رسالة ميت (قصة قصيرة)

Cover Image for رسالة ميت (قصة قصيرة)
نشر بتاريخ

رنَّ الهاتف فشعرت وكأنَّ كلَّ خليَّةٍ في جسمي اهتزَّت وإياه، كما كان يحصل لي كل مرة يرن فيها تلك الأيَّام، شيءٌ في داخلي كان يترقب سماع خبرٍ مفجعٍ.. عندما سافرتُ تركته طريح الفراشِ ونظراتٌ في عيونه لا تشي بالطمأنينة البتَّة.. عندما لمحت الشَّاشة تنفست الصعداء، إنَّها صديقتي؛ لو كان هناك شيءٌ سيِّءٌ لاتَّصلوا بي من البيت، صديقتي تطمئنُّ عليَّ دائما فور انتهائي من أي امتحان، وكذلك اليوم حتماً اتصلت لتفعل ذلك، أجبتها، بدا لي أنَّها تتلعثمُ في أول الاتِّصال، لكن عندما لم تجد في نبراتِ صوتي اختلافًا فضَّلت أن توهمني أنها اتصلت لتطمئن عليَّ كما ظننتُ. استرسلتُ في الكلام وندبتُ حظِّي وأشبعت الدكاترة دعواتٍ كما هو حالُ الطالب عندما لا يبدي حسنا في امتحانٍ جهز له جيداً، لكن بعد كلِّ تنهيدةٍ لي، كنت أشعر وكأنَّها تريد مقاطعتي وتخشى ردة فعلي.. في آخر الاتصال ساد الصمت لثوانٍ، فكسرَته بسؤالها: هل اتصلت بك أمكِ! لم يخطر ببالي حينئذٍ غرابةُ سؤالها، فقط أجبتها وأكملت الحديث، لكنها باغتتني وقالت: أرجوكِ اتصلي بها وودعتني.. بعدما أنهيتُ المكالمة أحسستُ وكأنَّ مصباحًا أضاء فوق رأسِي كما كنت أشاهد في الرسوم المتحركة: لقد حصل له مكروهٌ وإلاَّ ما كانت لتطلب مني الاتصال بأمي!

أمسكتُ الهاتف مرَّةً أخرى، وفي هذه المرة تضاعف التَّوتر، فوراء رنَّة الانتظار احتمالان؛ أمرُّهما قد يجعل الكونَ بشساعته ضيقًا على قلبي المتعب..

ركَّبت الرقم فإذا بهذا الأخير يتَّصل قبل انتهائي، أجبتُ بسرعةٍ.. جاءني صوتُ أمي في الجهة الأخرى يرتجفُ، توقفتُ عن المشي، أحسستُ بهوانٍ غريب يجتاحني، شعرتُ وكأنني بنايةٌ عتيقةٌ في مدينةٍ قديمةٍ مرَّ على ثباتها قرونٌ، وذات صباحٍ انهارت بكاملها في ثوانٍ معدودة…

تماسكت وانتظرتُ بهدوءٍ مصطنعٍ نزول الصَّاعقة؛ خاطبتني أمِّي وصوتها يكاد يُسمع: إنه في ذمة الله، تماسكي ابنتي أرجوكِ! استمريتُ في صمتي؛ ماذا عساي أجيب وما الذي سيغيره جوابي آنذاك!

طمأنتُ أمِّي أنَّني بخير وسأكون كذلك حتى وصولي عندها، بينما كنت في الواقعِ أدوس بقوَّةٍ برجلي لأشعرَ حقاًّ أنني ما زلتُ واقفةً وأن جسمي ما زال في توازنٍ، وأكَّدت لها عدَّة مراتٍ أنَّني قادرةٌ على أن أذهب لوحدي وغايتي كانت أن أختليَ بنفسي مسافة الطريقِ، حاولت إنهاء المكالمة بسرعة لأنني أعرف أمي جيداً، لأجلي فقط أمسكت الهاتف، حتما إنَّها تتعذب وتبذل مجهودا لتطمئنني، كمن يمسك بقطعة جمرٍ ويدَّعي أنها باردةٌ كمكعب ثلجٍ، لذلك آثرت أن أحرِّرها وأتركها تعيش حزنها هي الأخرى ولو أنَّني كنت بحاجة ماسَّة لها، حتى أنفاسها عبر أثير الهاتف كانت لِتشعرني بالأمان آنذاك..

توالت الاتصالات والرسائل لكن لم أعرها اهتماما.. سيعيدون نفس عبارات التعازي، جميعهم يريدون القيام بالواجب وإبعاده عن أكتافهم ولا أحد منهم سيتقاسم معي جرحي العميق ذاك، وحالة الفراغ التي سيطرت على جوارحي ما كانت لتغيرها لغات العالم أجمع..

قبل ساعة من الاتصال كنت أرى أن أبشع شيء في الكون أن لا تجيب على أسئلة الامتحان بطريقة صحيحة، لكن ها أنا ذي شربت من كأس الموت وتغيرت المفاهيم في رأسي وكأن خمراً أخلَّ توازني..

لم أدري كيف وصلت لغرفتي بمنزل الكراء، ولا كيف صعدت السلم الذي طالما تذمرت منه بسرعة، أخرجت محفظة النقود من درج المكتب وانصرفت… قلت لزميلتي وأنا أغلق الباب: لقد توفي!  لم أزد كلمة على ذلك، لم أنتظر ردة فعلها حتى، كنت أتجنب أن أتكلم لأن ذلك سيفسد ما أنا بصدد السباحة فيه في دواخلي، خرجت بسرعة وفي رمشة عين وجدتني في سيارة الأجرة.

