ونحن نستنشق عبير الرحمة المستفيضة في هذا الشهر الفضيل، شهر الخيرات والبركات والأنوار، لابد لنا من وقفة تأمل وتدبر لمعنى رحمة الله تعالى، لفضله الواسع وكرمه المطلق والدائم.
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (جعل الله الرحمة في مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) رواه البخاري.
ورواه مسلم بلفظ: “إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة”.
فالرحمة في حق الله تعالى هي رأفة وعطف يناسب جلاله وإحسانه وتقتضي إكرامه لخلقه بإنعامه. يقول تعالى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (الأعراف، 156).
يقول ابن الجوزي رحمه الله: “واكتب لنا” أي حقق لنا وأوجب لنا، “في هذه الدنيا حسنة” أي الأعمال الصالحة، “وفي الآخرة” المغفرة والجنة، “إنا هدنا إليك” أي تبنا إليك.
وقوله تعالى: “أصيب به من أشاء”، وقرأ البصري والأعمش وأبو العالية: من أساء.
“ورحمتي وسعت كل شيء” في هذا الكلام أربعة أقوال:
1- أن مخرجه عام ومعناه خاص، وتأويله: ورحمتي وسعت المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: فسأكتبها للذين يتقون، قاله ابن عباس.
2- أن هذه الرحمة على العموم في الدنيا والخصوص في الآخرة، وتأويلها: ورحمتي وسعت كل شيء في الدنيا؛ البر والفاجر، وفي الآخرة هي للمتقين خاصة، قاله الحسن وقتادة.
فعلى هذا معنى الرحمة في الدنيا للكافر أنه يرزق بالطعام والشراب وسائر النعم، ويدفع عنه السوء والأذى، ويتمتع بالصحة والعافية والذرية والصاحب.. كقوله تعالى في حق قارون: وأحسن كما أحسن الله إليك (القصص، 77).
3- أن المقصود بالرحمة هنا التوبة، فهي على العموم، كل كافر تاب، تاب الله عليه، وكل عاص تاب، تاب الله عليه، قاله ابن زيد.
4- أن الرحمة تسع كل الخلق، إلا أن أهل الكفر خارجون منها، فلو قدر دخولهم فيها لوسعتهم. قال ابن الأنباري، قال الزجاج: وسعت كل شيء في الدنيا.
“فسأكتبها للذين يتقون” أي فسأوجبها للمتقين، وفي الذين يتقون قولان:
– القول الأول أنهم المتقون للشرك، أي لا يشركون بالله شيئا ويعبدون الله وحده، يتوكلون عليه ويسألونه ولا يخافون غيره، قاله ابن عباس.
– القول الثاني: المتقون والمجتنبون للمعاصي، يأتمرون بأوامر الله وينتهون عن نواهيه، قاله قتادة.
“ويؤتون الزكاة” قال الجمهور زكاة الأموال، وقيل المراد طاعة الله ورسوله، قاله ابن عباس والحسن، أي العمل بما يزكي النفس ويطهرها.
وقال ابن عباس وقتادة: لما نزلت وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، طمع الشيطان لسعة رحمة الله، فنزعها الله منه فقال: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، فقالت اليهود: نحن نتقي ونوتي الزكاة، ونومن بآيات ربنا، فنزعها منهم، وجعلها لهذه الأمة فقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ.
فالحمد لله الذي جعلنا من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الأمة المرحومة التي تسعها رحمة الله في الدنيا والآخرة، فمن رحمته سبحانه أنه يمهلنا ويتوب على من تاب، ويعفو عنا، ويمنحنا فرصا ومحطات للتنقية والتزكية كهذا الشهر المبارك، ويتكرم علينا بالنعم العظيمة، وعلى رأسها أننا عباده وإماؤه. ثم الرحمة المهداة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ نعمة عظيمة أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، يقول تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء، 107). بالإضافة لنعمة الإيجاد في الدنيا والإمداد بالأرزاق المعنوية؛ كحبه تعالى وحب رسوله والإيمان والتوفيق للعبادة والعمل الصالح وغيرها، والمادية؛ كالمال والبنين والسمع والبصر والصحة والعافية والطعام.. وسائر نعم الله ورحمته التي لا تعد ولا تحصى.
فاللهم ارحمنا فوق الأرض، وارحمنا تحت الأرض، وارحمنا يوم العرض عليك. اللهم ارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك، يا رحمن يا رحيم. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين. والحمد لله رب العالمين.