سؤال مصادر التفكير عند الأستاذ عبد السلام ياسين

Cover Image for سؤال مصادر التفكير عند الأستاذ عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

تُعدّ الإشكالية المتعلّقة بمصادر التفكير عند الأستاذ عبد السلام ياسين من أهم المفاتيح المنهجية لفهم مشروعه الفكري والعملي؛ ذلك أنّ الرجل لم يكن يقدّم خطابه بوصفه عملا تجميعيا أو وصفيا، ولا باعتباره جهدا فرديا معزولا عن جذوره، بل كان يعرضهُ بصورة تركيبية قائمة على تفاعل مكثف بين الوحي والتراث والواقع والفكر الإنساني. ومن ثمّ فإنّ محاولة تفكيك مصادر تفكيره ليست سوى مدخل لاستيعاب البنية الداخلية التي يشتغل بها مشروعه في شموليته. غير أنّ هذا السعي يستدعي مباشرة سؤالا إشكاليا: كيف يمكن الإحاطة بمصادر مشروع فكري يتّسم بالتشابك والتداخل والاتساق؟ وهل يمكن تحديد هذه المصادر دون الوقوع في اختزال يظلم “الطبيعة العضوية” لفكره؟

المطّلع على فكر الأستاذ ياسين، والمتابع لحركيّته، يدرك أنّه كان طامحا إلى أن ترتقي تجربته، فكرا وممارسة، إلى مستوى التجديد. ولم يكن هذا الطموح تعبيرا عن رغبة شخصية، بقدر ما كان موقفا معرفيا وأخلاقيا يتأسس على نقد حادّ للتقليد وأهله، وعلى إعلاء لقيمة الإبداع، مع التحذير في الوقت نفسه من الابتداع الذي يفقد المعرفة ـ كما يفهمها ـ أصالتها ومصدر قوّتها. وكان ينظر إلى التجديد بوصفه عملية مزدوجة تشمل القراءة والممارسة معا؛ أي تجديدا في كيفية فهم النصوص وكيفية تنزيلها على الواقع. وهنا تتبدّى الإشكالية المركزية: ما الأساس الذي يستمد منه هذا التجديد مشروعيته؟ إنّها، باختصار غاية في الإخلال، طرائق القراءة، والقدرة على بناء مفاهيم جديدة تمكّن من الاستيعاب والتفسير.

في مسعاه نحو التجديد صاغ الأستاذ ياسين ما عُرف عند تلامذته بـ”التصور المنهاجي”، وهو تصور لم يتبلور دفعة واحدة، بل تشكّل عبر مسار بنائي همّ وجهي العملية لديه؛ أقصد النظر والممارسة، منذ “الإسلام بين الدّعوة والدّولة”، سنوات قليلة بعد تحوّله الأوّل الذي جاء بعد معاناته الروحية وقلقه العقلي لإيجاد إجابات عن أسئلته الوجودية، إلى “وصيّتي”، يوم أحسّ بقرب دنوّ أجله. وقد أثّث تصوّره بمفاهيم متنوّعة؛ بعضها ورثه عن السلف وحافظ عليه، وبعضها أدخل عليه تعديلات شملت التهذيب وإعادة التوجيه، وبعضها الآخر خلخله ثمّ عمل على شحنه بمعانٍ جديدة، مما منحها قدرات تفسيرية مبتكرة. وهذا، في مجموعه، مسعى ذو أهمية كبرى، غير أنّ الأهمّ من كلّ ذلك هو طريقة تشبيكها ضمن بنية تصوّره. وهذا التشبيك هو الذي منح منظومته طابعها الخاص الذي يتميّز به، ومع كلّ هذا فإنّ استكشاف مصادر تفكيره ليس عملية معقّد، كما نجدها عند غالبية أصحاب المشاريع التفسيرية التغييرية، لأنّه ـ ببساطة ـ لا يخفيه.

أقدّرُ أنّ الجديد الذي قدّمه الأستاذ ياسين لا يحمل طبيعة “خَلْقية”، إذا جاز التعبير، بل يحمل صبغة “تجديدية” تكشف حجم الاشتغال الذي بذله على تراثه المقروء: تثويرا وترتيبا وتأصيلا وتشبيكا. وهذا الاشتغال متصل اتّصالا وثيقا بثنائية أصيلة في مشروعه، وهي ثنائية في الحقيقة لصيقة بالمعرفة الإسلامية الحقّة؛ إنّها الجمع بين العلم والعمل. وفي هذا السياق يمكن القول بأنّ أهمّ ما وقف عنده، ومنحه الوقت والجهد في مشروعه هو؛ التربية والسياسة ثمّ نوعية العلاقة بينهما، ليس التربية والسياسة باعتبارهما شأنا فرديا، بل بصفتهما همّا فرديا وجماعيا معا. ولهذا فالمعرفة عنده ليست بناء نظريا خالصا، بل هي ممارسة تنتج مفاهيمها أثناء اشتغالها على الواقع. وبهذا المعنى قد لا يكون المصدرُ كلامَ الوحي أو نصا أو مُفكّرا أو تجربة فحسب، بل قد يكون حدثا تربويا، أو سياقا سياسيا، أو ممارسة جماعية.

