطن التي تدفع فاتورة جشع بطون الفساد المتحالفة مع عقليات التسلط والاستبداد، سيُقابَل بهذا الحقد والرغبة في الإسكات، عوض أن يُحتفى به كما تفعل الدول التي تحترم مواطنيها وتجعل من أصواتهم ضميرا لسياساتها العمومية إن أرادت لها النجاح؛ تسمع منهم عيوبها التي قد تشوب التخطيط أو التنزيل، بل تجعل لهذا الصوت قنوات مؤسساتية سمّتها ديمقراطية تشاركية، يكون مغزاها أن يصاحب صوتُ المواطن عمليات الاقتراح والتخطيط والتنزيل والتقويم.

ولمَّا كانت هذه القنوات عندنا صورية لم يجد مصطفى وكل صوت حر في هذا البلد غير قنوات الفضاء العمومي التي أفلتت من قبضة الإغلاق؛ ساحاتُ احتجاجٍ ومنصّاتُ تدوينٍ لإيصال صوتهم إلى سلطات عمومية شديدة الحساسية تجاه هذا الصوت، لا من جهة الاستجابة له وإرضائه، بل لمسابقة الزمن لإخراسه كي لا تنتقل عدواه إلى أصوات مقهورة أخرى، والتي قد تشكل مجتمعة تهديدا لمصالح الفساد والاستبداد.

عُرف الشاب مصطفى دكار بين أبناء مدينته الهادئة بعمله الجمعوي الهادف الخادم لقضايا مدينته ووطنه، لا يكل ولا يمل أن يمدّ يد العون لكل ذي حاجة إنسانية. وتعرفه أيضا ساحات أزمور بنشاطه الحقوقي دفعا لقوس الحرية ألا يغلق كما تشتهي خفافيش ظلام الاستبداد والإفساد ليخلو لها المجال دون غيرها لتستفرد بمقدرات الوطن. فكان مصطفى وإخوانه ورفاقه دائم الرِّباط في ساحات النضال المدني والحقوقي في تنسيقية “أزمور التي نريد” يدافع عن كل مواطن ظُلم، وكل حر اعتقِل، وكل قضية عادلة، وكل ملف مصلحة عامة أوقفته لوبيات المصالح الخاصة أن يخرج لواقع تنمية مستعصية في أزمور. وكل الوطن أزمور في هذا الاستعصاء..

كما كان مصطفى ضميرا حيا وقلبا نابضا بقضايا أمته الإسلامية التي يئن فيها قطر عزيز، وبيت مُقدَّس، وقطاع على أكناف البيت المقدس تُشن عليه حرب إبادة وحشية من قبل من كتب الله عليهم، إخراجا لهم من رحمته، قتلَ أنبيائه وإيذاء أوليائه، مقدمة ليكتب عليهم الجلاء في الدنيا ثم يأتي بهم لفيفا إلى حيث كتب وسيكتب الله لهم أن يسومهم رجال الله سوء العذاب، رغم الإمداد/الابتلاء لهم بالمال والنفوذ والنفير الاستكباري الداعم. فقد بحّ صوت مصطفى في الوقفات المسجدية والفعاليات والمسيرات التي لم تتوقف منذ هبة طوفان الأقصى، ومنذ أن بدأ العدوان الهمجي على غزة الصمود، وغزة الإباء، وغزة العزة. لعلّ صوته يصل إلى مسؤولي دولته فيجسدوا مواقف دعم ونصرة لإخوة الدين والإنسانية، ويوقفوا التطبيع مع أعداء الدين والإنسانية. كيف لا يفعل وهو سليل المغاربة الذين سُمي باسمهم بابان في مدينة القدس؛ أحدهما في السور الجنوبي للبلدة القديمة، والآخر أحد أبواب المسجد الأقصى الغربية. بل سُمّيت حارة مقدسية باسمهم (حارة المغاربة)، بعدما نوّه بهم وبجهادهم الفاتح العظيم صلاح الدين الأيوبي، ورفض عودتهم إلى بلدهم المغرب بعد فتح بيت المقدس، وقال فيهم لما سئل عن قراره ذلك: “يعملون في البحر ويفتكون في البر، أشداء على الكفار، لا يخافون طرفة عين في الدفاع عن المسلمين ومقدساتهم”.