كان الكرسي الأمامي شاغرا ويركب في المقاعد الخلفية ثلاثة أشخاص؛ جلست قرب السائق وفور جلوسي سألني: هل أنت متوجهة للمدينة الأخرى أم ستنزلين في منتصف الطريق؟ حركت رأسي أي نعم، ولم أهتم أفهمَ الرجل أن تلك النَّعم هي إجابة الاختيار الأول أم الثاني.. كان المذياع مشغَّلا وبه برنامجٌ يهدي فيه المتصلون مقاطع موسيقيةٍ لأحبَّائهم، وكان السائق بين مقطع وآخر يرفع الصوت، كان ذلك يزعجني جدا؛ يا له من رجل شرير! لمَ ليس في حداد؟ إنني أجلس بجانبه فاقدة لأعز الناس على قلبي وهو يستمتع بالموسيقى كأن العالم بخير!

بعد انقضاء أطول مدة خيِّل لي أنني قضيتها في وسيلة نقل، وجدتني قرب باب المنزل، وقفت لم أستطع الدخول، حقيقة أن البيت قبل مغادرتي ليس نفسه الذي أوجد أمام بابه كانت بشعةً للغاية، جعلتني أتوقف وأتكئ بجدار روحي على جدار الجيران..

شاهدتني أمي من النافذة وجرت نحوي، إنها الوحيدة التي كنتُ متيقنة من أنها تتألم أضعاف آلامي، عانقتني بقوة كما لم تفعل من قبل، أجبتها بعناق أقوى، انهمرت في حضنها باكية وكأنني أبكي نيابة عن الفاقدين لأحبابهم في العالم كله يومها..

كان المنزل ممتلئا لآخره، أفراد العائلة جلهم، القريبون منا والبعيدون أيضا، الأصدقاء والجيران، الكل مجتمع، حتى أولئك الذين لم يبادلوه الود في حياتهم وجدتهم يومها ودودين وكأنه فقيدهم حقا.

فور ولوجي الباب انهالت علي العناقات، الكل كان يتسابق ليسمعني عبارات تعازٍ تشابهت عند معظهم، حقيقة لحظاتها لم أهتم لشيء، جدار روحي كان مكسورا ولم تكن العبارات والعناق بقادرين على ترميمه.

انتهت مراسم الدفن والعزاء، لم أنتبه لها ولحد الآن لا أتذكر تفاصيلها، كنت حاضرة بجسدي الهامد فقط.

انفردت بغرفته وبدأت أبحث بين أوراقه، كان حدسي  يخبرني أنه ترك لي بين تلك الكومات شيئاً يخصني أنا بالذات، وجدتها؛ كانت تبدو من بعيدٍ كوصفة دواء انتهت صلاحيته، وإذا بها ستكون حقا لي دواء دائم الصلاحية؛ كانت مكتوبة بقلم حبر أسود كسواد ذاك اليوم الذي من بشاعته ظننت أنه لن ينتهي أبدا، خطٌّ غير واضح تتداخل حروفه ببعضها وكأنَّها مضطربةٌ، متأكدة أنه قصد ذلك لكي لا يفهمها غيري، إنه يعلم أنني الوحيدة التي أستطيع فك شفرات حروفه.. بينما كنت أغوص بين الكلمات ذهبت عيني إلى عنوان الرسالة الذي لم أنتبه إليه من شدة انتشائي بحدسي الذي لم يخني، قرأته ويا ليتني لم أفعل، كان العنوان كسهم يخترق قلبي الذي هدأ روعه للتوِّ …”رسالةُ ميتٍ”؛ كان العنوان مؤلماً للغاية، لَكم هو قاسٍ أن تكون صفةُ الموت قرينة لحبيب على قلبك!

مسحت دمعةً تطفلت على خدي ومن ثم على الورقة في يدي وأكملت القراءة؛ صغيرتي آسف جدا لأنني تركتك وحيدة، إنني أعلم أنك الآن تتألمين وتشعرين بأن الكون بشساعته فارغ بدوني، أعلم أنك تفقدين في هذه اللحظة كتفا وسندا… توقفت هنا عن القراءة استجمعت قواي وأجبته بهمسٍ وكأنه بقربي: ولكنك كنت دائماً تكرر على مسامعي وعودا بأنك ستبقي بجانبي وأنك لن ترحل أبدا!

كنت واقفة آنذاك لكنني شعرت بدوار خفيف فجلست، تجرعت حقيقة أنه لم يعد موجودا، ومن ثم أكملت القراءة، وصدفة وجدته كأنه يجيبني: صغيرتي، آسف لأنني لم أفي بوعودي، آسف لأنني كنت أعلم من قبل أنني لست ضامنا بقائي معك ولم أخبرك بذلك، آسف لأنني لست دائما لك ولم أكن كذلك، آسف لأنني رحلت عنك قبل أن أعلمك مهارة أن تعيشي لوحدك ولنفسك، آسف لأنني رميت بك في معركة تجهلينها.

أرجوك، اجعلي من نفسك شخصا آخر لم تكوني عليه قبل مغادرتي، كوني قوية أكثر، ولا تثقي في أحد من بعدي، حتى أنا تركتك فماذا سيفعل غيري؟ إياكِ والثقة العمياء، فإنها سترفعك عاليا بين الغيوم ومن ثم ستسقطك على قلبك، فتجنبا لوقعة كهذه احذري فالسقوط على القلب مؤلم دائما.

صغيرتي، اضحكي على دموعك وأنتِ تذرفينها كي لا تغلبكِ، وكوني خفيفة الحركة رغم الأثقال التي تحملينها، كوني صلبة صعبة المنال، فالحياة دنيا تدنئ بالضعفاء أكثر من غيرهم، فلا تكوني ضعيفة من أجلكِ.