كما أُقدّر أيضا، أنّ الأستاذ ياسين يحبّ أن يُعرَف، في سياق عرضه لمصادره، بثلاث صفات: متصل، منقطع، مشتَبك؛ فهو متصل بالوحي وبالعلوم التي نشأت حوله، ومنقطع عن الابتداع والانحراف وعن كل استدعاء إنباتي من خارج التداول الإسلامي، ومشتبك مع منتجات الفكر الإنساني عامة لأنه يرى الحكمة ضالّة ينبغي أخذها حيثما وُجدت.

ومع أنّه لم يكن ميالا إلى الأسلوب الأكاديمي بالصيغة التي تفرضها المنهجيات الجامعية، والتي توجب ضرورة الإشارة في الهامش إلى أصل كلّ فكرة تمّ استثمارها، إلا أنّه كان واضحا في التصريح بمصادره؛ فمتونه ثريّة جدا بأسماء العلماء والمفكرين والخبراء والمثقّفين، وبالنصوص والاقتباسات (قصيرة وطويلة) والمقولات والتعليقات عليهم؛ تأييدا أو نقدا أو تهذيبا أو نقضا. وهذا الوضوح يجعل تتبع مصادر تفكيره أمرا مُتاحا وممكنا، لكنه لا يجعل العملية يسيرة؛ لأن طريقته في القراءة ليست تجميعية بل تركيبية؛ فالفكرة التي قد تبدو منقولة من مصدر محدد سرعان ما يتبيّن أنها متشابكة مع موارد أخرى أو مدفوعة بسياق واقعي خاص. وهنا يبرز سؤال: هل يُعدّ هذا التشابك دليلا على تنوع المصادر فقط، أم على اندماجها في بنية فكرية واحدة تجاوزت أصولها التي انحدرت منها؟

إنّ مصادر التفكير عند الأستاذ عبد السلام ياسين ليست، كما قد يظنّ المستسهل للأمر، لوائح يمكن سردها، بقدر ما هي شبكة متداخلة من النصوص والتجارب والمعارف والمفاهيم التي يعاد تشكيلها باستمرار داخل إطار منهجي واحد. وهذه الشبكة ذاتها موضع الإشكال: فهي متعددة إلى درجة تجعل الحدود بينها غير صلبة، لكنها منسجمة إلى حدّ يجعل مشروعه وحدة فكرية متماسكة. وبين التعدد والانسجام يتحرك سؤال الإشكال: هل يثري التعدد المشروع ويمنحه مرونة وقدرة على استيعاب الواقع، أم أنه يفضي إلى طمس الفوارق بين مصادر متباينة ويذيب الاختلافات؟

الجواب عن هذه الأسئلة، وغيرها، لا يمكن حسمه عبر قراءة جزئية بل يحتاج إلى بحث تفصيلي شامل ضمن عمل أكاديمي، ومن المؤكد أن إعادة بناء خريطة مصادر تفكير الأستاذ ياسين ستكشف عن مشروع يقوم على تفاعل خصب بينها، في صيغة تجعل كلّ مصدر جزءا من عملية تثوير معرفي مستمرة، لا مجرد رافد منعزل أو عنصر تابع. وبهذا المعنى فإن استشكال قضية مصادر تفكيره لا يراد به، كما سبق الذّكر، إعداد قائمة بمصادره ـ لأنّ هذا الأمر ممكن ومتاح بوجود التقنيات وبغيرهاـ بل فهم الكيفية التي تتحول بها تلك المصادر إلى بنية فكرية متجددة.

لا يبدو الأستاذ ياسين أنّه معنيّ أبدا بأن يُسجّل في حقّه أنّه صاحب قول تأسيسي تدشيني، وإن كان جديرا به، وهو في مقابل ذلك سعيدُ بأن يكون ـ أوّلا ـ ملتقى لروافد وموارد كثيرة ومتنوّعة، وذا قدرة وجدارة ـ ثانيا ـ على “التّصفية” و”إعادة التوزيع”.

يتصدّر الوحي؛ قرآنا وسنّة مصادرَ التفكير لدى الأستاذ عبد السلام ياسين، باعتباره المرتكز الأساس لمنظومته الفكرية والمعرفية والتربوية. فقد اختار الرجل، كما صرّح في غير ما مناسبة، أن يجلس بين يدي الوحي تلميذا ومريدا، متلقّيًا كلامَ الله تعالى وسنّةَ نبيّه صلى الله عليه وسلم مباشرةً: تلاوةً وتفسيرا وتأويلا واستنباطا. ومن هذا المنطلق، نبّه إلى ضرورة تجاوز الإشكالية الكلاسيكية التي شغلت العلماء طويلا، والمتمثلة في ثنائية “العقل والنقل”، إلى إشكالية جديدة سمّاها “العقل والنقل والإرادة”، ونعَتها بـ “أزمة المنهاج”.