لقد جمع مصطفى إذن “مجموعا” كان ليكفيه ويقلده أوسمة شرف المواطن الصالح النافع لنفسه ولزوجه ولذريته وهو التاجر النزيه الناجح الخلوق، والنافع لحيِّه ومدينته ووطنه وأمته. ولتحتفي به سلطات مدينته، وسلطة بلاده على افتراض أنها سلطات في دولة مواطِنة كما تقول دساتيرها، ودولة اجتماعية كما تعلن سياساتها العمومية، ودولة حريات وحقوق جديرة أن تستدعى لرئاسة مجالس أممية تعنى بالحريات والحقوق.

لكن من سوء حظ مصطفى، ومن سوء حظ الوطن، أن الادعاء غير الواقع، والمغرب المفترى عليه والذي يُعرض على القنوات العمومية والإعلام الموازي الموجه للتعمية الخارجية، غير المغرب العميقِ الاختلالات الذي تفضحه أصوات مثل صوت مصطفى وسليمان وتوفيق وعمر وسعيد وعبد الرحمان وناصر وكل الأسماء الشخصية والعائلية التي لحقها الأذى المخزني، وتؤكدها تقارير دولية كاشفة عصية على التزوير والإخفاء.

2. سطوة تسلط.. نذير شؤم في مستقبل وطن وأمة

لقد كافأت السلطة السياسية مصطفى دكار بوسام هو المتوفر في الخزانة الرسمية لشرفاء الوطن “التغييب في السجن”، إلى جانب أوسمة التضييق الحقوقي، وتقتير الأرزاق، والإقصاء السياسي والاقتصادي، وغيرها التي نالها آخرون من غير مصطفى. فكان نصيب مصطفى سنة ونصف حبسا نافذا وغرامة مالية قدرها 30000 درهم قضت بهما المحكمة الابتدائية بالجديدة يوم الإثنين 20 ماي 2024.

لم تشأ اليد التي كتبت الحكم الذي صدر في حق مصطفى، على لسان قضاء قال دستور 2011 أنه ارتقى به إلى سلطة قضائية مستقلة مترّفعة عن التنافس السياسي، ومهمتها إحقاق الحق وتطبيق القانون، لم تشأ، على عادتها (المكشوفة والتي لم يعد يهمها أن تكون مكشوفة بل مفضوحة ممجوجة في ظل واقع اختلت فيه موازين القوة لصالح الاستبداد محليا وإقليميا المسنود باستكبار عالمي وضمانات صهيونية مخادعة) أن تعلن السبب الحقيقي الواضح للعُميان الذي ارتكبه مصطفى، فاختارت أن تكتب للقاضي تهما قرأها على مضض من قبيل إهانة موظفين عموميين والإساءة لمؤسسات عمومية وثّقت وسائل إعلام محلية ونشطاء تنويه مصطفى بالنزهاء من هؤلاء الموظفين، وبالفاعلات من تلك المؤسسات، منتقدا برصانة خطاب واحترام أشخاص (كما تقول أبجديات المعارضة الديمقراطية) دون عنف أو تحريض أو تهديد السياسات العمومية الفاسدة المفسدة للمجال المضيعة لحقوق الناس.

والأدهى والأنكى أن يُفرض على القاضي تلاوة تهمة غريبة وهي “نشر الكراهية والتحريض ضد اليهود”؛ وكأن القاضي لا يعلم الفرق بين يهودي مسالم في وطنه له حريته في ممارسة شؤونه الدينية، وله حق الجوار والحماية والأمن مثل سائر المواطنين والجاليات غير المسلمة في وطننا المسلم، وبين الصهيوني المستعمر المستوطن لأرض ليست له، والذي يُقتّل ويشرد أهل الأرض الحقيقيين من المسلمين والمسيحيين واليهود الفلسطينيين. فكيف يحاكم مصطفى على تضامنه مع شعب يقاتل ويناضل، كما قاتلنا وناضلنا نحن أيضا، ضد استعمار غاشم وصهيونية حاقدة؟!

قرأ القاضي الحكم الجاهز على مصطفى كما قرأ أقرناه لأحكام السابقة على زنكاض وبوكيوض والحيرش، وقبلهم بوعشرين والريسوني والراضي، وشباب الريف وجرادة وغيرهم الكثير ممن سبقهم، وممن ينتظر أحكامه أيضا أن تُكتب للقاضي من قبل ذات اليد الخانقة لكل صوت حرٍّ مثل الونخاري وزيان وشباب الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع في سلا وغير سلا وغيرهم ممن غاب اسمه عن الذهن ولم يغب عن قلوب المغاربة غُصّة وألما.

إنها يد تريد تكريس الرتابة في المشهد المغربي، وقتل بواعث الحرية والأمل، وإسكات أي صوت يصرخ ضد ربط مقدرات البلاد بمصالح الاستبداد المحلي، ومصالح الغرب الاستعماري، ومصالح الصهيونية التخريبية. إنها يد تريد أن ترسل رسالة للداخل أنّ قوس الحرية قد أُغلق، وأن زمن “هيبة الدولة” قد حلّ (يا ليتها كانت هيبة إنجاز وليس هيبة قمع!)، ورسالة للقوى الفاعلة في المجتمع أن المشهد لا يقبل إلا فاعلا واحدا والجميع دوره التصفيق، ومن لم يُصفق “يُصرفق” (يُضرب على خدّه).

وهي رسالة أيضا إلى دهاقنة الغرب أن المشهد عندنا متحكم فيه، وأن دولتنا نموذج يحتدى به دائما في القمع والإسكات ووأد الأصوات الحرة، لتتعلم منا سلطات أمريكا وبريطانيا وفرنسا كيف توقف الدعم المنقطع النظير للشعب الفلسطيني الذي يواجه محرقة وإبادة رقت لها قلوب غرباء الدين والجغرافيا ولم ترق لها قلوب حكام المسلمين!

وهي رسالة أيضا لثعالب الصهيونية أن قرار التطبيع قرار مصيري لا تراجع عنه ولو أبدتم كل إخوتنا الفلسطينيين هناك، ولو سُجن نشطاء إخوتهم المغاربة هنا. وهي رسالة سقوط أخلاقي وعمى استراتيجي سيؤدي البلد، إن لم يقع التدارك، أثمانها الباهظة حالا ومستقبلا على كل المستويات.

3. صمود أحرار.. قبض على جمرة وطن أن تخبو

 انتبه أحرار الوطن لسياسة “إنما يأكل الذئب المخزني القاصي من المناضلين”، وفطنوا للأهداف من وراء توزيع الأحكام الثقيلة، والزجّ بالمناضلين وراء غياهب السجون؛ وهي القتل المعنوي لحرية وكرامة وإرادة المغاربة. فالتفُّوا حول المناضلين المتابَعين والمعتقلين نصرة ودعما ماديا ومعنويا وقانونيا. وهكذا تداعى المحامون والحقوقيون والفضلاء من مختلف المشارب السياسية والفكرية لمؤازرة مصطفى دكار كما فعلوا ويفعلون مع كل من مسّه الضر المخزني، ففتحوا جبهة إسناد للمتابعين، وتنسيقياتِ تدافعٍ مع آلة الانتقام السادية في حق خيرة شباب الوطن.. فلم ييأسوا رباطا في المحاكم، وصدحا بالحرية في الساحات، وحشدا للدعم المادي والمعنوي للنشطاء والمعتقلين.

