ذ. قبيبش: “صلة الرحم” تُوثّق عرى المحبة في العائلة وتُمتِّن روابطها (حوار)

Cover Image for ذ. قبيبش: “صلة الرحم” تُوثّق عرى المحبة في العائلة وتُمتِّن روابطها (حوار)
نشر بتاريخ

أجرى موقع الجماعة نت حوارا مع الأستاذ حسن قبيبش عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان حول موضوع “صلة الرحم”، تطرق لأهمية هذه العبادة ومكانتها، ودورها المحوري في تمتين الروابط العائلية والاجتماعية، وبعض السبل المساعدة على تجاوز التقصير في صلة أرحامنا، وترتيبات من شأنها أن تجعل ثمرة التزاور والصلة يانعة. فإلى نص الحوار:

ما أهمية صلة الرحم في الإسلام؟ وما مكانتها؟

بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على رسول الله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين. بداية أشكر الساهرين على هذا الأمر، على جهدهم وجهادهم، وبارك الله لهم في جميع ما رزقهم. آمين.

إنّ أهمية صلة الرحم غير خافية على المؤمنين بكتاب الله وسنة رسوله. وأود أن أشكركم على إثارة هذا الموضوع، إذ ما يتهدد المسلمين في عقائدهم وسلوكهم هو اعتبار مثل هذه المواضيع غير ذات قيمة كبيرة، ولا لها الأولوية في عصر طغت فيه المادة، واستُعبد الإنسان فيه من طرف الآلة، حتى أصبح طوع يديها موجهة لسلوكه، مؤثرة على أخلاقه وأفكاره.

وإذا نظرنا إلى الأحاديث الواردة في موضوع صلة الرحم نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا، وقدم لنا صوراً في مشاهد عجيبة، عسى أن يعتبر معتبر، ويتذكر متذكر؛ “إن الله عز وجل لما خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقه”، كما ورد في الصحيحين، أن الله عز وجل أذن لصلة الرحم، بعدما خلق الخلق، بالكلام فقالت: “هذا مقام العائذ بك من القطيعة”، قال الله عز وجل: “نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟”، قالت: “بلى يا رب“، قال: “فهو لك”. يا سبحان الله، صلة الرحم تكلم الله عز وجل ويكلمها، ويُرضيها فترضى، أي شرف هذا؟ وأية مكانة.

وفي “صورة” أخرى مهيبة يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطني قطعه الله”. أضف إلى ذلك ما جاء في الأحاديث من ترغيب “الزيادة في العمر وتوسعة الرزق، البركة في الرزق…”. ثم أضف كذلك الترهيب من مغبة قطع الرحم “تعجيل العقوبة، الحرمان من الرحمة، عدم دخول الجنة…”. وكل ذلك في أحاديث كثيرة لم نوردها تجنبا للإطالة، ويكفي صلة الرحم أن الله عز وجل شق لها اسما من أسمائه، كل هذا وغيره يدل على مكانة صلة الرحم. جعلنا الله جميعا من الواصلين لأرحامهم.

جاء في الحديث “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ”، وكأن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم هنا يربط علاقات اجتماعية (صلة الرحم) بالبعد العقدي (الإيمان بالله واليوم الآخر). لماذا؟

لا شك أن الآثار الاجتماعية والنفسية لصلة الرحم كثيرة ومتنوعة، وقد وسّع الإمام القرطبي رحمه الله صلة الرحم وجعلها عامّة وخاصّة، يقصد بالعامة رحم الدين، والخاصة رحم الأقارب. ويمكن الحديث إن صحّ الأمر عن الرحم الانسانية، حيث جوّز العلماء صلة الكافر من الأقارب. والصلة غير الوَلاية، فهناك فرق بين الصلة والولاء.

وكل ذلك يتم بأصل ثابت ومؤطر وهو الإيمان بالله، والامتثال لما أمر به، حتى تكون النية صحيحة، والعمل خالصا لوجه الله، ويكون الإشفاق على الخلق والرأفة بهم من الدوافع الهامة لصلة الرحم. عسى الله أن يهدي بك عاصيا، أو تدعو مُدْبرا، أو تكون سببا لخير يسوقه الله عز وجل على يديك لمن تصله.

ما الدور الذي يلعبه التزاور العائلي في نسج علاقات عائلية واجتماعية متينة تعود على المجتمع بالحب والرحمة والتماسك؟

هي أدوار عديدة ومتنوعة؛ منها توثيق عرى المحبة في العائلة وتمتين روابطها، بل وحتى الحد من المشاكل والمشاحنات، والتدابر الذي يعتري أفراد العائلة الواحدة في كثير من الأحيان. وبكلمة واحدة حتى يسود الاستقرار النفسي والعاطفي، بل والاجتماعي في بعض الأحيان. وهذا بالطبع ينعكس على المجتمع، فأفراد متحابون متعاونون متزاورون لا يمكن إلا أن يكونوا، أو يشكلوا قيمة مضافة للمجتمع، الذي لا تنقصه انحرافات الأفراد وصراعات العائلة على الخصوص. ونحن نعرف حكايات ووقائع من صلب المجتمع، ما لا يمكن الإحاطة به والحديث عنه ولا التعرض له، ووسائل الإعلام على كل حال، حُبلى بمثل هذه المواضيع.