“ويأتي في المرتبة الثانية من مصادره مختلفُ العلوم والمعارف التي تدور في فلك المصدر الأول وتنهض بخدمته، من تفسير وحديث وعلومهما، والسيرة النبوية، وعلوم اللغة والمعاجم، وأصول الفقه، والفقه، والكلام، وغيرها.

ثم يبرز التاريخ – وخاصة التاريخ العام – والتصوف باعتبارهما مصدرين شديدي الحضور في المتن الياسيني. ومن اللافت أنّ حضور التصوف في كتاباته منحاز إلى المدرسة المشرقية، نظريا ورجاليا، على حساب المدرسة المغربية التي تتراجع فيه بشكل ملحوظ؛ ولذلك يحتل كلّ من عبد القادر الجيلاني وأحمد الرفاعي موقعًا مركزيا في تشكيل خلفيته الروحية.

وإلى جانب هذه المصادر الأساسية، نجد مصادر أخرى تتنوّع بحسب موضوع الكتاب وانشغالاته: في السياسة والاقتصاد والاجتماع والمذكرات والفكر الحديث. أما الكتابات التأسيسية لرموز الحركات الإسلامية – وخاصة حسن البنّا، وأبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، وسعيد حوى، وأبو الحسن الندوي – فتشكّل نسيجا مكوِّنا لمعظم المتن الياسيني، إذ يعتبر الأستاذ ياسين نفسه امتدادا لمدرسة هؤلاء الرواد، معتزا بالانتساب إليها من غير أن يُعفيها من النقد أو يبرّئها من مواطن التعثّر.

ومن يتأمل جيدا أعماله، خصوصا: “الإسلام غدا” و”محنة العقل المسلم” و”الإسلام والحداثة”، يقف على اطّلاعه على التراث الفلسفي القديم والحديث، وعلى مستجدّات علم النفس الذي لم يخفِ توجسه منه، فكان حضوره في كتاباته حضورًا نقديا متحفّظا. وينسحب المنحى النقدي ذاته على تعاطيه مع كتابات مدرسة الأفغاني ومحمد عبده وما تفرّع عنهما من تيارات “يمينا” مثل: رشيد رضا، ومحمد الغزالي، وحسن الترابي؛ و”يسارا” مثل: علي شريعتي، وحسن حنفي، ومن سار على نهجهما.

ولا يمكن تجاوز أثر “التجارب” الجهادية والتربوية لبعض الشخصيات التي شكّلت بدورها مصدرا مهمًا في البناء الفكري للمرشد المؤسس لمدرسة العدل والإحسان المغربية؛ وفي مقدّمتها: سيدنا الحسين، والإمام السرهندي، وأحمد بن عرفان، وعبد القادر الجزائري، وعمر المختار، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي.

وفي الحقيقة، لا يمكن ختم هذا العرض – المخل – دون التوقّف عند موقع ابن تيمية في الخلفية الفكرية والمعرفية للأستاذ ياسين؛ فحضور شيخ الإسلام في المتن الياسيني حضور كثيف وثري، بجميع أشكاله ومستوياته، بما يتجاوز حتى حضور بعض الرموز ذوي النزوع التربوي الخالص، من قبيل عبد القادر الجيلاني. وهو موضوع، في الحقيقة، يستحق دراسة مستقلّة لما له من أبعاد منهجية ومعرفية عميقة.

يتبيّن من تأمل مصادر التفكير عند الأستاذ عبد السلام ياسين أنّ مشروعه لم يُبنَ على تجميع متناثر لمعارف وتجارب، بل على تفاعل متواصل بين الوحي والتراث والواقع، في مسار يجعل هذه العناصر تتداخل داخل رؤية واحدة لا تنفصل فيها المعرفة عن الممارسة. وقد أسهم هذا التداخل في منح مشروعه مرونةً تسمح له باستيعاب الموروث وتثميره من جهة، والانفتاح على معطيات الفكر الإنساني من جهة أخرى، دون أن يفقد توازنه أو أصالته. ومع الزمن تحوّلت هذه الموارد المتعددة إلى بنية منهجية تتجدد بقدر ما تتراكم، وتعيد ترتيب عناصرها بحسب السياقات التي يتشكل فيها الفعل التربوي والسياسي. وهكذا لم يعد مصدر التفكير عنده مجرد رافد معرفي، بل أصبح جزءا من حركة دائمة تبني المفاهيم وتعيد توجيهها وتغذي بها مشروعا حيّا يتطور دون أن يتخلى عن جذوره. وفي هذا الامتزاج الخلّاق تتجسد قوة التصور الذي صاغه، بما يجعله نموذجا فريدا في كيفية تحويل الموارد المتنوعة إلى نسق فكري واحد ينبض بالفاعلية والاستمرار.