وقد جمع ملف مصطفى دكار لفيفا متميزا من شرفاء الوطن الذين أجمعوا على عدالة قضيته وظلم مستهدفيه، وحقه في الحرية والكرامة عوض التنكيل لما يقوم به في سبيل مدينته ووطنه وأمته.

فقد اعتبرت الحقوقية المغربية البارزة خديجة الرياضي في مداخلة لها في ندوة قاربت قضية “اعتقالات ومحاكمات مناهضي التطبيع أن” انتهاك حرية الأشخاص المناهضين للصهيونية (ومنهم مصطفى دكار) ليس جديدا في بلادنا، لافتةً أن “خدمة الصهيونية والاعتداء على كل مناهضيها، كان دائما ركنا من أركان سياسة النظام السائد في المغرب منذ عقود”.

بدوره اعتبر رئيس فرع التحالف الدولي للحقوق والحريات بالمغرب، الدكتور محمد الزهاري، أن المواقف التي يتابع من أجلها المعتقل السياسي مصطفى دكار وسعيد بوكيوض وعبد الرحمن زنكاض المرتبطة بمناهضة التطبيع، هي “مواقف شعبية جماهيرية مغربية، والجميع يشاطرهم هذا الرأي وهذا التوجه”.

وعبر الأستاذ عبد الإله بنعبد السلام، منسق الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان عن تضامنه المطلق مع مصطفى دكار المناضل في جماعة العدل والإحسان والمناضل في الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، والمناضل مع سكان مدينة أزمور في التنسيقية المحلية، من أجل إيجاد حلول لمشاكل سكان أزمور، وضمنهم الفئات الضعيفة في المدينة بمن فيهم الباعة المتجولون…

ومن جهته، المعتقل السياسي السابق رضي بنعثمان، في سياق مشاركته في إحدى القوافل الحقوقية الوطنية التي نظمتها “الهيئة الوطنية لمساندة معتقلي الرأي وضحايا انتهاك حرية التعبير بالمغرب” إلى مدينة أزمور للتضامن مع المعتقل مصطفى دكار وغيره من المعتقلين، دعا “جميع المغاربة الذين يستطيعون فعل ذلك، أن ينضموا إلى هذه القوافل التضامنية وأن يدعموا هؤلاء المعتقلين ماديا ومعنويا”.

بدوره أكد الدكتور مصطفى الريق، عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، أن مصطفى دكار معتقل ظلما ووشاية لا لجرم ارتكبه وإنما لاستماتته في الدفاع عن قضايا مدينته مدينة أزمور وفي الدفاع عن قضايا وطنه بلدنا الحبيب هذا وفي الدفاع عن قضايا أمته.

الأستاذ محمد رقي، منسق الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع بالجديدة أعلن عن أسفه للاعتقالات الجديدة والأحكام الجائرة التي طالت كل عبد الرحمان زنكاض وسعيد بوكيوض ومصطفى دكار، في لائحة اعتبرها جديدة، إلى جانب لوائح الرأي العام والدفاع عن الحريات، “فتحت باسم الدفاع عن التطبيع”، والتي هي “عار على جبين المخزن”.

أما السيدة خولة غرود زوجة المعتقل مصطفى دكار، فأكدت أن زوجها “أبو إسلام ولقمان آمن بالقضية الفلسطينية وخرج كما خرج كل شرفاء العالم مناصرا لإخواننا في غزة وفلسطين ومناهضا للتطبيع مع الصهاينة الغاصبين، فأزعج صوته بعض المتصهينين فكادوا له المكائد”. داعية ”عقلاء هذه الدولة إلى التحلي بروح المسؤولية والوطنية وإيقاف مهزلة اعتقال رجل صالح مصلح تشهد له كل المدينة أنه كان صوتا للحق مناصرا للضعفاء مساعدا للمقهورين والمكروبين مشاركا في كل مبادرات الإصلاح بمدينة أزمور، يحلم بمدينة تحتضن أبناءها وبوطن عزيز يضمن سبل العيش الكريم لأبنائه”.