من المبررات التي يسوقها البعض لتبرير تقصيره في صلة الرحم، كثرة المشاغل وضغط الوقت وسرعة الحياة. هل تجدها مبررات معقولة ليُفوِّت المسلم على نفسه فضل صلة الرحم وأجرها؟

لقد تحدثنا سابقا عن أهمية صلة الرحم، ولم نتوسع في الوعيد الذي ورد في هذا الشأن. ويكفي أن نورد هنا حديثين فقط لبيان خطورة الأمر، ففي الحديث المتفق عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة قاطع رحم”، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: “إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس، ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم”.

إذا كان الأمر بهذه الصفة فلا بد للمسلم أن يجد وسط زحام المشاغل والمهمات وقتا لصلة الرحم، هذا دون إغفال أو إسقاط صعوبة الأمر في عصرنا هذا، الذي يلتهم الإنسان التهاما، وتستهلكه كثرة المشاغل. وقد سألنا الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله يوماً عن هذا الأمر فأرشدنا إلى تنويع أساليب صلة الرحم، منها المهاتفة يعني استعمال الهاتف، والهدية، وتقديم المساعدة… وقد جوّز العلماء في هذا العصر صلة الرحم عبر الهاتف، ومن شأن ذلك التخفيف دون التفريط، رحم الله الإمام المجدد. وقد اختصر بعض العلماء الأمر في قولهم: “ولو وصل بعض الصلة، ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعاً، ولو قصّر عما يقدر عليه وينبغي له لا يسمى واصلاً”.

كيف يصبح التزاور المناسباتي في الأعياد والمناسبات سلوكا تربويا ودعويا مستمرا في حياتنا؟

يصبح ذلك سلوكا تربويا ودعويا إذا وعت القلوب وأدركت العقول أن صلة الرحم من الدين، وأنه أمر به الله عز وجل، وأوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدّد على ذلك. ولن يجد المرء مناسبة ولا وقتا أفضل ولا أحسن من المناسبات والأعياد. وفي ذلك حفاظ على عادات وأخلاق يراد لها أن تندرس وتضعف في مجتمعاتنا الإسلامية. فلنكن على حذر.

ما الخطوات العملية التي يمكن الاعتماد عليها لتحويل نية ورغبة صلة الأرحام إلى فعل وعمل؟

الخطوات التي ينبغي أن يباشرها المسلم المؤمن بالرسالة المحمدية، والمدرك لحقيقة الأمور هو المبادرة، وأقصد بذلك أن جلّ العلاقات العائلية يعتريها الفتور والبرودة مع مرور الوقت، حتى يصبح عدم التواصل أمرا واقعاً. وهنا يأتي دور المؤمن المبادر لجمع أفراد العائلة واقتراح صيغة للتزاور وصلة الرحم وربط الجسور وإعادة إحيائها. بكلمة واحدة ينبغي أن يكون المؤمن ذلك المحفز والمذكّر، إذ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين. ولن يجد إن شاء الله إلا الاستجابة والترحيب، بل والشكر على المبادرة.

هل من ترتيبات قبلية يمكنها أن تساعد على أن تكون للزيارة وصلة الرحم آثارا طيبة محمودة في نفوس الزائرين والمزورين؟

إذا كان من ترتيبات فالنية أوّلا، إذ كلما صفت النية، بارك الله في العمل، ثم الدعاء لتيسير الأمر وإنجاحه، أضف إلى ذلك بعض الترتيبات المادية حسب إمكانيات الزائرين والمزورين، وإعطاء المثال من النفس، في اعتقادي هو أولى العناصر التي تشجع الآخرين على الاقتداء والبذل والانخراط. فالناس لا تحتاج إلى الوعاظ، وإن كان أمرهم ضروريا، ولا إلى الكلام الكثير، فالناس في عصرنا تحتاج إلى المثال، ومن يعطي القدوة من نفسه. نسأل الله أن يوفقنا لذلك.

من خلال تجربتك في الحياة، لا شك وقفتَ على نماذج مشرقة وملهمة في زيارة الرحم وصلتها، هلا اقتسمتها مع القراء تذكيرا وتحفيزا؟

إن أشرف النماذج وأكثرها إشراقا وإلهاما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يذكر أمنا خديجة رضي الله عنها، وكيف كان يصل معارفها بعد موتها. لَعَمْري إن هذا هو الوفاء، وهذه هي الصلة في أبهى صورها، كان صلى الله وسلم إذا أوتي بشيء يقول: “اذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانة فإنها كانت تحب خديجة”. صلى الله عليك يا رسول الله يا منبع الرحمة والوفاء والوصل.

وإن كان ولا بد من ذكر أمثلة أخرى فأذكر أحد الأقارب رحمه الله عز وجل، كان من أفقر الناس في العائلة، لكنه كان هو الوصول للرحم بامتياز، أذكر وقد كنت صغير السن أنه لم يفوت فرصة من فرص الأعياد ولا المناسبات إلا وزار فيها أقاربه، خاصة أخواته، وكان يأتي لكل منهن بهدية حسب ما تيسر له، وبقي على هذه الحال رغم أن أفراد عائلته لم يكونوا يبادلونه الزيارة إلا قليلا، حتى أقعده المرض، ولم يعد قادرا على الحركة، حتى توفاه الله.

قال الشاعر:

ولا يستوي في الحكم عبدان، واصل.. وعبد لأرحام القرابة قاطع

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الواصلين لأرحامهم، وأسأل الله عز وجل أن يبارك وييسر إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله.